|
|
||
|
قراءة في قصيد "تعبتُ"..للشاعر التونسي ناجي نصري للناقدة منوبية الغضباني
قراءة في قصيد "تعبتُ"..للشاعر التونسي ناجي نصري
النصّ
من اجمل ما قرأت هذا الصباح على جدار الشاعر الرّائع
ناجي نصري
تعبت و لم أزل أمشي
و حبل الله في عنقي
تعبت نعم
و كان الله منتظرا على جمر
فمي
في آخر النفق
ليسأله :
فماذا قلت ؟؟
أقول تعبت
تعبت أجر أمعائي على الاسفلت
تعبت أدس في قلبي حكاياتي
و آهاتي
و ما حُمِّلت ...
تعبت .. تعبت نعم ..
فماذا نلت
مشيت الدرب محمولا
على الاشواك
و الذكرى
أرى مترين في الصحو
و في إعتامها مترا
و لم أعرج
حين أصبت في ساقي
و لم أبك
رفاقي في المدى الباقي
و لم أتبع خيوط الضوء تغريني
و ما بدلت
مشيت الدرب ..
هذا الدرب
و شد علي بين يديه حتى بلت
و لكن لم أزل أمشي
و حبل الله في عنقي
و ما بدلت
______________________________________________
القراءة
الناجي نصري أو الشاعر الصعلوك كمايحلو لمعشر اصدقائه من الشعراء تسميته ...شاعر نهض عالمه الشعريّ الزّاخر على الألم والوجع وسوء الحظّ ...
جلّ قصائده تزيغ عن ممكنات الفرح ...وحده الألم يستفزّ قريحته ...صراع مع الحياة ...مع صعوبة عيش صلب خشن لم يحفل بغير امتهان لحقوقه ...
كلّما قرأت قصيدا من قصائده تيّقنت أنّ هذا المبدع في بحث دائم ورحلة غائمة مساربها لا بدائل فيها غير رجع أصداء ...تأخذنا أشعاره الى فضاءات ذاته وما تضمر من انفعالات وانتكاسات وتأملات ..
ولست أدري وأنا التي تدمن قراءة أشعاره وقصائده على جدار موقعه الفايسبوكي لماذا أكتفي بالقراءة وأمرّ ...فبعض ردود الفعل تجيئ مدهشة وخارقةعند تلقيّ النّص تحكمّ قبضتها على لساني فأظلّ تحت وطأتها في عجز عميق ..لا أعرف كيف أحاورها وهي التي تحاورني ..
فكل آفاقي يا شاعرنا في تعقّب نصوصك عاجزة ...عاجزة عن النّبش فيها ..فادحة صديقي أوجاعك ..
واليوم مع هذا الصباح وجدتني أمام نصك هذا ..."تعبتُ"...
تعبتُ ولم أزل أمشي
وحبل اللّه في عُنُقي
فمنذ بداية نصّك جعلتني في ذهول مع دقيق المعنى والمقصد
فالتّعب الذي يلمّ بك لم يثنك عن المشي...فأيّة رجّة هذه وأيّ ارتجاج يصيب المتلقي وأنت والتّعب والمشي مشروع وقدر متلازم في سياق خطيّ واحد ..
فنحن لمّا نمشي ينشأ فينا من الدّاخل إحساس وفق رؤية تأخذ بالأمل في تحقيق الهدف ...علّنا نعيد تشكيل ذواتنا في المشي وبالمشي ...وغنيّ عن القول فوائد المشي كرياضة ...
وما غير
حبل اللّه في عنقك
معتصم بحبل اللّه ...
فبهذا المعنى صار "المشي مع التّعب" خارج الإدراك..
معتصم بحبل اللّه أنت وتمشي ..والرّب وحده يعيد لملمة ما أتعبك ولم تفلح في ترميمه
و كان الله منتظرا على جمر
فمي
في آخر النفق
ليسأله :
فماذا قلت ؟؟
ممهور ...مخذول تمشي وتمشي
"واللّه " بجلاله وقدسيته يضرم فيك جدلا داخليّا فتتمثّله منتظرا عبده ...فمه....لسانه
"يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ -"
لحظة نورانيّة لا يجوز تحليلها ..
ذلك أنّ ثمّة نفس مؤمنة بقدرها وتعبها بَنيْتَها عبر الإستبطان وغُرْتَ في أسرارها..
علاقة ميتافيزيقية رابطة صلتها بين خالق ومخلوق رفعتنا بها الى مستوى من السّمو ...
فهذا الفم لمّا سأله الرّب الكريم
شكاه وشكاه في لحظة لم تكن فتح حساب بقدر ماهي نبض قلب لشاعر يشكو ضيقه للّه وحده
ماذا قلتُ ...وبما تعبتَ
أتدري ماقلتَ أيها الشاعر الرهيب المحترف للوجع والألم والمكابدة...
"تعبت أجرّ أمعائي على الإسيفلت"
هنا توقفت كثيرا كثيرا ...
ضاربة لغتك صديقي في متنها الموجع منتقاة بعناية ودقّة واقتدار
ماذا تبقّى منك يا "ناجي".....وقد جررت أمعاءك على ...الإسفلت..
تعب يربو على طالع اللّفظ والدلالة ...وجع في جوف وجع ...والتعب على لوح جوفك و.في ألأمعاء ...دقيقها وغليظها"...لتعبك وجوه لا تدرك ...
مقصدها دفين دفين عصيّ رمزيّ......
اكتنزت المعنى واختزلت تعبك في أفانين بيان فصيح مليح
ومضيت بنا في فتح الانفاق والمغاليق والدّهاليز
تعبت أدس في قلبي حكاياتي
و آهاتي
و ما حُمِّلت ...
تعبت .. تعبت نعم ..
فماذا نلت
شعريّة التفاصيل في الألم والتّعب ...
فالإنتباه الى هذه التفاصيل تسحبنا الى روعة النّص..إلى حداثته الشّعريّة في انتاج المعنى وتأويله والتّفاعل معه...
ونقاط تنبئ بما لم يُقَلْ من الكلام ....
فأنت تلغي الحديث عن التّعب وعن الآهات وماحملت لتدسّها كماهي في القلب
والقلب تعبَ من حوامله ونوابضه ....صار موصودا لا ثنايا ولا مسارب تعبُرُها إليه ...
فالصورة وثيقة بحمولتها الدلالية وبحال شاعرنا
تعبت
تعبت
تكرار يحطّ بنا في مدارات نفس الشاعر وأحوالها ...يتخلل ذات المتلقي فيبصر بالإحساس معاناة الذات الكاتبة ...
فماذا نلتُ؟
سؤال يفتح المجال رحبا لتقصّي خيبة مريرة ..
وتتسّع مدارات البوح في الشكوى ...
تجيء على مهل .....لتغرقنا في تعب الدّروب التي مشاها شاعرنا
يقول الشاعر
مشيت الدرب محمولا
على الاشواك
و الذكرى
أرى مترين في الصحو
و في إعتامها مترا
و لم أعرج
حين أصبت في ساقي
و لم أبك
رفاقي في المدى الباقي
نقرأ ونقرأ فنكتشف لغة ذات كثافة عالية وذات قدرة على تجسيد المعاناة
( محمول صيغة صرفية تفيد اسم المفعول به...فهو محمول ومفعول به....اعتام مصدر من الفعل أعتم وهو يفيد معنى الدخول في العتمة ..)أصبت في ساقي
والإصابة في السّاق معنى مجازيّ مستعار للتّدليل بالدقة المطلوبة على مفهوم الساق التي تنطوي على حقيقة غير مقتصرة على كونها عضو يساعدنا على التحرك والمشي في حالة عرجها بل هي تؤدي معاني أخرى )
فالشاعر ظلّ متماسكا متحاملا على نفسه ولم يعرج والساق مصابة
ولم يبك رفاقه فيما تبقى منهم
فخذلان الرفاق حطّ أيضا على لوحة قلبه المعتل المخذول ولم يبك
فهو الحاضن لهمومه الصّابر عليها تلفّ في عمقه وتوغل في ايلامه وهو ماض في المشي ...غير آبه بالإغراءات التي تلوح مع بصيص ضوء
و لم أتبع خيوط الضوء تغريني
و ما بدلت
مشيت الدرب ..
ويؤكّد على عدم سحب خطاه من الدّرب بقوله
هذا الدرب (درب شائك صعب...طويل )
هذا الدّرب (شدّ عليه بين يديه حتّى بلتُ) ...صار في قبضته حتى احفّت به كلّ البلايا والمحن
ليختم بقوله
و لكن لم أزل أمشي
و حبل الله في عنقي
و ما بدلت
مستهلا المقطع ب"لكن "التي تفيد الإستدراك ليثبت ما بعدها حُكْماً مخالفاً لما قَبْلَها،
فرغم التعب والمحن فهو مازال يمشي وشفيعه في هذا ربّ يعتصم بحبله ولا يقطع معه رجاء...
أخي وصديقي الشاعر "الصعلوك"
ما أروع أشجانك وما اشدّ وقع نصوصك فيها على المتلقي...فخصائص نصوصك تخرج بنا رغم شجنها الى لوحة يكمن فيها الوجع الأنساني محتشدا في صور بلاغية تعبيرية مذهلة ..
فلا أحد منّا يا ناجي أسعد من الثّاني ...بل الأسعد من يجعل من متاعبه أثرا فنيّا في نصّ يحيل الألم عملا أدبيّا نسعد بقراءته ....
فابحر وانشغل و"امش" ولا تتعثر...ولا تتبدّل.... فوراءك رصد وتقصّ ومتعة ولولا ما يتعبك ماكان الشعر لديك مترعا بعذوبته ..
صديقتك منوبية الغضباني
القصرين في 29.1.09.2020
الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: السبت 03-10-2020 09:00 صباحا الزوار: 224 التعليقات: 0
|
|