شعرية العلاقات (المعجم / التركيب)
في نص "تغاريد البلابل المخنوقة بعش الوطن"
للشاعرة التونسية : **حسناء حفظوني **

بقلم الناقد :***حيدر الاديب*** /العراق
النص/
لا تغريني زرقة المحابر
وليس يغويني نداء أقلامي
فهذا البياض الملتف حولي
يتصيد كل البلابل الغريدة
يخنقنا خنقا بسماوات الوطن
يحاصرنا بشباكه في مربع الموت
كانت أمي امرأة حبلى بالحرية
وكانت تطعمنا من حبات قمحها
حين مر علينا سفير الشيطان
مكث بعشنا عشرا عجافا
أنا الآن والعش في الجدب سيان
وحبات القمح والبلابل في الموت سيان
أنا وقصائد النخل وحروف الزيتون
نغني سوية على عش آمالنا الشريدة
يستهوينى لون المقابر
تغريني أصوات أوهامي،
فهذا البياض الذي يشبهنا الآن
ككفن أخفى يوما ثغر أمي
كانت تصرخ على حافة المخاض
حين قطع شيخنا حبلها السري
وكتم أنفاس المولودة البكر
كانت أنثى الحرية يوسفية الملامح
وكان يعاني من عقدة الجمال
كأي شيخ دجال
لهب القبح يحاصرنا في كل مكان
أنا الآن أحترق بنار القصيدة
أنا واخر دمعة مبللة بحلم الوطن نرفع الأقلام
ترحما على موت أحلامنا الشهيدة

القراءة /
المحابر عيون التاريخ على المستقبل السماوات بالطبع مثلها عيون على الأيام في زرقة ابيضت والتفت تنبت بالبياض الخانق لك بلبل غريد مشنوق بحبله السري حيث التغاريد صدى باهت لصرخات التي حملت حملا ثقيلا ولم تمر به لعشر عجاف تقطر قمحا بلون المقابر المكتوبة بحروف الزيتون ولا تين والنخل ولا رطب وتهبط دمعة من أقصى المرارة مبتلة بحلم يراوغ البياض مرة ومرة يعبر اللهب في غصون القصيدة المحترقة في نداء الجدب فتهوي (انا مع الدمعة كتلة واحدة) لترفع الأقلام على مرأى زرقة الثورات المحشورة الى الشهادة
بنعمة الانزياح عن المتوارد في لهجة اللغة والوعي والتاريخ نعثر على (البصيرة الشعرية) لدى "حسناء حفظوني"
وهي بصيرة شعرية لأنها تمارس الايحاء لا الخبر فتقع في مكابدات النثر لكن ليس بتصور مسبق ليكون السطر من فصائل الجاحظ الملقاة على الطريق بل بشهية ادونيس
الي يسند الشعرية للمعنى بأنها (طريقة في أستعمال اللغة) وهذا ما حدث فالمحابر لم تغر الشاعرة بل زرقتها والمحابر عيون ومرايا سر اشتغالها لونها وحديثها لا إطارها ومسماها هذه الزرقة بكل جذوتها الشهية تحجم عن خدش الشاعرة رغم ورغم اتساع المحابر باتساع السموات بزرقة عيون مفتوحة على بحار التاريخ والمستقبل لكنها زرقة
من نوع آخر وحصة مستوردة من ( ونحشر المجرمين
يومئذ زرقا ) دعنا من المجرمين ولنأخذ لونهم في امتداد زرقة محابر وعيون وجسد / أليس هذا شيء عجيب / زرقة لم تغر الشاعرة لا في حياة أو ممات / بلى شيء عجيب / فالشاعرة تنزاح مرة أخرى لتكون هي المحبرة والعين والجسد فلا يغويها نداء الأقلام

إن هذا التواتر الدلالي ينهض بشعرية تحذف قشرة التركيب الخادعة كأنه خبر وترميك في شعرية العلاقات بين المفردة والأخرى بحسب "الجرجاني" وستقول كيف هي هذه شعرية العلاقات؟ سأتولى جزء من الجواب،
إن طبيعة الوحدة اللغوية (دال / مدلول) والدال هو وجود ذهني اعتباري له منشأ انتزاعي من الواقع لا انه له مصداق حقيقي في حالة الشعر يتزل الى وجود لفظي (صوتي / مكتوب) وفي هيئته الصوتية والمكتوبة فانه تمثيل لذلك الوجود الذهني ويتفرق هنا الى محايثة الشكل الشعري
في أداء فعاليته وضمن شرائطه التي تجعل منه دالا والمدلول هنا هو مفهوم تصوري ومصداقي أيضا،
المهم هنا أن العلائق بين الدال والمدلول تلعب دورا مهما في انتاج الشعرية بشرط الانتزاع من الواقعة حتى تحقق واقعيتها وتخرج العبثية والعدمية والأنغلاق ولتحقق التواصل فالنص بالضرورة يقال ويكتب كي يقرأ ويسمع
ينبغي هنا طرح سؤال مشاكس خلاف ما تقدم بقليل من الجرأة / هل هناك شعرية مفردة وشعرية شيء دون دخولها في بنية التركيب لتتحقق الشعرية من العلاقة والكل؟
يبدو أن ذلك ممكن لحد هذه اللحظة فــــ (المفردة / العلاقة) هي أصلا تداخل معاجم ثاوية في النسبة بين الموضوع وهي هنا الذات الشاعرة والمحمول الي هو طول امتداد التاريخ المعرفي والجمالي لهذه المفردة ويتجلى واضحا هنا شعرية المفردة والشيء والتركيب يقول "سعيد الغانمي" الذي نوافقه على جزء القول لأن المقولة بنيوية له ونحن نرى خلاف ذلك (إن بنية الشعر هي نسيج عناصره الداخلية كنظام لغوي يتفاعل فيه الصوت والدلالة والسياق وليست عنصرا يأتي له من الخارج والا لارتددنا الى شعرية الكلمة المفردة بذاتها وشعرية الحقيقة وشعرية الشيء )،
هو يقبل شعريات المفردة والحقيقة والشيء بشرط أنها تأتي من داخل الشعر لا من خلال مقوم ذاتي في هذه أي تطبيقا على ذلك تنطلق "حسناء حفظوني" من الزرقة والبياض والحرية والدمعة والحبل السري والسفير والبلابل الى آخر هذا الحشد من المفردات التي تحمل معها معاجم مهيأة بالقوة في ذهن الشاعرة لأن المفردات في ذهن الشاعرة هي تواريخ واكتشافات لحظة القدح تأتي من كل فج مجنون (متخيل ومتشكك ومتجاوز ومتجاور ومنزاح ومستعار الخ)
هذا الحشد ترمي به في تراكيب يشاركها فيه وعي الفكرة لتكون الصورة الشعرية هنا شعرية لغة وشعرية فكرة
تلعب بظلال الواقع الى حقائق النص
البياض هنا سيد المشهد بالإضافة الى أن الورقة عين بيضاء من الحزن أو من الفراغ او من الضياع ونلاحظ كيف أن المعجم مع العلاقة لا المفردة مع العلاقة (ابيضت وجوههم / ابيضت عيناه من الحزن / الخيط الأبيض / بيضاء للناظرين / بيضاء من غير سوء / بيضاء لذة للشاربين) فالبياض هنا تاريخ مخادع في زرقة المحابر يتصيد المحابر التي تغرد ولا غرابة أن البياض يفعل ذلك فهو خاتمة الحزن السالبة وهنا خاتمة العيون السالبة برمتها، بياض ناتج من فراغ ويأس أو بياض شرير ناتج من تراجع حزمة التغريدات الملونة في شطبه التغريدات هنا هي مقدمات ثورية تستهدف النظام الأجمل والأحسن حياة وتقويما وعيشا كونها تغريدات ثائرة في وجه الضباب والصباحات ذات الزرقة المخاتلة في الأقلام ولا يخفى أن الأقلام هنا مضاد نوعي لكنه مجاور الأقلام هي عيون تتجسس على المستقبل بنظرات الماضي /
إن هذا الأبيض الملتف يأكلنا حد الشبه ونحن نبصر آخرنا كبياض يغطي فم التي حبلت بالحرية / بياض يخرج من الورقة ... الحقبة.. المحبرة ... العين ... ليلتف ويلتف مشرنقا آخر تغريدات الثورة من أن مكث الشيطان بين التغريدة والحرية عشرا من رصاصات التصيد..
إن المعادل الموضوعي الذي يبقي الحياة على خط الحياد هو القمح فالقمح رمز محايد لكنه خطير وانتفى خطره حين أكلته الطير العشر من فوق رأس القلم المصلوب والمكفن بدمعة حالمة
يقول "كمال أبو ديب" في مفهومه عن الشعرية بأنه وظيفة من وظائف الفجوة: مسافة التوتر كما فهمها عنه "سعيد الغانمي" ويكمل أبو ديب أن ميدان اشتغال الفجوة : مسافة التوتر ليس الخطاب بل هو الرؤية والتجربة وانها على هذا فضاء ( ينشأ من اقحام مكونات للوجود إو للغة او لأي عناصر تنتمي الى ما يسميه "جاكوبسن"بنظام الترميز( Code) في سياق تكون فيه بينها علاقات ذات بعدين فهي :
علاقات تقدم باعتبارها علاقات طبيعية نابعة من الخصائص والوظائف العادية للمكونات المذكورة ومنظمة في بنية لغوية تمتلك صفة الطبيعية والالفة ولكنها 2- علاقات تمتلك خصيصة اللاتجانس او اللاطبيعية : أي أن هذه العلاقات هي تحديدا غير متجانسة في السياق الذي تقدم فيه وتطرح في صيغة المتجانس
من خلال هذا نفهم أن لون المقابر هو لون خارج حزمة المتعارف ويرادف البياض الصياد هنا أو هو ظهير له وأن الشاعرة تعيد بنية النص بإن لون المقابر يغريها ويستهويها بدل الزرقة وأن صوت الأوهام أزكى من نداء الأقلام في تقابل مشهود بين المقطعين
(لا يغري / يغري / لا يستهوي / يستهوي – زرقة المحابر / لون المقابر- نداء الأقلام – صوت الأوهام) وواضح أن الدال بهيئته الصوتية هنا خلق مفهوما تصوريا نظرا للتنميط الصوتي
ونفهم جليا أن كل ثورة تشترط تغريدات وملامح يوسفية هي عيون بصيرة بالتغيير الجذري إزاء سفير الشيطان المنظومة المقابلة والتي وصفتها الشاعر بشيء رائع وملفت للنظر بصراحة يمكن أن نقاربه بإن آدم تنميط ثوري جميل على الملائكة وعلى ابليس فخضعت الملائكة للثورة لأنها فهمت أن سجودها هو مكسب ثوري فتعلمت من معطيات آدم الثورية بيد أن ابليس عارض بسبب جمالي وليس بسبب عقلي (نحن نسبح ونقدس) بينما هو
(انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) واضعا نفسه في طرف معادلة ليس هو طرفا فيها وليس مخاطبا أصلا في عنوان القضية لأنه قضية امتثال طاعة لحكيم خبير هدفها الاستعداد الكمالي للمخلوق الجديد باعتباره ثورة على الطين الذي هو أصل للنار لو علم ابليس لا قضية أيهما أفضل في أصل الخلقة
إن آخر دمعة من محبرة الحرية لونها يسر الثائرين لونها لون الوطن
فالدمعة تهوي على خد الزمن وتهوي أنا بما هي أنا السنن الضاربة في التحمل بغية إشراق جديد لدم من بئر يوسف مهللا بتغريدات تسقي الصباح خمرا
ولكن من ينقض هذه الجملة
( أنا واخر دمعة مبللة بحلم الوطن نرفع الأقلام ترحما على موت أحلامنا الشهيدة)
أنا رثاء الأنا فمن يقرا القصيدة ثانية ترحما على الوقت المثخن جمالا في وجعي؟

*** حيدر الأديب ***