|
عرار:
إبراهيم غرايبة الأرض المنخفضة (رواية) تأليف جومبا لاهيري، ترجمة يارا البرازي، تونس: دار مسكلياني للنشر والتوزيع تعرض الرواية قصة ثورة الشيوعيين الماويين في كلكتا في الهند عام 1967 والتي استمرت عدة سنوات، ثم ظلت تداعياتها الثقيلة تؤثر بعمق في حياة ومصائر الناس حتى اليوم، والمؤلفة هي جومبا لاهيري، روائية أمريكية من أصل هندي، نشرت مجموعة من الروايات والقصص، وحصلت على جوائز أدبية رفيعة المستوى، مثل بوليتسر، وترجمت رواياتها إلى عشرات اللغات، وحولت رواية «السمي» إلى فيلم بعنوان غوغول. قتلت الحكومة (اليسارية) في ولاية البنغال الهندية (كلكتا) معارضيها الماركسيين بلا رحمة ولا محاكمة. وتركت جثثهم ملقاة في كل مكان. ولم تسمح بدفنها او حرقها. وفي المقابل فقد قتل الثوار وأحرقوا خصومهم وأعوانهم البريئين. ومازالت أحداث الثورة وتداعياتها تعمل أو تترك جروحا غائرة في نفوس الناس وارواحهم ما زالت تنزف حتى اليوم. تدور الرواية حول قصة ساباش وأوديان؛ أخوين ولدا في منتصف الأربعينات في مدينة كلكتا الهندية البنغالية في أسرة من أدنى الطبقة الوسطى، وتفوقا في دراستهما وأتما دراستهما الجامعية في العلوم في كلكتا، وقد انخرط أوديان في الحزب الشيوعي الماوي (المؤيد للصين) في حين انشغل ساباش بتكوين ذاته علميا، وحصل على منحة لإتمام دراسته في الولايات المتحدة. تصف لاهيري شخصية الأخوين بالقول «كان أوديان هو الصبي الجسور، لم يكن يملك أي حس لحدود كيانه، كحيوان فاقد تماما للتمييز بين الألوان، وأما ساباش فقد كان يبذل ما في وسعه للاختفاء عن عيون الآخرين، كالحشرات التي تتماهى مع محيطها، وتختفي بتغيير لونها حسب الشجرة أو النبتة التي تقف عليها هربا من الأعداء» وعندما حفر الطفل أوديان خطواته في الصبة الإسمنتية على أرض البيت نصح العامل والديه بأن يدعا الوضع كما هو، وقال: من الخطأ إزالة آثار أقدام طفل عن الأرض. هكذا تحولت آثار قدمه إلى علامة فارقة للمنزل! أدار الشيوعيون الماويون بقيادة ماجومدار وسانيال ثورة للفلاحين ضد الإقطاع والظلم في غرب البنغال، سميت الثورة الناكسالية، كان ماجومدار ابنا لمحامي من أسرة إقطاعية وأما تلميذه سانيال فقد كان راهبا براهميا، ومازالت بقايا الثورة التي امتدت في المدن والقرى والجبال قائمة حتى اليوم، مات ماجومدار تحت التعذيب عام 1972، وظل سانيال معتقلا حتى عام 1977 لكنه واصل تمرده وغضبه، وهدّه المرض وتقدم السن، ورفض أن يتلقى العلاج في مستشفيات الحكومة؛ حتى توفي (منتحرا) عام 2010 وعمره ثمانية وسبعون عاما، وأما أوديان فقد اعتقل عام 1971 وأعدم ميدانيا في ساحة منزله أمام أسرته وجيرانه وزوجته الشابة غاوري، وهي زميلته في الحزب والجامعة، وكانت عند مقتل زوجها حاملا. عاد ساباش من الولايات المتحدة عندما علم بمقتل أخيه، وبقى مع أسرته بضعة أسابيع، وتزوج من أرملة أخيه، التي لحقت به وأنجبت ابنتها بيلا في رود آيلند. ظلت غاوري حزينة مكتئبة، ولم تستطع أن تعيش مع زوجها ساباش وابنتها، وكانت منفصلة عنهما حتى وهي تعيش معهما إلى أن تركتهما نهائيا بعد ست أو سبع سنوات، كان ساباش وبيلا في زيارة طويلة إلى الهند وعندما عادا إلى بيتهما في رود آيلند وجدا البيت مهجورا، تركت غاوري رسالة بالبنغالية تقول إنها انتقلت للعمل والعيش في كاليفورنيا. وقد أدخلت هذه التجربة بيلا في حالة صدمة عميقة. مضت بيلا في حياتها كما لو أنها تستحضر جينات أبيها أوديان، عملت في الزراعة العضوية وتدريب العمال والفقراء، وتسويق منتجاتها بوسائل أولية، وبرغم محبتها العميقة لساباش فقد ظلت وحيدة متنقلة تفاجئه بين الحين والآخر بزيارة، ثم تعود لتعيش في المزارع والحقول، لكنها بعد الثلاثين انجبت ابنة اسماها والدها ساباش فيغنا تيمنا بأحد الانهار البنغالية، وعاشت في بيت العائلة في رود آيلند. إن مقتل أوديان في بداية القصة يجعلها تنعطف باتجاه بعيد، وكأنها رواية أخرى جديدة. هزمت الثورة وقتل الثوار أو اعتقلوا أو اعتصموا في المناطق البعيدة المعزولة، ثم تأخذ الهزيمة اتجاها آخر كئيبا لكنه يؤثر في النفس البشرية عميقا وإلى الأبد. تتحول الأحداث سرديا بعدما كانت عاصفة مثل الثورة نفسها راكدة مثل الهزيمة. ينكفئ الثوار إلى العزلة والنسيان، ويصحو القاعدون أو غير المشاركين وخاصة القريبين من الثوار، يحاولون أن يرمموا أو يستدركوا في شعور عيق بالذنب. تمضي عقود أربعة بعد الثورة، يعيش ساباش وحيدا برغم مجبته الكبيرة لزوجته وابنته، لكنهما تتركانه، وتمضيان كل واحدة في سبيلهما. هكذا من غير سبب سوى الشعور بالضياع وعمق المرارة والهزيمة. حين تعود غوري بعد أربعين سنة؛ ربما بتأثير خبر وفاة سانيال أحد قادة الثورة منتحرا عن عمر يناهز الثمنين عاما بعد أربعين سنة من التخفي والعزلة والتمرد الصامت. ربما تكون المؤلفة قد بدأت بتأليف الرواية عند وفاة سانيال. ربما تكون البداية الحقيقية بموته. تنتهي من قراءة خمسمئة صفحة، لكن الرواية تظل مفتوحة بلا نهاية، ولا أمل أيضا، كما الحياة نفسها، ما حياتنا سوى رواية طويلة مليئة بالسرد الكئيب والانسحاب والرفض والعزلة والشعور بالذنب وعدم الرضا عن مسارنا العلمي والمهني والثوري. ليست الحياة سوى أن نعيش، أو ألا نموت. لكن أيضا؛ الثورات لا تنتهي ولا تتوقف حتى عندما تهزم. إنها تتوالى وتتداعى في تشكلات ومشاعر واتجاهات معقدة وغير متوقعة. ما من ثورة توقفت في نتائجها وتداعياتها عند انتصارها أو هزيمتها. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الثلاثاء 22-10-2024 07:54 مساء
الزوار: 47 التعليقات: 0
|