اعداد ابتسام الخميري

دراسة نقديّة ذرائعيّة حسب استراتيجيّة الاستقطاع:
الشّخصيّات و الأسلوب
في رواية "أصوات عالية في الطّريق إلى الشّمال" للرّوائيّة هيام الفرشيشي
بقلم النّاقدة التّونسيّة إبتسام الخميري
المقدّمة:
إنّ الرّواية بما هي نصّ أدبيّ سرديّ هي أوسع من القصّة إذ يمكن اعتبارها قصصا متعدّدة و متشابكة في نصّ واحد أمّا مضامينها متنوّعة... و هي من أصعب الفنون الأدبيّة نظرا لغياب الضّوابط الشّكليّة الّتي تسهّل على الكاتب مهمّته، فهي لا تكتب نظما بل مقسّمة إلى فصول و مشاهد... و لئن تعدّدت الرّواية من اجتماعيّة أو نفسيّة أو فلسفيّة أو عاطفيّة...الخ. فإنّها تسجّل حضورها اليوم رغم التّطوّر التكنولوجي في العالم و ظهور أشكال أدبيّة...
" تعتبر الرّواية الفنّ الأدبي الأكثر أهميّة في التّاريخ الحديث فقد استأثرت بمكانة رفيعة، لأنّها عبّرت بقوّة عن السّياقات الثّقافيّة التّي احتضنتها." (1) و هي المرتع الّذي عنّ للكاتب طرح ما يشغله و ما يحيط به باعتباره جزء من الكلّ...
من هذا المنطلق نتناول بالتّحليل رواية "أصوات عالية في الطّريق إلى الشّمال" للرّوائيّة التّونسيّة هيام الفرشيشي، هي دراسة ذرائعية حسب استراتيجيّة مستقطعة باعتبارها نظريّة علميّة، في البدء:
من هي هيام الفرشيشي؟
-درست قانون أعمال حاصلة على ديبلوم في الألمانيّة من معهد بورقيبة للّغات الحيّة
-لها شهادة في الانجليزيّة من اوسكوتلاندا.
-اشتغلت في الصّحافة التّونسيّة و الدّوليّة.
-هي قاصّة و روائيّة و ناقدة تونسيّة
-تشرف على عدّة أنشطة ثقافيّة على غرار بيت الفكر و الإبداع و قصص المدينة
-مؤسسة النادي الأدبي بيت السّرد بدار الثّقافة بن عروس
من اصداراتها:
-المشهد و الظلّ مجموعة قصصيّة في 2010 حاصلة على جائزة زبيدة بشير للإبداع الأدبي
-أوشام سريّة في 2015 ترجمت العديد من نصوصها إلى الانجليزيّة
-خيال الموج مجموعة قصصيّة سنة 2020
-أطياف ماء قديم: رواية صدرت سنة 2021
في النّقد:
-اوركسترا الشّاعر 2004
-الرواية لدى الناصر التّومي شهادة عصر 2018
-ترجمت العديد من نصوصها الشّعريّة و نشرت في مجلّات دوليّة في عدّة بلدان كأمريكا
و استراليا و بريطانيا
من قصصها المترجمة: "أرملة العنكبوت" اختيرت في موقع أمريكي ضمن قصص الهالويين.
1-المدخل البصري:
"أصوات عالية في الطّريق إلى الشّمال" رواية للقاصّة هيام الفرشيشي الصّادرة عن دار الأمينة للنّشر و التّوزيع من الحجم المتوسّط في 163صفحة في فيفري 2025.
-عتبة العنوان: ورد العنوان جملة اسميّة مركّبة حيث جاء المبتدأ مركّب نعتي و الخبر مركّبا بالجرّ، أصوات جمع كلمة صوت و تعني كلّ ما هو يُسمع من اهتزازات أو تموّجات تنتشر في وسط ماديّ مثل الهواء أو أيّ شيء يولّد ضجيجا أو أصواتا بمعنى آخر، الصّوت هو الأثر السّمعي الّذي يحدثه اهتزاز جسم ما و هو تردّد آلي أو موجة قادرة على التّحرّك في وسط مادي مثل الهواء... و لا تنتشر في الفراغ.
كما نجد في قاموس عربي معنى الأصوات هي شبه الصّدمْ و الدّفع بقهر و قيل هو الضّرب باليد أو الدّفع. فالصّوت في اللّغة هو عرضٌ يخرج مع النّفس مستطيلا متّصلا حتّى يعرض له في الحلق و الفم و الشّفتين مقاطع تثنيه عن امتداده و استطالته.
عرّفه ابن سينا قائلا: "تموّج الهواء و دفعه بقوّة و سرعة من أيّ سبب كان"... و هو اهتزازات مرئيّة أو غير مرئيّة يحدثها جسم ما تنتقل بواسطة الهواء إلى الأذن الإنسانيّة على شكل موجات صوتيّة".
و هذه الأصوات حدّدتها الرّاوية و ضبطتها في نعت "عالية" و تعني مرتفعة أو رفيعة فهي صفة تدلّ على الثّبوت من علّى، فهو عال مرتفع على نظرائه "و رفعناه مكانا عليّا".
اختارت الرّاوية أن تكون الأصوات عالية ضخمة هائلة شامخة شاهقة عظيمة كبيرة حسب أصوات شخوصها المترعة عظمة. ثمّ تحدّد لها خبرا: "في الطّريق إلى الشّمال"
و الطّريق هو السّبيل أو المسلك الّذي يسلكه النّاس أو المركبات، فيمكن أن يكون الطّريق معبّدا أو غير معبّد فهذا الشّريط الأرضي الّذي به مسارات مختلفة له وجهة محدّدة: الشّمال، و هو أحد الاتّجاهات الأربعة و يقع أعلى خطّ الاستواء في الجهة المعاكسة لاتّجاه الجنوب.
و ها إنّ هيام الفرشيشي لم تترك القارئ يرفل في دروب هائلة بل حدّدت له الموضوع:
إنّنا إزاء أصوات عالية مرتفعة تصدح بفرحها و حزنها هي متّجهة حتما إلى جهة الشّمال جهة الخصب و العطاء اللّامتناهي فقد تستوي حياتها و تلامس الأفضل...
-عتبة الغلاف: رغم أنّ اللّوحة لم يحدّد اسم صاحبها لكنّها تبدو لوحة فيها الكثير من العنوان إذ تغلب الألوان القاتمة (الدّاكنة) أو الألوان التّرابيّة لترسّخ فينا عنصر الاستقرار و الثّبات مع ظهور بقعة ضوء/نور في أعلى الصّورة جهة اليمين تشعّ تحت غصن ممتدّ و أغصانه تميل إلى اللّون البنيّ، كأنّنا في فصل الخريف عند الشّفق لانعكاس الضّوء على الأوراق، كأنّنا أمام بحيرة صغيرة ثمّ تبرز لنا فتاة الغلاف تنظر باتّجاه الضّوء لا ملامح لها سوى شعرها البنيّ المنسدل إلى الوراء، لقد اختير اللّون البنيّ بما يعنيه من حياد و طبيعي فهو يتّسم بالدّفء و يضفي مشاعر الأمان، إنّه لون أرضي يثير بسلاسة عناصر من الطّبيعة
و هو لون نستعين به لمشاعر الطّبيعيّة و الكليّة هو إذن لون الأرض و قد يرمز إلى الطّبيعة أو الخريف و قد يرتبط بالشّخصيّة؟
أمّا فتاة الغلاف فترتدي لباسا أزرقا فإذا كان هذا اللّون يرمز إلى السّلام و الهدوء و الثّقة و الرّاحة و التّواصل فهو قد يرمز إلى الحزن و الاكتئاب... و قد يكون أُستخدم للتعبير عن القوّة و السّلطة و درجة الدّاكن تعبّر عن الحزن و الاكتئاب...
فما ترى هذه المرأة الرّصينة الحزينة تنتظر من تلك البقعة الضّوئيّة الّتي تتأمّلها؟ فهل تراها شخصيّة واحدة تحمل أصواتا هائلة داخلها و تأمل في الأفضل هناك؟ حيث الشّمال؟
-الحبكة العامّة للرّواية: من الغلاف و العنوان انكشف أمامنا الإطار العام للرّواية الّذي حدّدته الكاتبة فاتّضحت المعطيات التّالية:
-المكان: منطقة جبليّة بالشّمال/ قرية جبليّة/ حوش/ منعرجات جبل/ ثقب كبير في الجدار الخلفي للحوش أو فجوة في الجدار.
-الزّمان: كان الطّقس شتائيّا/ الخريف يغري بسيول أمطاره.
-الحدث: يتمثّل في رؤية الكاتبة لفتاة تعذّبها امرأة تحت وقع الأمطار دون ردّ فعل من الفتاة تهرع الكاتبة لنجدتها فتصبح صديقة لكليهما: الضحيّة و المعتدية. هذه العلاقة تفكّك الكاتبة لنا من خلالها شخصيّات الرّواية: خيرة و سارّة و بقيّة الشّخصيات الثانويّة و إن كان لها فعل في تغيير مصير البطلتين و ليكون للكاتبة شأن في وضع نهاية أخرى للشخصيّات عند احتجاج الأبطال إذ تقول:
" انغمست في نسج حبكة تضخ الحياة في الشّخصيات الرّابضة في الجبل، و يجول خيالي بين ردهات الحوش، حيث الخيوط تترابط لتعلن وجود قصّة، و استرجاع تفاصيلها مختلطة مع الصّور الّتي تطلّ في الحلم.
يرتوي قلمي من جراحات الشّخصيّات التي لم تندمل بعد، و هي تقطع تلك الدّروب الجبليّة." ص 145.
الصّراع الدّرامي: في الرّواية نلمس طرح مسألتين هامّتين:
1-وجع المرأة الرّيفيّة البدائيّة الجاهلة و المكبّلة بقيود العادات و التّقاليد...
2-وجع المرأة المثقّفة المبدعة الغنيّة فالمجتمع بدورها يكبّلها و يقيّدها.
فخيرة لم تستطع الهروب من حصار جدّها ثمّ جدّتها... و سارّة لم تستطع السّفر إلى فرنسا منعها أخوها. إنّ هيام الفرشيشي هنا تكتب أوجاع المرأة و ما تعانيه من سيطرة المجتمع الذّكوري لها.
و من خلال ذلك تكتب لنا معاناة الكاتب و هو يعيش شخوصه و يتقمّص دورهم، تراها تهدأ إذ تعلن للملأ أنّها تؤنّب نفسها و تلومها و هي متعبة:
"أفتح عيني بتثاقل، و أحاول أن أستبدل تفاصيل الحلم المتشظّي بوهم الرّؤية، و تساءلت: كيف تكتب دون أن تتحاور مع أطياف شخصياتك؟ و كيف تسمح لهم أن يقتحموا حلمك؟
و كيف يحاولون أن يرتسموا من جديد في صور ترفع من وقارهم، و ترتفع بهم؟ ما الّذي يضيرهم لو كشفوا أنفسهم؟ هم لم يدركوا أن لحظات الكتابة تنصهر في أعماقي و أنا أراهم كأطياف لشخصيات، أو كدمى تاركة بعض الخيوط تحرّكها و بعض الأصوات تتلبّس بها.
كان عليّ أن ألغي تلك الشّخصيّات و أن أنحت جروحها على أجسادها لتراها بوضوح."
ص 160/161.
هكذا صراع الشّخوص و دورانها حول ذاتها مثّل العقدة ثمّ تراءى لنا الانفراج:
-العقدة و الانفراج: معاناة المرأة العربيّة يتمثّل أمامنا في أوجه صوره يبحث له عن حلّ أو انفراج، فمهما اختلفت الطّبقات (طبقة كادحة/ فقيرة أو طبقة غنيّة مثقّفة مبدعة) فهي أي المرأة، تعاني الكبت و التحكّم و القيود تطمس روحها التوّاقة للحريّة.
هذه القيود تنجلي بوضوح بين مشاهد الرّواية و فصولها الثّمان في هذه المنطقة الجبليّة من البلاد و إن لم تحدّدها الكاتبة إذ تنطبق على كلّ بقعة في البلاد و في الوطن العربي عموما، و تتراءى لنا رغبة الشّخصيّات المكبّلة في الانعتاق و التّحرّر فتنكشف أمامنا الانفراجات هي أيضا موزّعة على الفصول لتحدث لنا توازنا بين العقدة و الانفراج في حلقة دائريّة متسلسلة متّصلة ببعضها البعض:
الانفراج
العقدة
-الكاتبة تنقذها
1-فتاة تضرب تحت الامطار
-امرأة تساعدها
2-الكاتبة تضيع في دروب الجبال
-هذا الزّوج يهرب لأنّ أحمد يوشوشه
3-سارّة تتزوّج من رجل لا تحبّه
-الأخ ينتقم منه و يطرده
4-يتحوّل هروب الزّوج إلى عقدة
-الأمّ منية توضّحه
5-الكاتبة تستغرب تصرّف الأخويين
-خيرة تصفح عنها
6-سارّة تشعر بالذّنب تجاه خيرة تطلب الصّفح
-يتزوّج من سارّة ثمّ من خيرة كانفراج
7-أحمد المتعلّم يرغب في تحسين وضعه
-ينفصل عن خيرة بمقابل مالي
8-تأزّم وضعه المادي
-الجدّ الّذي كان يمنعها يموت
9-رغبة خيرة في التّجوال و الخروج
-تموت الجدّة
10-الجدّة تكبّل خيرة
-يظهر الخال و زوجته لمداواتها
-سفر خيرة انفراج و بداية جديدة
11-سارّة تعاقب خيرة و تحرق جسدها
-تبعده عن حياتها
12-سارّة تحبّ بحّارا ماضي عائلتها يلاحقها بوجود جدّ البحّار
-السّفر إلى أمانيا خلسة
13-محاولة السّفر إلى فرنسا و أخوها يمنعها

العقدة هي معاناة كلّ من خيرة و سارّة.
الانفراج تسافر كل منهما إلى بلد (فرنسا/ ألمانيا)،
فالسّفر هو الحلّ لكلّ أزمة الشّباب في المجتمع اليوم بحثا عن الأفضل و قد لاحظنا أنّ الكاتبة وضعته انفراجا من بداية الرّواية و أنهت به الرّواية بينما انفراج الكاتبة هو عودتها إلى الطّبيعة و تأمّل الحديقة فتقول:
"رأيت ظلالا تطلّ من وراء الأبواب و النّوافذ عند استرسال نور الشّمس و هي تحفّزني لأنهض. كان على القلم أن ينهي حياة هؤلاء ليخلّص الروح من الغموض المبهم. أغتسل
و كلما تدفّق الماء تتنفّس الروح، يتواصل خيط تفكيري في الرّواية إلى أن يتشابك مع شجرة الورد، و تنبعث روائح عبقة تحييني و تتشابك مع أذهان أخرى، و حين أستنشق عبير الورود و تمتلئ الرئتان بالهواء النّقي، ينهض القلم المتثائب من جديد باحثا عن تفاصيل جديدة لرحلة البحث عن الذات." ص 162
ثمّ تضيف: "... أحفظ نصوصي في أدراج الذّاكرة. أعود إلى ذاتي، أتأمّل الحديقة من النّافذة و قد أزحت السّتار قليلا." ص 163
الشّخصيّات: هي من أهمّ مقوّمات الحكي و تتراوح أهميّتها وفق دورها في النصّ السّردي، لذلك نجد شخصيّات رئيسيّة هامّة و أخرى ثانويّة تحيط بالشّخصيات الأساسيّة و هي إمّا مساعدة أو معرقلة.
-الشّخصيّات الأساسيّة:
1-سارّة: فنّانة تشكيليّة مبدعة حسّاسة، تنتمي إلى طبقة غنيّة لها نفوذ و سلطة، قاسية تمارس التعذيب على خيرة و قد سلّط عليها أخوها سلطة القمع الذّكوري فهي الضحيّة
و الجلّاد في آن.
"و ظلّ وجه سارّة في لحظات تأمّلها خبيثا. تتمثل صورة نفسها و هي تتشكل في جوّ من القلق و الارهاق... سرعان ما تتحجّر ملامح وجهها في لحظات قسوتها، و هي تبدو قلقة، تعبة، تحاول تبديد العتمة، فتبدو كقطّة ذات مخالب متحفّزة." ص 110
و هي ضحيّة الحبّ و المشاعر: هروب زوجها ليلة زفافها، انتقام منه بمعيّة أخيها، أحبّت بحارا لكن ماضي عائلتها طاردها فجدّ البحّار كان شاهدا على العصر و عيّرها بذلك، محاولة الهروب و السّفر إلى فرنسا تصدّي أخوها و اتّهمت بأنّها مسحورة، أخيرا سافرت خلسة.
2-خيرة: امرأة ريفيّة تعيش مع جدّها و جدّتها بالمنطقة الجبليّة، تحاول الهروب عبر ثقب في الجدار، ضحيّة تعذّب و تهان، تنقذها الكاتبة ثمّ خالها و زوجته فتفتح أمامها آفاق أرحب، هي كبقعة الضّوء في ذلك المجتمع:
"كانت اللوحة الّتي رسمها في خياله غريبة عنها، و تساءل: كيف تقاطع شعلة الضّوء مع المأساة؟" ص 70.
"لقد اختارت خيرة أسلوب البله و هي تحدّثه عن طيف الشّاب الّذي اختفى بعد أن راودها" ص 75. و هي تحاول أن تكتب لكنّ ابن عمّها يقتل فيها الأمل قبل ولادته( ص 76)
لكنّها تمنح الحريّة " تتعرى خيرة من أقنعة القسوة،.... لا خيار لها إلا أن تعلن حريتها في واقع يحترم رغبتها الدّفينة." ص 156/157
3-أحمد: ابن عمّ خيرة أحبّ سارّة تزوّج منها صوريّا ثمّ تزوّج من خيرة لابتزازها، متعلّم لكنّه متسلّق، ضحيّة المجتمع، حاول الكتابة ليواجه بالرّفض،" له ميول ساديّة تجعله يشعر بمتعة سفك روح ضحيّته". ص69
4-السيّد يوسف: هو أخو سارّة له سلطة و نفوذ يحرّك الشّخصيات على هواه، فنّان مريض و سريع الانفعال كما وصفته أمّه، هو من جماعة الشيطان تقول هيام الفرشيشي:
"لم يكن السيّد يوسف يرى نفسه من جماعة الشيطان، و إنّما كان يبحث عن الملامح الشيطانيّة القادرة على تجسيد هذه الأدوار..." ص 80
5-الكاتبة: شخصيّة مهمّة للقارئ إذ تنقل الأحداث بتفاصيلها الدّقيقة لها دور المنقذ لكل من خيرة و سارّة، تقول لنا:
"مزجت ما قرأت و ما واصلت خيرة روايته و كان ذهني يفكك رموز الحكاية التي حاكتها أذهان متناقضة... ذهن ساذج نصيبه من الحياة مأساة، و من الدّراسة القليل، و من التّنشئة ظلم و قهر... و ذهن مسلح بالمعرفة عاش في واقع مزر و يعاني من فراغ روحي،
و أذهان منفصمة لسارة و أخيها، يحوزان الفن و المعرفة و المال، و يعانيان من التّعالي
و الشّعور بالاضطهاد..." ص 88/89.
لقد "انغمست في نسيج الكتابة هبر حبكة تضخ الحياة في الشّخصيات الرابضة في الجبل... و يرتوي قلمي من جراحات الشّخصيات التي لم تندمل بعد، فتتحوّل تلك الشّخصيات إلى كائنات ملعونة..." ص 145.
لكنّها تعلن لنا أنّها لا تعرفها تماما (ص 149) بينما تحضر عندها في غرفة الجلوس لتبدأ المحاكمة ص 155.
-الشخصيات الثانويّة:" أصوات عالية في الطريق إلى الشّمال" تحمل أيضا أصواتا لشخوص أخرى و التّي نجدها في المجتمع بيننا لا بدّ منها ربّما أهمّها:
-الأمّ منية: والدة سارة و يوسف، جاءت لتكشف عن طبيعة أولادها و ما عاشاه في طفولتهما. ربّما دور الطبيب النفسيّ لكنّها تكشف عن الأمّ الّتي تحمي أبنائها و تلتجأ إلى القرآن و تعتقد بالسّحر( ص153/154) و إن بدت للكاتبة بصورة الفيلسوفة ص 119.
-الجدّ و الجدّة لخيرة حاولا حمايتها من مجتمع ريفيّ توفيا ليتركا لها حوشا تعيش فيه.
-أيمن الشّامخ: زوج سارّة الّذي هرب ليلة الزفاف ثمّ يعاود لينتقم منه أخوها.
-الخال و زوجته الفرنسيّة: شخصيّة منقذة لخيرة.
-جدّ البحّار و البحّار بصيص أمل لسارّة مع تمسّك الجدّ بماضي عائلتها الوضيع.
بؤرة النّصّ الثّابتة:
"أصوات عالية في الطّريق إلى الشّمال" هي أصوات المهمّشين و المتعبين، أصوات المبدع المكتومة، هي أصوات المرأة المقيّدة في مجتمع ذكوري بامتياز، هي أنّات ذوات بشريّة في واقع مرير قاتم قاتل للأحلام و الطّموح تحاول الشّخوص التّحليق في الفضاء الرّحب الأفضل و الأبهى علّها تتحرّر لكنّ الأسئلة تحتدم و تتسربل: متى تتحرّر؟ متى تفكّ الأغلال؟ ثمّ يسأل القارئ متى أتحرّر و أحلّق؟؟ و يتعالى صراخ من الأغوار: لماذا الألم
و الوجع؟ و إلى متى؟
لكنّ الكاتبة تخزّن الأوجاع في ذاكرتها و تواصل إذ تعلن: "لا جدوى استمرّوا."
الاحتمالات المتحرّكة في النّصّ:
من خلال رواية "أصوات عالية في الطّريق إلى الشّمال" نجد الكاتبة قد رسمت لنا الشّخوص بلون واحد هو لون الطّبيعة (البنيّ) لتكون الشّخصيات متّزنة رغم معاناتها، الاتّزان هنا بمعنى حفاظها على نفس النّمط: العجز، القنوط، الرّضا بما هو موجود رغم محاولاتها البائسة فهي تبطئ في التّغيير، هي تحاول لكن لا جدوى من محاولاتها (خيرة مع جدّها، سارّة في محاولاتها الأولى للسّفر، أحمد في محاولاته تغيير وضعه المادي...)
-الشّخصيّات بين البساطة و الرّمزيّة: إنّ الشّخصيات لها أبعاد رمزيّة تنكشف أمامنا من خلال اختيار الكاتبة للأسماء يربط بينها عنصر الخير و الأخلاق الرّفيعة:
-سارّة: اسم مؤنّث من أصل عبري و هناك من يؤكّد أنّه من أصل آرامي و يعني الأميرة أو السيّدة النّبيلة، و هو اسم زوجة ابراهيم في الكتاب المقدّس. و هي رمز القوّة و الثّبات، في علم النّفس هو من الشّخصيات ذات الأخلاق العالية و المبادئ السّامية و تميل لمعاملة الأشخاص كافة انطلاقا من هذه الأخلاق، و قد تمنح الآخرين الثّقة المطلقة بكلّ شيء، فهو يعني الشّعور بالحنان و الاخلاص في الحبّ و العاطفة الصّادقة و الالتزام بأخلاق الصّدق و الأمانة و التّمتّع بالأنوثة و العلوّ و الثّقة.
أمّا خيرة فهو من أصل عربي و معناه ما يختار أو كثير الخير و الأفضل، يستخدم أيضا للإشارة إلى الفاضلة أو المتميّزة من النّساء، و يشير إلى معاني التّفضيل و الخير و تحمّل شخصيّته صفات الخير و النّفع و الرّزق الواسع،
و خيرة هي صحابية تعرف بأم الدّرداء الكبرى و هي من فضليات النّساء و ذوات الرّأي فيهنّ. فالمرأة الخيّرة هي الّتي يكثر خيرها و تكون داعمة لأبيها و أخيها و زوجها فهي تنشر الخير حيث تكون كما أنّها تعطي بحبّ و سخاء و عطاؤها لا يتوقّف عند حدّ معيّن،
لعلّنا بالعودة لمعنى كلّ اسم نتفهّم أكثر ما أرادته الكاتبة من اختيار أبطالها ليمتزج أمامنا عنصر القبول بالرّفض، الأخلاق الإنسانيّة السّامية بخلافها ممّا توضّح لنا في بقيّة الشّخصيات...
إنّ الكاتبة تصرّ عن وعي تامّ منها أن تكشف عن معاناة المرأة العربيّة بغضّ النّظر عن مكانتها و مكانها و هي تعلن أنّ هذه المعاناة لن تحلّ إلّا بالسّفر كأنّها لا تأمل في تغيّر هذا المجتمع الذّكوري، و قد اختارت بلد الأنوار فرنسا ثمّ ألمانيا،
الجدير بالذّكر أنّ الكاتبة قد أتت على بعض القضايا في مجتمعنا العربي عموما منها سلطة الغنيّ و رغبة الفقير في تغيير وضعه حتّى إن كان بواسطة التّسلّق و الدّوس على الكرامة (أحمد)
كأنّها تقول إنّ بعض القيم قد انمحت لكن لا يهمّ فالأهمّ هي المرأة.
-أزمة المبدع: سواء كان شعرا سردا أو رسما فهو لا يجب من يحتضنه و يدفع به إلى الأمام سوى من امتلك السّلطة قضيّة طرحتها الكاتبة موزّعة بين بعض فصول الرّواية فأغلب الشّخصيّات مبدعة رغم اختلاف طبقتها و وسطها و كلّ واحد له صورة مختلفة في المعاناة عن الآخر فالأهم أن المعاناة و الشّقاء ملتحم بالمبدع.
الأسلوب:
"أصوات عالية في الطّريق إلى الشّمال" رواية اجتماعيّة واقعيّة بدرجة كبيرة جاء الأسلوب غاية في الحبكة حيث تشدّك إلى الغوص في خباياها و قد استعملت الرّوائيّة لغة بسيطة سلسة تراوحت بين السّرد و الوصف و الحوار تتخلّله استرجاع الأحداث (الماضي)
أنهت الكاتبة روايتها بمسرحة الأحداث من خلال الحوار بينها و بين شخوصها الافتراضيّة لتقيم علاقة و اندماج بينهما.
الخاتمة:
الكاتبة تحدث حوارا بينها و بين القارئ فهي تريده أن يتفهّم ما تكتب و تكون له الصّورة واضحة فيرى جروح شخصيّاتها إنّها تؤكّد على الجروح و الألم الّذي تعانيه،
و تستحضرهم في قاعة الجلوس ليعترضوا عن نهايتهم و هو أسلوب حديث يشرّك من خلاله الكاتب القارئ في تصوّر نهاياتهم..
هي رواية واقعيّة بإصرار كاتبتها:
"ما بقي من سطور الرّواية هي تلك الأحاسيس العميقة..." ص 162
المصادر:
1-"الرّواية و الغرب" واقع الرواية في العالم المعاصر- ترجمة محسن الرّملي
2-رواية "أصوات عالية في الطريق إلى الشّمال"