|
|
||
|
دراسة نقديّة للمجموعة القصصيّة "التّيه" للأديب التّونسي حسن سالمي بقلم شكري مسعي
دراسة نقديّة للمجموعة القصصيّة "التّيه" للأديب التّونسي حسن سالمي بقلم الكاتب و النّاقد التّونسي شكري مسعي الجزء الثاني / العوالم الحيّة في التّيه: تقودنا نصوص حسن سالمي القصصيّة إلى عوالم زاخرة بالحركة والحيويّة، فهو يكتب عمّا يعرف، ولا يختلق حكايات لم يشهدها ، ولا يستعير شخصيّات من المخيّلة ، لأنّه ابن الحياة المترعة بالمفارقات العجيبة ، لذلك يمكنك بسهولة أن تعثر على مفاتيح تلك العوالم خاصّة وأنّه يُحسن تجسيدها ، فتراها أمامك شاخصة ، تائهة تهذي.. يقول الكاتب في قصّة العنكبوت ص 64: " كان يشعر أنّه يمشي على الجمر ، وأنّ الطريق التي يسلكها إلى بيته تقع في أرض مسحورة ، يحسب الماشي فيها يتحرّك قُدُما وهو ثابت في مكانه كالوتد .." ( 12) .. أو متورّطة في عذاب سحيق يقول الكاتب في قصّة الموءودة ص 56 -وهو يصف البطلة التي تعاني الشقاء والمعاناة -: "عضّني الجوع وبنيّ في البداية ، والمشؤوم زوجي لا يحرّك ساكنا .. ينام حتّى فزات الزوال ، ثمّ يخرج فلا يعود إلا آخر اللّيل ، سكرانا مترنّحا لا يمسك طوله .. يطلب عشاءه فلمّا لا يجده يجلدني ويضربني حتّى تنزّ الدّماء من جلدي.." (13) ، أومتوجّعة صارخة بصمت صاخب :ص57" عملت في البيوت زمنا غير أنّ لوثة الرّجال – قطع الله الرّجال – ضيّقتْ عليّ سبل الرّزق ، وجعلتني أمام مقايضة قبيحة ..إمّا الرّغيف ، وإمّا أن أبيع لحمي " ( 14 ) . هي عوالم تُظهر لنا بجلاء مأزق الوجود الانساني ، وحيرة المرء إزاء قوى ضاغطة تحاول أن تسـلبه السّعادة ، أو تشوّش عليه فكره .. يقول الكاتب في قصّة قبض الرّيح ص 92 يصف واقع الاعتقال في سجون السّلطة الطّاغية : " كان وزيرا للدّاخليّة ..بل كان وزيرا للعذاب والتّنكيل .. في عهده وأنا الذي قضى نصف عمره في سجون الوطن، كانت أفكار التّعذيب تتوالد وتتناسل كأبناء الشّياطين ..كان يشهد تعذيب الخلق بنفسه .." ( 15 ) ، وفي أغلب الأحيان يرصد لنا القاصّ الواقعة دون أن يعلّق عليها ، فهو يكتفي بأن يزيح عنها غبار الزّمن كي نشاهد بأعيننا الأحداث كما جرت بالضّبط كما في قصة " حكاية منبر " حين كشف الكاتب عن وضع منبثق من واقع مأزوم عاشته البلاد بعد الثّورة ..إنّه واقع المساجد التي أصبحت حلبة للصّراع و الفِتَنِ .. حين يدخل جماعة من المسلّحين بالهراوات والسلاسل والآلات الحادّة ليُنزلوا الإمام من منبره وينصّبوا إماما آخر على هواهم ..: ص (116)" ... فجـأة انفتح باب جانبي في المسجد ، دلف منه رجال أشدّاء في أيـديهم الـهراوات ، يُرى في وجوهـهم البأس و القـوّة .. فقال أشـدّهم ، وكان رجلا طـِوالا، كـثّ اللّحية ، عريضا ما بين منكبيـه ، عليـه ثوبان من بلاد الخليج ، قميص أبيض وبرد خمريّ .. - أنت ..انزل ..سوّد الله وجهك .. لا يجلس على هذا المنبر إلاّ تقيّ .." ( 16 ) . والمتابع لهذا النصّ يلمح إدانة خفيّة لسلطة التطرّف الدّيني في مجتمع يحاول أن يكون معتدلا ، وقد أجاد الكاتب رصد اللّحظات الرّجراجة التي تشظّت مع فعل الخرق لكلّ الأصول الدينيّة ولبيت الله ، أمّا في قصّة العنقاء فإنّ القاصّ حسن سالمي تميّز -باقتدار -في رصد عالم الذات التي تعيش صراعا مع جزء له صلة بالوجه ..إنّه اللّحية التي تصبح كابوسا يطارد الشخصيّة ويؤرّقها ولا يكشف القاصّ عن سرّها إلا بعد الوصول إلى نهاية الأقصوصة في محاولة للمناورة واللّعب بانتظار القارئ وتشويقه وشدّه إلى مواصلة القراءة ..عندما يتحدّث السّارد عنها ويرسم تعاريج علاقته بها يتفنّن في عرض حضورها ويبني لها عرشا من السّطوة والنّفوذ ويمنحها بصمة وهويّة فريدتيْن يقول في أقصوصة العنقاء ص(60): " ... تظلّ ملتصقة بي، لا تفارقني ولا تغادرني .. أطردها في الصّباح فتعود في المساء ..أنتف شعرها ، لكنّها تظلّ على ودّها وإخلاصها ..لا تنتقل إلى غيري ولا تبدّلني .. " (17) وفي ص (62) يقول : " قلت ساخرا : - سيّدتي ..آن أن تزولي من حياتي . خيّل إليّ أنّها امتلأت رهبا وهي تقول : - أأهون عليك؟ - بعد الذي رأيت من أصحاب بنات جنسك، فـأنت شبهة.." ( 18 ) . هنا تظهر قدرة الكاتب على الاستثمار الفنّي، للدّلالات الرمزيّة للّحية التي يفكّ النصّ رمزيّتها، تتضافر مع المحدّدات القيميّة للشخصيّة الوهميّة المفترضة لإثراء المضمون النصّي الحدثي . ومن العوالم الحيّة أيضا – وهي كثيرة – عالم المرأة الضحيّة التي تنفق من جسدها وأعصابها وروحها وحريّتها لتكون ضحيّة في أكثر من مناسبة ، في أقصوصة ( الموءودة ) المرأة هنا مستباحة من الرّجل أبا عندما زوّجها بعربيد سكّير مثله ص (54)" : " قطع الله أبي .. زجّ بي في زيجة لو خيّرت بينها وبين الجحيم لاخترت الثاني ..قطعني عودا من دوحته ، ورمى بي في جحر الثعبان (زوجي) ..كان من خلصائه وخلانه .." (18) ، وزوجا فاسدا عديم الرجاء والفائدة لا يطاق ، يقول الكاتب في الصّفحة(55) من المجموعة " زوجي ، رجل شديد الأدمة كخشبة محروقة، دميم الخلقة..نحيف مثل الرّمح ..طويل كسارية ..شديدة رائحة عرقه ..اختلط لحمه و عظمه بماء الكسل و الخمول ، فلا يضرب في الأرض إلا قليلا .." ( 19 ) . هي عوالم فاضحة كاشفة حينا ساخرة مندّدة أحيانا أخرى ، ومخاتلة في كثير من المناسبات السرديّة .. والقارئ للنّضيدة (وجهان) بالصفحة (49) يلمس بوضوح قدرة الكاتب على توصيف النّفاق الشّعبي والتّواطؤ الحقير الذي يسلكه كثير من النّاس في تعاملهم مع السّلطة وتحديدا مع رمز السّلطة إذ بعد تمرّد و"ثورة " متكَلّفة ينخرط عامّة الشّعب في تمجيد الرّمز والتصفيق له ، وينقلب التمرّد مبايعة وتمسّحا وتزلّفا .. و هذا حال عديد الشعوب العربيّة التي تربّت على تقبيل اليد التي تصفع .. " قال السيّد اكس بصوت خفيض :" إذا اختلط الحابل بالنابل حرّضوا النّاس على رشق الشّرطة بالحجارة ، فإنّه إذا تزعزع كرسيّ السّلطان كان في أيدينا .."( 20 ) ..خطب السيّد اكس : " إنّا ندين العنف بكلّ أشكاله وألوانه .." (21) ، هكذا نجح القاصّ التّونسي حسن سالمي – باقتدار – في رسم ملامح الحياة ومنعرجاتها وأغوارها ونقل لنا الصّور المعيشة في لوحات نابضة بريشة الكاتب الفنّان على أنّه من المهمّ التصريح أنّ بعض النّصوص القصيرة – وإن جاءت منسوجة بخيوط التّكثيف وأثارت في أذهاننا الدّهشة – فإنّها احتاجت إلى شيء من العمق والغوص أكثر في تجاويف الواقع ..
بعض تقنيات السّرد في التّيه : * التكثيف والإدهــاش وبناء العبارة : التّكثيف مظهر من مظاهر النظم والصّياغة، يتحقّق عندما ينجح المؤلّف في التعامل مع اللّغة وتطويع مفرداتها وعلاقاتها بمهارة تؤدّي إلى إنتاج عبارة لها مظهر الجملة الواحدة وسلاستها وانسيابيّتها، ولكنّها في حقيقة الأمر تحمل خلاصاتِ جمل عدّة. إنّها تشبه الضّفيرة أو الحبل المحبوك من حبال أصغر منه وأرقّ وذات ألوان مختلفة، ثمّ أصبحت بتأثير مهارة الصّانع جسداً واحداً يختلف في متانته و صلابته ، وهومن أهمّ العناصر التي اتّفق عليها كلّ النّقاد والكتّاب, رغم الاختلاف في درجات التـّكثيف وهو الإشكال الذي ولـد من إشكاليّة أخرى وهي تحديد سقف حجم القصّة القصيرة جداً، رغم ذلك لعلّ الكثير من الكتـّاب لا يستطيعون التّفريق بين جملة من المصطلحات نظرا لتقاربها أو تداخلها من بينها ” التقطير – الايماض – الاختزال – الاختصار.. ” وما يقابلها من مصطلحات معاكسة لها ” الإسهاب – الإطناب – الحشو.”. إنّ الفنيّة الإبداعيّة الأدبيّة سواء في السّرديات أو في الشّعر لا تتأتى إلا بالنّسق المناسب . في القصّة لا بدّ من اللّغة القصصيّة ، و في الشّعر لا بدّ من اللّغة الشّعريّة . وهذا يعني ، ألا محلّ للّغة العاديّة langage naturelle الإخباريّة التقريريّة الخِطابيّة المباشرة … إذاً نحن أمام لغة مختلفة ، ذات خصوصيّة ، قد تصبح قيمتها في نفسها لأنّها فنيـّة . على عكس اللّغة العاديّة ، التي قيمتها فيما تحمله من أخبار . و لكي تكون اللّغة فنيّة ( قصصيّة أو شعريّة ) ينبغي للمبدع الإلمام قدر الإمكان ( بكمياء اللّغة) : قواعد النحو والصّرف و ضروب البلاغة . و( فزياء) اللّغة : علم المعنى أوالدّلالة sémantique والأسلوبيّة stylistique وعلم العلامات sémiologie فضلا عن علم اللّغة science du langage وعلم السّردromanesque وتضاف إلى كلّ هذا الخبرة الشخصيّة التي يكتسبها المبدع من خلال مـطالعاتـه الخاصة لإبداعات الآخرين .(19) و هذا نجده مبثوثا كثيرا في عدّة قصص قصيرة جدّا أو ما سمّيتها نضائد ممّا نسج القاصّ حسن سالمي ولنأخذ عيّنات من التيه تؤكّد توجّهنا في القصّة القصيرة جدّا أو النّضيدة ( سمّ الخياط ) ص : (51) تتميّز بتدرّج منطقيّ وسرديّ حيث يعمد حسن سالمي إلى تهيئة مخيّلة المتلقّي ثمّ يبدأ ببثّ بعض الإشارات التي تحيل تفكيره إلى القضيّة التي يريد أن يزجّ بالقارئ في معمعانها وهنا يثير القاصّ قضيّة العمى ومعضلتها [ أرسل بصره إلى بعيد /تراءت له الدّنيا غائمة في سراب / نظر إلى كفّه / تنهّد تنهيدة عميقة / قال بصوت محشرج /الموت أحبّ إلى من العمى ..] هنا يبرز التّكثيف بجلاء كبير وتمطرنا الأقصوصة بنهاية غير متوقّـَعة أوحتّى متخيّـَلة ..وفي نضيدة ( غيمة ) ص :(50) يتجلّى التّكثيف إلى درجة التّماهي المعنويّ من خلال تركيب اللّغة الاستعاريّة المكثّفة : [ نظر إلى غيمة في سماء خياله / جهّز ورقه و قهوته / تجهّم وجه السّماء / ثمّ ابتسم / ، ثمّ تجهّم / ثمّ ابتسم / الغيمة مرّت على أكفّ ريح مجنونة / مزّق ورقه / تلك غيمة كاذبة كغمام هذه المدينة .] هنا تبرز لعبة التّماهي والمفارقة المعنويّة في نسيج النصّ الذي تشدّه وشائج لغويّة متينة.. قد جسّد القاصّ حسن سالمي ثنائيّة الأنويّة -إن جاز التعبير-(أنا/ أنا ) و(أنا /هو ) في بوح وجداني شفيف ومكثّّف حتّى بات من الصّعب حذف أيّ جملة من قصّته وكأنّه قد اشتغلها بأزميل نحّات يجيد صنعة تمثال قصصيّ، فاللّغة بقدر ما حافظت على قصصيّتها ، استطاعت أن تستخدم الرّمز والصّورة والإيقاع بأنماطه المتنوّعة، النّفسي، والتّكراري... وجاء الحدث والموضوع والفكرة في كثافة تتناغم مع مكوّنات أخرى.. وهو ما بدا حاضرا بشكل واضح في النّضيدة ( صفعة) ص : (114) ، في هذه القصّة القصيرة جدّا ترقى اللّغة إلى مقام التّرميز الأخلاقيّ السّلوكي الذي يتأسّس على حضور الحوار المترجم لانفعالات الشّخصيّات وميولها .. ويحضر الدّرس القيَمي الذي ينبني عليه هدف القاصّ . هنا يكون للقدر أن يجسّد العدالة السّماويّة : أب يصفعه ابنه في موكب من النّاس و يعترف هو أنّه فعل ذلك بأبيه من قبل في نفس المكان .. فكأنّما القدر يحقّق العدل ..عملا بالحكمة القائلة: ( كما تكونون يُولّى عليكم ) .. والتّكثيف أنواع منه الدّلالي والبنائيّ والتجريديّ والسيكولوجيّ .. وقد حضرت كلّ هذه الأنواع في "التّيه" بدرجات متفاوتة سنأخذ من التّكثيف البنائيّ نموذجا خطّه حسن سالمي باقتدار كبير في نضيدة " قبض الرّيح " ص (89) يقول السّارد : " آه لو كان مرضي جسما أراه بعيني وأمسّه بيدي Ị " (20) . في هذه الجملة حكاية تغري بتأويلات عديدة ومختلفة ، وفيها نبرة شعريّة وجدانيّة وأبعاد ايحائيّة ومعاني دلاليّة كثيرة ..ارتهنت إلى لعبة الحذف المقنع والاختصار المغني بعيدا عن الإسهاب و الحشو والإطناب الممجّ .. ...يتبع ...
الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الجمعة 09-10-2020 10:42 مساء الزوار: 194 التعليقات: 0
|
|