|
|
||
|
دراسة نقديّة للمجموعة القصصيّة "التّيه" للأديب التّونسي حسن سالمي بقلم شكري مسعي ج3
دراسة نقديّة للمجموعة القصصيّة "التّيه" للأديب التّونسي حسن سالمي بقلم شكري مسعي ج3 الجزء الثّالث / * الانزياح : يعني الانزياح عند "جان كوهين " الانحراف عن التعبير ، وهو خرق منظّم مدروس لقوانين اللّغة . وهو الذي يحدّد شعريّة النصّ على أن يحافظ على التواصل ولا يؤدّي إلى الإبهام .. والملاحظ أنّ القصّة القصيرة عند القـاصّ حسن سالمي فيها الكثير من الحيلة المخادعة، حيث توهمك ظاهرياً أنها بلا حبكة وأنّها ساكنة وغير مكتملة فنيّا ..وهذا نوع من أساليب الكتابة الحديثة يتطلّب متلقياً متأنيًا في متابعة مجرى حلقاتِها؛ ليكتشف عناصرها التقليديّة ..الصّراع والتطوّروالحلّ النهائيّ في أعماق المتن السّردي عمّا يلملم آلياتها فنيـّاً وجمالياًّ وقصديـّا ، حقيقة النصّ تمّ بناؤه على خارطة من الانزياحات النّاجحة التي صوّرت الانفعالات والمشاعر والأفكاروالأخيلة والأمكنة بصوراستعاريّة وبلغة مخاتلة حينا صادمة أحيانا ، موغلة في الشعريّة أحيانا أخرى ..والانزياح في قصص"التيه" يرقى إلى مستوى جعل النصّ لوحة فنيّة تشكيليّة وأحيانا قصيدا شعريّا بديع البناء .. والأمثلة على ما نقول كثيرة نأخذ بعضها لنعضد ما ذهبنا إليه من حديث عن الانزياح اللّغوي والدّلالي : " الذاكرة تفتح كرشها .." / الوجه قطعة ليل مظلم / صمتّ قليلا، وقد طافت بي ذكريات مرّة ، أطلّت منها أشباح من الجوع والفاقة / كذلك الانزياح الدّلالي مثل ما هو موجود في أقصوصة العنقاء ..من يقرأ الصفحات الأولى ويتابع توصيف السّارد الشخصيّة لا يعتقد أنّ الكلام يخصّ اللّحية .. : - سيّدتي ..آن أن تزولي من حياتي . خيّل إليّ أنّها امتلأت رهبا وهي تقول : - أأهون عليك؟ - بعد الذي رأيت من أصحاب بنات جنسك، فـأنت شبهة.. ص 62" ( 21 ) ثمّ يكتشف القارئ أنّ المقصودة هنا هي اللّحية .. نعم اللّحية التي لا تفارق السّارد الشخصيّة و من خلالها يمرّر القاصّ موقفا ضمنيّا من الذين يعتبرون اللّحية علامة للتطرّف أو السلفيّة أو ما شابه ، في حين يعتبرها البعض الآخر علامة على التديّن الصّحيح .. و بعض آخرون يتّخذونها اختيارا شخصيا لا علاقة له بالدّين ..والانزياح كثير في التيه ..العتبة العنوانيّة بحدّ ذاتها تشكّل انزياحا جميلا .. * الحدث وتدفق السّرد : كثيرة هي القصص في مجموعة " التيه " ليس بها حدث رئيس بمعنى أنّها وردت في شكل نتف متفرّقة من الأحداث الجاهزة تنثال عبر خطوط الزمن من ذاكرة السّارد ، لتعبّر عمّا يعتمل في صدره من أشكال الصّراع الدّاخلي مع منغّصات الواقع ومثيرات الأحداث المعيشة .. وتفتقر هذه النتف من الأحداث أحياناً إلى الحياة والحركة والصراع الدرامي ، وهذا في ظني أمر بدهي في قصّة هي أقرب ما تكون إلى شريط وثائقيّ يعرض أوضاعا متردّية حينا وأحيانا مأساويّة ويُنطق المسكوت عنه ويكشف عورات الوجود من خلال فضح عديد السلوكيات في مجتمع يفتقر إلى التوازن النفسي والاجتماعي والقيَمي .. لقد أنضج السّرد بتقنيّاته اللّغويّة التي ترتكز بصورة موفّقة على ألوان المجاز بعض هذه الأحداث حتى باتت الحياة تدبّ فيها ، ذلك ما نراه في وصف حادثة "الصوّال" ذلك الجمل الجموح الذي يعكس صورة الفرد المقهور من قبل السّلطة داخل المجتمع .. يسعى للانتقام لكرامته المهدورة ..في هذا النصّ لوحات سرديّة متفرّقة ..تحكمها لغة مترادفة ذات مرجعيّة قرآنيّة تتوالد من رحم واحد ، هو الحيرة والخوف ..: -إنّ هذا الجمل صوّال .. - اصمتي يا امرأة .. فأل الله ولا فألك .. *** -يا أبت إنّ الجمل صال علينا .طاردنا نحن عصبة.. - اصمتن ، إنّكنّ لكاذبات .. *** -يا بعلي إنّ الجمل صال علينا .. و لولا أن غلّقنا علينا الأبواب لمسّنا السّوء . - اخسؤوا ، إنّكم لكاذبون ..( 22 ) . إنّ عدسة السّارد تجول في جنبات مسرح الحدث ، تتابع مجرياته ، وتستقصي أدقّ تفاصيله ، لتقدّم للقارئ شريطاً سينمائياً يعرض صورة حيّة تعكس مشاعر وأحاسيس أبطال المشهد ، قسمات وجوههم ، الجاني والضحيّة ، وتغوص في دخيلة نفس الضحيّة لتسمعنا أنينها والأفكار التي تصطرع في دخيلتها ، من خلال توظيف واع للمونولوج الدّاخلي ، وقد تنفلت عدسة السّارد في مسرح الحدث بسرعة عالية تواكب سرعة وقوع الحدث ، وتعبّر عن موقفه وأحاسيسه تجاه أبطاله ، وقد رأينا ما يعضد ذلك في اختيار القاصّ الجمل الوصفيّة القصيرة ، وفي تنويع الضمائر العائدة على السّارد أو المتكلم الضحيّة وتداخلها ، وفي إسقاط الرّوابط وإقامة علامات التّرقيم مقامها ..
* تقنيةُ الـحـوارِ: تعتبر لغة الحوار في النصّ أو العمل الأدبي جداريّة يستند إليها العمل وينطق عبرها الشّخوص بكلّ مفردات الحبّ والألق المخزون داخل مكنونات القضيّة وحكاية النّفس الإنسانيّة, والأداة اللّغويّة في الحوار بمفرداته ومستواه ووظيفته رمزيّا وتقنيـّا كلّها قضايا شغلت الباحثين في حقل الكتابة القصصيّة بسبب ازدواجيّة اللّغة أي استخدامنا للعاميّة في الحديث اليوميّ والفصحى في الكتابة, هذه القضايا شكّلت محور عدد من الكتابات التي أثارت إشكاليّة الحوار داخل النصّ القصصي, والتي تعتبر المركز الرئيس والعماد والنّافذة التي تبرز من خلالها شخصيّات القصّة التي تشكّل حال الكلمة ووجع الحال... يفيد الحوار في كسر رتابة السّرد وجذب المتلقّي إلى جوّ النصّ وتحويله إلى مشاهد وكأنّه يواصل عرضا مسرحيّا وفضلا عمّا ذكر فإنّ الحوار يقوّي البنية السرديّة للقصّة إلى جانب التقنيّات الأخرى كالوصف والحلم.. أضف إلى ذلك قدرة الحوار على الكشف عن حضور البيئة في النصّ القصصي كاللّغة والعادات والتقاليد ونحو ذلك.... والحوار الجيّد هو الذي يكون معبراً "ويتمثّل هذا النوع من الحوار فيما حسُن تركيبه، وسهُل قوله، واتّضح معناه، وعبّر تعبيراً ملائماً، ويجب التّضحية بزخرف الكلام وأناقته في سبيل المعنى، فلقد كان "سومرست موم" يفضِّل الكلمة القويّة المحدّدة للمعنى في الحوار على الكلمة ذات الجرس والرّنين" (23) .. والحوار في المجموعة القصصيّة ( التيه ) للقاصّ حسن سالمي لم يكن مجرّد إجراء فنّيّ أو تقنيّة في الكتابة بل كان هيكلا إبداعيّا يحكم نسيج النصّ ويُبين عن بؤر الحكي و يقدّم لنا الشخصيّات برسم ملامحها : -أجّل هذا التّقريع إلى حين .. -إنّه نذل ..لا ذمّة له و لا ضمير .. -فتحت له بيتي وصدري .. و كنت سنده الوحيد في المحنة .. ( 24 ). و انفعالاتها و طرق تفكيرها : - جرّبتها مرّة و أنا أعاني البطالة مثلك .. فكان الفرج أقرب إليّ من شربة ماء .. - لا أصدّق أنّ فتاة جامعيّة أنهت مراحل تعلّمها بنجاح ، تسقط فيما تسقط فيه ناقصات العقول .. - لمْ أكفرْ بربّ السّماء Ị - هذا ، والله ، أشدّ من الكفر .. وإنّ من الكفّار علماء ( 25 ). و العلاقات التي تربط بينها : - طلّقني Ị -أنت مجنونة . -عمّاه أعنّي على ابنتك . -طلّقها ỊỊ ( 26 ) ويقوم الحوار في مجموعة التّيه القصّة بدور هامّ، حيث بإمكانه أن يخفّف من رتابة السّرد الطّويل، والذي قد يكون مبعثاً للسّأم والملل، وبتدخّل الحوار الخفيف السّريع يقترب النصّ من لغة الواقع أكثر .. ومن الشّروط الفنيّة للحوار القصصي أيضاً التركيز والإيجاز والسرعة في التّعبير عمّا في ذهن الشخصيّة، من أفكار حيويّة، أمّا طول الحوار فإنّه يضرّ بالبناء الفنّي للقصّة القصيرة ، وقد اتّسم الحوار في جلّ قصص التيه بالقصر والتّركيز و الدقّة : - أمهلني أربعا و عشرين ساعة ، بعدها أعيد إليك مالك مع ربح وفير Ị - حالك مضحكة يا صاح .. -العمليّة مضمونة .. لا ينقصها إلا رأس المال .. -إنّ ما تدعوني إليه هو الوهم .. -تأكّد أنّك خلال شهر واحد .. يمكنك أن تجنيَ أرباحا تعادل راتبك وزيادة .. - لو عقدت قمحة ، ما اقتلعت منّي شيئا ..( 27).
* الخــاتمة / وجدنا أنفسنا في رحلة رائقة ، نمشي في فيحاء نصوص الأديب التّونسي القدير حسن سالمي بخطى ثابتة محاولين إضاءة الدّرب في التّيه أمام قصص قصيرة وقصص قصيرة جدّا، تخلق أسئلة كثيرة ومُقلقة لدى متلقّيها، وبذلك تكون هذه القراءة النقديّة المتواضعة التي أنجزناها بها لهذه النّصوص الشيّقة والممتعة مجرّد قراءة من ضمن قراءات أخرى متعددة يُتيحها النصّ الذي يطرح أسئلة إشكاليّة وشائكة يُنتظر منّا، كمتلقـّين، أن نجيب عنها... قد كنّا في قراءتنا النقديّة أمام تجربة قصصيّة واعية وملتزمة تجاه قضايا واقعها المصيريّة ومستوعبة لتأثير الماضي في تشكيل الحاضر لقاصّ مقتدر يمتلك وعياً عميقاً بجماليّات السّرد القصصيّ مع اقتدار كبير و تمكّن واضح من تشكيل اللّغة التي استطاعت أن تحكم معاني قصصه وبنيانه ، فضلاً عن الوصف والخيال اللّذيْن يجعلان القارئ ينخرط في مسارههما ويشكّل وجوداً ملموساً للوجود المقروء في القصص ، ممّا أضافَ للإبداع رافداً جديداً محتفظا بنكهة القصص الأصيل ناقشا اسمه في تيارات السّرد وأشكاله الجديدة .. حسن سالمي عنوان متفرّد لكتابة قصصيّة فريدة ، عصيّة و مربكة ..
الهـــوامــش /
1و2 : عتبات جيرار جينات ..من النصّ إلى المناصّ / د. عبد الحق بلعابد ص 286 . 3 : سورة المائدة ..الآية 26 . 4 : القصّة القصيرة لأمبرتو ص 52 . 5 : نبيلة إبراهيم، فن القصّ، في النظرية والتطبيق، دار قباء للطباعة، ص:197. 6: إيكو ، أمبرتو. ست نزهات في غابة السرد. ترجمة : بنكراد، سعيد. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005، ص.20. 7 : التيه ص 9 . 8 : سعيد الغانمي "ملحمة الحدود القصوى" ص13. 9 : التيه ص 8 . 10 : عتبات جيرار جينات ..من النصّ إلى المناصّ / د. عبد الحق بلعابد ص 280 . 11: التيه ص 85 . 12 : نفس المصدر ص 64 . 13 : نفس المصدر ص 56 14 : نفس المصدر ص 57 15 : نفس المصدر ص 92 16 : نفس المصدر ص 116 17 : نفس المصدر ص 60 18 : نفس المصدر ص 62 19 : التكثيف في القصّة القصيرة جدّا شوقي بالحاج . 20 : نفس المصدر ص 82 21 : نفس المصدر ص 62 22 : نفس المصدر ص 14 23 : د. طه عبد الفتاح مقلد: الحوار في القصة والمسرحية والإذاعة والتليفزيون، مكتبة الشباب، القاهرة 1975م، ص10. 24 : التّيه ص 67 . 25 : نفس المصدر ص 37 26 : نفس المصدر ص 24 27 : نفس المصدر ص 73
الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الجمعة 09-10-2020 10:50 مساء الزوار: 203 التعليقات: 0
|
|