|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
«امرأةُ الوقتِ» لمها العتوم جدل الشِّعر والموت والحياة
عاشقة
الصحراء :
مهدي نصير عندما قرأتُ ديوان «امرأة الوقت» لمها العتوم لأولِ مرَّة كتبتُ وقتها: في ديوان «امرأةُ الوقت» للشاعرة المبدعة والدكتور مها العتوم والصادر عن دار التكوين للنشر والتوزيع باشراف الشاعر الكبير أدونيس عام 2024 والذي ما زلتُ أقرأ فيه بمتعةٍ شعريةٍ عاليةٍ، المجموعة كلها يمكن قراءتُها كدفقاتٍ من قصيدةٍ واحدةٍ وبإيقاعٍ تفعيليٍّ (المتقارب) صارمة وتستند للتدوير بشكلٍ واضح باستثناء عدد قليل من القصائد ذات الإيقاع المختلف والتي يدخل بعضُها قصداً لعالم قصيدة النثر العالية «زيتونتان» نموذجاً، تكاد الكلمات تختفي وتنصهر ليظهر مكانها موسيقى عميقةٌ تحمل روح الكلمات لا الكلمات ذاتها، وتسيطر ثيمة الموت بكلِّ أشكاله وأوجهه الحميمة والقاسية والقريبة البعيدة ويظهر هادس ملك الجحيم وتظهر سيلفيا بلاث وتظهر مها العتوم التي تُصرُّ على إدخال هذا الموت ضمن إطاره كوجهٍ آخر جدليٍّ للحياة وتُصرُّ ان تعود وتنتصر نصراً جدلياً على الموت: كونشرتو الحياة عندما تستوعب أن الموتَ لاعبٌ جميلٌ من لاعبي حياتنا وأنه الكلب المدلَّل الواقفُ بالوصيد: ابارك للمبدعة الدكتورة هذا الإصدار الذي تجاوزت به بقصيدتها المتشعبة كشجرة الحياة والموت كثيراً مما كتبت قبل هذا الكونشرتو المحلق نقرا هذا المقطع القصير جداً من هذا العمل الشعري العالي من قصيدة «امرأة الوقت» ص 47: «أنا امرأةُ الوقتِ زوجةُ هاديسَ بدَّلتُ جِلدي لأعرفَ نفسي وأنشبتُ نابيَّ في جِلدِ تلكَ الحياة» عندما عدتُ بعدَ أيامٍ قليلةٍ وقرأتُ هذه القصائد من نسخةٍ ورقيةٍ شعرتُ باني أقرأ هذه القصائد لأولِ مرَّة وأنها ما زالت مليئةً بفِخاخِ الشاعرة الماهرة القادرةِ على إدهاشنا كلَّما قرأنا هذه القصائد المتقنةَ السبك والمتقنةَ اللغة والمتقنةَ الإيقاع، وسأقرؤها معكم من جديد عبر الملاحظات التالية: أولاً: تتكوَّن هذه المجموعة من إضاءةٍ قصيرةٍ وحوارين غير قصيرين مع الشِّعر والموت يُفضيان إلى حواراتٍ مفتوحةٍ مع الحياة، جاءت الإضاءة مفصولةً ولكنها تشكِّل مكوِّناً من مكوِّنات الحوار غير القصير مع الشِّعر وربما كانت هذه الإضاءة خلاصةً متقدَّمةً لهذا الحوار: «إضاءة في الشعرِ لا أتراجعُ أو أتقدَّمُ لا أتكلَّمُ ... أصغي وحسب.» ص7 الشِّعرُ متعدِّدٌ والموتُ واحد لذلك كانت الحوارات غير القصيرة مع الشعر تتكوَّن من ستِّ قصائد تُشكِّلُ الشِّعر كتميمةٍ ضدَّ الموتِ حيناً وتميمةً لأنسنةِ الموتِ حيناً آخرَ وتميمةً من أجل أن نستطيع أن نقاوم هذا العبث المتسربل في خلايا الأشياء، نقرأ من هذه التمائم من قصيدة «ما تركته القصيدة» ص15: «تركتُ لها النصفَ من كلِّ شيءٍ من امرأتينِ عُصابيتينِ تقاسمتا الخوفَ مما تؤولُ إليه الشراكةُ في الموتِ حينَ تصيرانِ واحدةً تتمدَّدُ كالعنكبوتِ على صورتي» وتواصل هذا الاعتراف للقصيدة كتميمةٍ ضد الضعف والموتِ: «والحقيقةُ أني تركتُ لها كلَّ شيءٍ لتتركَني لتُصدِّقَ أني أغني الأغاني القصيرةَ تلكَ لنفسي وللحبِّ والعاشقاتِ كــ»سيلفيا بلاث» الشِّعر في هذه الحوارات هو الخلاص وهو الملاذ وهو المُخلِّصُ وكأن مها العتوم تريد أن تقول في هذه المقدمة أن الشِّعرَ هو الذي أنقذها في صراعها مع الموت والذي تجسَّد عميقاً وقاسياً في الحوارية الثانية من هذا الديوان «حوار غير قصير مع الموت» نقرأ هذا المقطع من قصيدة وجعُ الفراغ ص23: «القصيدةُ ركنٌ صغيرٌ لعاشقةٍ تذرعُ الليلَ حافيةً في انتظارِ الذي لا يجيءُ وتشربُ قهوتها وحدَها» إيقاعياً هذا الحوار غير القصير مع الشعر كان تفعيلياً (فعولن صارمة) هادئاً منضبطاً مُتَّسِقاً مع البحث عن تميمةٍ – في استعادةٍ وثنيةٍ لتمائم اللغة في الموروثات الانسانية العتيقة – فاعلةٍ وقادرة. ثانياً: في الحوار الثاني في هذه المجموعة « حوار غير قصير مع الموت « والذي يشكِّلُ قصيدةً واحدةً من ثمانِ مقاطع وهذا يُعيدنا للمقولة السابقة التي تأسَّست عليها هاتان الحواريتان : الشعرُ متعدِّدٌ والموتُ واحدٌ، لذلك كانت هذه الحوارية مع الموت قصيدةً واحدةً بمقاطعَ أو بمواقفَ أو بصورٍ أو بوجهاتِ نظرٍ تتقاطع وتفترق ولكنها تؤشِّر لشيءٍ خالدٍ اسمه الموتُ، في هذه الحوارية القاسية إيقاعٌ تفعيليٌ واحد (فعولن مدوَّرة تكون صارمةً أحياناً ورقيقةً أحياناً أخرى)، وفيها أيضاً قافيةٌ بعيدةٌ متكرِّرةٌ من المقطع الأول للمقطع الأخير وبذكاءٍ مخاتلٍ حاول أن يُخفي هذا الخط والخيط الواصل دون انقطاعٍ من بدءِ هذا الحوار إلى نهايته، كذلك كانت اللازمة الإيقاعية المتكرِّرة والتي حملت روح التحدي والمقاومة لهذا الموت الواقف لنا دائماً بالوصيد، كانت القافية كما يلي: (تستبدّْ، جَدّْ، حَدّْ، بعدْ، غدْ، «وردْ « حدّْ، «وردْ «، سردْ، رَدْ، مَدّْ، بردْ، «وردْ»، بُدْ، خدّْ) توزَّعت هذه القوافي عبر المقاطع الثمانية المكوِّنة لهذا الحوار، وتكرَّرت كذلك اللازمة الإيقاعية والتميمة اللغوية التي بثَّت في هذه الحوارية روحاً شِعريةً عالية، نقرأ هذه التميمة ص34 وص40 وص43 وص45 وص47: «لذلكَ عدتُ من الموتِ عدتُ من الموتِ عدتُ « ص34 وأيضاً نقرأ: «ومن أجلِ هذي القصيدةِ عدتُ ومن أجلِ «وردْ».» ص40 كانت هذه القصيدة الحوارية منضبطةً إيقاعياً ولغوياً وقافيةً والتي كانت تتكرَّر على مسافاتٍ متباعدة وغيرِ ثابتةٍ مما أعطى لهذه القصيدة المتشعبة خيوطاً خفيةً وذكيةً لربطِ أجزاء هذه القصيدة معاً . ملاحظةٌ أخيرةٌ على هذه الحوارية الثانية تتعلق بخطأينِ لغويين أولهما ص44 إذ نقرأ: «وعدتُ أتابعُ أعماليَ المنزليَّةَ من حيثُ كنتُ توقفتُ كنتُ أدندنُ لحناً كذلكَ كانت لديَّ قصائدُ ناقصةٌ وأشياءُ أخرى أراكمُها عدتُ أكملَها (أكملُها) رغمَ موتي» وثانيهما ص 50: «سأرسمُ خطِّينِ يعبرُ بينهما العمرُ كالنهرِ خيط رفيع (خيطاً رفيعاً) من الماءِ أجمعُ فيهِ الحصى». ثالثاً: في القسم الثالث والأخير من هذه المجموعة والذي حمل عنواناً فرعياً «حوارات مفتوحة مع الحياة» والذي تكوَّن من ستٍّ وعشرين قصيدةً احتلَّت أكثر من نصف مساحة المجموعة وتنوَّعت في مواضيعها من الومضة والإضاءة والحادثة والقصة والمفارقة والحنين للناس والأشياء والأماكن والمشهد والصورة و...، وكانت هذه القصائد بلغتها العالية وإيقاعاتها المتنوعة كأنها مركَّبُ الصراع ومحصِّلتُه في الجدل العميق بين الشِّعر والموت، بين التمرد والانضباط، بين الخوف والقوَّة، بين المرأة الشاعرة والمرأة الأم والمرأة العاملة والمرأة الفلاحة المنتمية لريف جرش وسوف في جذورها، والمنتمية لكلِّ أشكال حياةِ المرأة المثقفة والعاملة في مجتمعنا . تنوَّع إيقاع القصائد في هذه الحوارات المفتوحة، فكثيرٌ منها بقيَ متابعاً لخيط التفعيلة (فعولن) التي شكَّلت إيقاع حواريْ الشعر والموت وشكَّلت امتداداً لقلقهما الدائم، نقرأ من قصيدة أرقٌ باختصار ص60: «لا أريدُ سوى لذَّةِ الخطفِ والسَّريانِ إلى نفقٍ معتمٍ في الزقاقِ المؤدي إلى الموتِ من دونِ موت.» ولاكتمال المشهد – مشهد صراع الشِّعر والموت في هذه المجموعة الشعرية التي تغرف فيها مها العتوم من ينابيع الشعر العميقة وتحاور فيها مكوِّنات الحياة اليومية والشعرية البسيطة والمعقَّدة في آنٍ واحد - هناك تنويعٌ في هذه الحوارات المركَّبة من حيث الإيقاع أولاً ومن حيث المناخات واللغة ثانياً ومن حيث التأسيس العفوي للتمرد على الشِّعر والموتِ معاً – سنقرأ قصيدتين على تفعيلتين مختلفتين عن التفعيلة (فعولن الصارمة) التي أسَّس فيها الشعرُ والموت حواريهما : (متفاعلن لقصيدة سيكلوبا) و(فاعلن لقصيدة غربة ليل)، ومع ذلك بقيت التفعيلة التي يتحاور فيها الشعر والموت سائدةً وسيِّدةً في هذا الجزء الثالث من هذه المجموعة، من قصيدة سيكلوبا ص70 نقرأ: «خضراءُ من مطرٍ تقومُ قيامتي وكأنني لا أعتني بالموتِ وامرأةٍ (تحاول الاحتفالَ بعيدِ مولدها) (تُريدُ) على مرمى قصيدةْ» ونلاحظ الكسر العروضي في السطر قبل الأخير أعلاه واقتراح لتصحيحه. في هذه الحوارات المفتوحة على الحياة لا تكتفي مها العتوم بتنويع التفاعيل ولكنها تقفز بجرأةٍ نحو مناخاتٍ أعلى باتجاه التمرد على التفعيلات ذاتِها وكلِّها في محاولةٍ واعيةٍ للبحث عن إيقاعٍ أعمق وإيقاعٍ خفيٍّ تُشكِّله اللغةُ كزهرةٍ تولدُ وتموتُ في حركة النصِّ ومناخاتِه المتحركة مع كلِّ قراءةٍ مختلفةٍ وجديدة، سنقرأ في هذه الحوارات المفتوحة مع الحياة قصائدَ تبحث عن إيقاعها بعيداً عن الإيقاعات الجاهزة الجميلة حيناً والرتيبة أحياناً والعجوز حيناً والصبية الجميلة اليانعة أحياناً والمتسامحة حيناً والمستبدة في معظم الأحيان، هنا تخرج الشاعرة المتمرسة بالشعر واللغة وبعد مخاضٍ طويلٍ مضنٍ مع الشعر وينابيعه وفلسفته وتمائمه وأسراره وبعد تجربةٍ عميقةٍ مع الموتِ ومكائده وحميميته كصنوٍ ماهرٍ للشعر وكمعلِّمٍ له ليجعل من الموتِ لشكلٍ قديمٍ ميلاداً لأشكالٍ جديدةٍ غضَّةٍ وخائفةٍ ولكنها قادرةٌ على مجابهة الحياة والحضور، نقرأ هذا التمرد في ستِّ قصائدَ من الحواريات المفتوحة مع الحياة لا تأخذ إيقاع التفعيلة كأساسٍ وحيدٍ لها وإن بقيت ظِلالُ تفاعيلَ بعيدةٍ تحاول أن تُطلَّ مكسورةً بين سطرٍ وآخر، نقرأ ذلك في قصائد: (زيتونتان، ذلك الضوء، أختي الشجرة، ذلك الخاتم، صباح الأحد، غموض)، من قصيدة أختي الشجرة ص100 نقرأ هذه اللغة التي تمتزج بها أصواتُ اللغة وتشكِّل تفاعيل نعرفها ثمَّ تنكثها ثُمَّ تُشكِّلها في جدليةٍ تتمرد حيناً وتخضع حيناً وتؤلف في هذا التمرد والخضوع شكلاً وإيقاعاً خاصين: «أنا يابسةٌ مثلُ بلوطةٍ هرمةٍ وهي كأيِّ فتاةٍ جميلةٍ تتغاوى بنوَّارها. وحدي بأشوكي القصيرةِ أتمدَّدُ في الفراغِ وأوجعُ من يلمسني وأوجعني.» مها العتوم في هذه المجموعة شاعرةٌ تتحرَّكُ بحذرٍ شديدٍ وتغوص عميقاً نحوَ الينابيعِ العذبةِ للشِّعر وتغرفُ لنا بيديها بعضاً من هذا الماء العذب تُمرِّره عبر طين اللغة فيُشكِّله معها ليأخذَ شيئاً من الماء العميق وشيئاً من بقايا رِبَّة اللغة المتخثِّرةِ في جدليةٍ تُتقنُها وتَعيها. جريدة البدستور الاردنية
الكاتب:
سكرتيرة التحرير مريم حمدان بتاريخ: الجمعة 02-08-2024 11:54 مساء الزوار: 84
التعليقات: 0
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
الشاعرة مها العتوم تـشـرب مـن النـبــع ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 11-10-2020 |
قراءة في قصيدة ياامرأة ساحرة للشاعر موسى ... | النقد والتحليل الادبي | إدارة النشر والتحرير | 0 | السبت 31-08-2019 |
قراءة واستعراض في أشعار الشاعرة ... | النقد والتحليل الادبي | اسرة التحرير | 0 | الثلاثاء 26-08-2014 |