|
|
||
|
قراءة فنية بعنوان “تمزقات الهوية وصراعات الأنا “لشعر نعيمة المديوني.. دراسة من اعداد د/امال بوحرب
قصيده “أكره أن لا أكون أنا "
في عالم يعج بالأسئلة الوجودية ومحاولة فهم الذات، تُعتبر الهوية إحدى القضايا الأساسية التي شغلت العديد من المفكرين والكتّاب. وقد عبّر الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف عن هذا الصراع بقوله: "إننا نعيش حياتين الحياة التي نعيشها بالفعل، والحياة التي نحلم بها"ومن خلال هذا الإطار، تتناول الشاعرة التونسية نعيمة المديوني تساؤلات حول ماهية الهوية في قصيدتها الرائعة "أكره أن لا أكون أنا". تظهر كلمات الشاعرة صراعها الداخلي مع القوالب الاجتماعية والقيود التي تُعد حجر عثرة أمام تحقيق الهوية الحقيقية حيث تنطلق على خطى الفيلسوف الألماني مارتن هايديجر القائل: "اللغة هي بيت الوجود." وبهذا، تُعبر اللغة في شعر المديوني بشكلٍ جلي عن تجارب إنسانية مشتركة، وتمازج المشاعر والأفكار التي تؤدي إلى رحلة نحو فهم الذات والحقيقة سنحاول في هذه القراءة من تحليل الأفكار والأبعاد تبدأ القصيدة بتعبير قوي عن الكراهية لفقدان الهوية، حيث تُعبّر بشكلٍ صريح عن مشاعرها المتضاربة فتقول
أكره أن لا أكون أنا إذا خلا المكان من غيرنا إذا داعبنا أوراق الشجر وتجلّى القمر أكره أن أضع عصابة تحجب عنّي السيول والرّبا أن أبتسم والدّمع يسكن المقل أكره أن أضحك والقلب ترافقه العلل تمثّل هذه الألفاظ الصراع العميق مع الأقنعة التي يرتديها الناس، مما يعكس العصبية تجاه فقدان الذاتً تتجلى هنا فكرة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر القائلة: "الوجود يسبق الجوهر"، حيث تبرز الشاعرة هذا الصراع من خلال تصوير المشاهد الطبيعية كالهواء والأضواء القمرية، التي تُظهر تناقض الحالة الداخلية المظلمة التي تعيشها. وتستمر في استكشاف تفاصيل الحياة اليومية، محذّرةً من القيود المفروضة من قبل التقاليد الاجتماعية إذ تعبر عن ذلك بقولها: "أكره أن أضحك والقلب ترافقه العلل"، مما يُبرز الفجوة بين المظاهر الخارجية والهواجس الداخلية.
الأسلوب والإيقاع ما يميز هذه القصيدة هو وجود عدة عناصر فنية تجعلها لافتة ومؤثرة؛ فالبناء والهيكل يتكونان من مقاطع تعكس تجربة الشاعرة ومعاناتها. يُستخدم التكرار في عبارة "أكره" بشكلٍ جيد لخلق تأثير درامي وزيادة الانفعالية كما تمتاز اللغة بالثراء والعمق، حيث تستخدم الشاعرة الصور الشعرية لاستحضار مشاعر معقدة، مما يعكس الحوار بين العناصر الطبيعية والعواطف الداخلية وهي تحقق تنوعًا في الأسلوب والإيقاع، مما يعزز مشاعر التأمل والقلق بإيقاع متنوع، ليجسد التوتر الداخلي الذي تشعر به. تتحدث مباشرة إلى قلبها وفكرها، مما يزيد من تفاعل القارئ. البعد الوجودي في القصيدة في إطار الحيرة الوجودية، تُعتبر تجربة نعيمة المديوني جزءًا من تيار شعري أوسع تظهر فيه مشاعر الشك والقلق بصور مختلفة الشاعر محمود درويش، في قصيدته "جواز السفر"، يعبر عن التوتر الذي يعيشه الفرد تحت ظروف مُهجرّة، مما يكشف عن مخاوف الفقد والعزلة. كما يتناول الشاعر المصري أمل دنقل، في قصيدته "لا تصالح"، مشاعر القلق والاغتراب في مواجهة واقع مأساوي أما الشاعرة الأردنية مها العتوم، فتطرح مفهوم الهوية من خلال الصراعات الثقافية والتقاليد الاجتماعية. تتقاطع هذه التجارب الشعرية مع تجربة المديوني، حيث يُظهر الشعر الحديث كيف يتعامل الشعراء مع مسألة الهوية وصراع الأنا يعكس هؤلاء الكتاب تجارب إنسانية مشتركة تتداخل فيها المشاعر والتجارب الحياتية، مما يساهم في ثراء الأدب الحديث. ومن خلال هذه الأصوات، نرى كيف يمكن للشعر أن يكون وسيلة للتعبير عن صراعات وجودية عميقة، تسلط الضوء على حاجة الإنسان إلى التفاهم مع نفسه وسط تعقيدات الواقع الذي يعيشه. القراءة النفسية للقصيدة
تقول الشاعرة: أكره أن لا أكون أنا إذا خلا المكان من غيرنا إذا داعبنا أوراق الشّجر وتجلّى القمر أكره أن أضع عصابة تحجب عنّي السيول والرّبا أن أبتسم والدّمع يسكن المقل أكره أن أضحك والقلب ترافقه العلل أن أقول ما لا أحبّ أن أقول ساعة تحتضننا آلسّماء ساعة تهب السّواقي أريجها أكره أن تدمع الرّوح والوجه باسم أن تذرف آلسّماء مدامعها وتراقص الأرض رماحها أكره أن يتجمّل الفؤاد وجيده بالأسى صارخ أكره أن أسير مكبّلة بأصداف التّقاليد العمياء أن أصافح الرّياح أن أغرس الياسمين فينبت الشّوك جارحًا أكره لسعة الصّقيع والدّفء منّي غير بعيد كيف لي أن أكون أنا والأقنعة من حولي مغرية؟ كيف لي أن أسبح في اليمّ وحيتانه آثمة؟ أكره أن لا أكون أنا ساعة ترسل الشّمس ضفائرها ساعة يكبّر للصّلاة في محراب الهوى أيّها الفؤاد صافح الغيوم ٱبسط كفّك تعود إليك جذلى أيّها السّاحر هاتني برعشة قاتلة لحظة مجون خالدة لا أكون إلا أنا إذا صفّق الطّير مسبّحًا ساعة تسكن تجاويفي لاهثًا ساعة أصير منك الحياة ساعة تصير مني أنفاسي وكلّ آهاتي ساعة يشهق الهوى شهقته المزلزلة وأشرب من كأسك ساعة أداعب وجه السماء وأدرك منتهى المنتهى الصراع الداخلي تظهر المشاعر المتناقضة فتتراوح بين الرغبة في الظهور كذات حقيقية والرغبة في انصهار هذه الذات مع العالم الخارجي.واستخدام عبارات مثل "أكره" يعكس رفضا داخلياً، ويشير إلى معاناتها مع القيود التي تخلقها التقاليد والمجتمع وهي معاناة شعب التمزق بين الواقع والرغبة تشير الشاعرة إلى مشاعر الحزن والتظاهر من خلال رغبتها في "ابتسم والدّمع يسكن المقل" تبرز هذه العبارة الصراع بين ما يُتوقع منها أن تشعر به، وما تشعر به فعلاً، وهو ما يتقاطع مع أفكار سارتر حول حرية الإرادة وعبء الاختيار. الأقنعة الاجتماعية تُبرز القصيدة كيف أن الضغوط الاجتماعية والتقاليد تُجبر الأفراد على ارتداء أقنعة، مما يؤدي إلى الشعور بالانفصال عن الهوية الحقيقية. يعكس هذا التوجه معاني عميقة من الفكر الوجودي الذي يتناول فكرة “ما هو الإنسان؟” و”معنى الوجود؟” الوجود والبحث عن الهوية :تتساءل الشاعرة بشكل فني عن كيفية تحقيق الذات الحقيقية في ظل العالم الخارجي المؤذي. هنا نجد صدى لفكر سارتر حول ضرورة مواجهة الوجود وتحمل مسؤولية الخيارات التي نقوم بها، إلى جانب فكرة الحرية كمعاناة. الجمال والآلام :تعني العبارات المتكررة حول الآلام والرغبة في التحليق والحرية أن الشعراء غالبًا ما يجدون الجمال في الألم تشير الشاعرة إلى رغبتها في التواصل مع الجوانب الحقيقية للحياة، حتى وإن كانت مؤلمة.
إن قصيدة "أكره أن لا أكون أنا" كما رأيتها تمثل تعبيرًا قويًا عن الصراع الوجودي ورغبة الإنسان في تحقيق هويته الحقيقية من خلال التألق افي استخدام اللغة والصور الشعرية، إذ تعكس القصيدة مشاعر معقدة وغنية، مما يجعلها عملاً فنيًا يتجاوز الزمان والمكان فتُظهر تجربة نعيمة المديوني تتداخل المشاعر مع الأبعاد الثقافية والفكرية، وتعزز رحلة القارئ نحو الفهم العميق للنفس وربما نكون قد ألقينا الضوء ليس حول تجربة الشاعرة فحسب، بل أيضًا على المساحات التي يحتلها الشعر في فهم قضايا الهوية والصراع الداخلي، وتوضيح الرؤية الإنسانية في مواجهة التحديات الوجودية ولكن مع كل هذه التجارب الشعرية العميقة يخامرني السؤال التالي هل يجوز القول إن هذه التجارب كفيلة لتشكيل الهوية الفردية والجماعية في المجتمعات المتنوعة ثقافيًا وحضاريًا؟ أم تحتاج الساحة الأدبية إلى التكافل الفني والأدبي لصنع تاريخ يحمل هويتنا بكل فخر وامتنان؟ د/امال بوحرب الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الخميس 07-11-2024 06:06 مساء الزوار: 41 التعليقات: 0
|
|