|
|
||
|
الرَسَائِلُ فِي دِيوَان " أغَانِي الحَيَاة " للشّاعر التّونسيّ " أبو القاسم الشّابي &
" وُلِدَ " بلقاسم بن محمد بن بلقاسم الشّابي " وهو الاسم الحقيقي الذي كان يُمضي به رسائله الخاصة إلى صديقه المقرّب " محمد الحليوي ـ في : 24 فيفري 1909 ـ وكنيتُه التي اشتُهِرَ بها عالميًا " أبو القاسم الشّابي " ...
ـ تابعَ دراسته " بالكتّاب " لحفظ القرآن الكريم ، وهي مرحلة صباه ، ظهرت خلالها ميوله الأدبية وشغفه بالقراءة ، ملتحقا بتوجيه من والده ـ القاضي والعالم بالكلية الزيتونية ـ في العاصمة " تونس " ، حتى بلغ المرام ، وكان مميّزًا بين أقرانه.
ـ تخرّج الشابي في هذه السنة ، وهو ابن 19 سنة ، من الزيتونة بالتطويع في العلوم من الرتبة الثانية ..
ـ إثر تخرجه انتسب إلى مدرسة الحقوق التونسية. وقد انتُخب عضوًا مؤسسًا " لجمعية الشبان المسلمين وأسهم في وضع قانونها الأساسي
ـ وكان سنتها أيضًا رئيسًا للجنة الطلبة المنادين بإصلاح التعليم الزيتوني ، وقد كان أبو القاسم حريصًا على التجديد والإصلاح إذ وضع برنامجًا شاملًا للنادي الأدبي بجمعية قدماء الصادقية
ـ أثرى مواهبه واهتمامه بالأدب من خلال حرصه على مواكبة حلقات الدروس ومن خلال التردُّد على المكتبات العمومية ، مبحرًا في عوالم الأدب ، ليكتب أولى محاولاته الشعرية في السنة الثالثة من دراسته بالمعهد الزيتوني
ـ تعرّف القراء على شعر أبو القاسم لأول مرة خلال هذه السنة، وذلك حينما بدأ ينشر أشعاره في الصفحة الأدبية في جريدة "النهضة" التي تصدر أسبوعيًا كل يوم إثنين
وكذلك من خلال المجلد الأوّل من كتاب زين العابدين السنوسي "الأدب التونسي في القرن الرابع عشر" الصادر سنة 1927 عن مطبعة العرب
ـ ألقى الشابي محاضرته الشهيرة " الخيال الشّعري عند العرب ،
تحديدًا يوم 1 فيفري 1929 طيلة ما يزيد على الثلاث ساعات بالقاعة الكبرى لمحاضرات بالجمعية الخلدونية ، وهي محاضرة بلغت أصداؤها إلى الأقطار العربية ، وقد قيل عن المحاضرة:
" لسنا نعرف في تاريخ الآداب نصّا أُتيَ من المتهجمين على الشّابي ومن المنتصرين له ولصاحبه كهذا النص "
وكأنه خُلق ليطلق من صدره أعظم نصّ شعريّ يبقيه حيّا ما دامت الحياة محققا نصرهُ على الحياة وهو حيٌّّ في عداد الموتى فكانت إرادته معلنة أن يتحدّى الموت بحياة ورواج ورسوخ "إرادة الحياة" القصيدة الخالدة التي ستبقَى أيقونة لا تموت " وهي القصيدة التي اخترقت السائد في زمانها ، وهي التي عمّمت قيمتها في أرجاء الكون وأكّدت عالميتها ووجودها في ـ أروع معاني الشعر الإنساني على الإطلاق ، لأنها انتشرت وروّجت لقيمٍ سامية كانت مفقودة ـ وقد أشاعت حماسة الرغبة في الانعتاق والتحرّر من العبودية ومن القهر والاستبداد ذلك في شهر سبتمبر 1933 ـ ذاك الشّابُ الألمعيّ في سنّ الرابعة والعشرين من عمره القصير ـ أي قبل موته بسنة ـ وكأنه يودّع بها الوجود ليرحل إلى وجود غيره ومنها تتجلّى قيمة " رسائله الكثيرة التي تركها للناس كافّة ـ هذه الرسالة العظيمة التي يقول فيها ـ بزخم شعريّ محكم التّرتيل وكأنه تركها ـ للقراءة والتأويل حتّى أنها أثارت بعده جدلا عارما خاض فيه رجال الدّين قبل غيرهم من الأدباء والنّقاد بالخصوص ـ وكأنّه تركها من نبوغه ومن سيرته الأدبية والفكرية وخاصّة بالخصوص من علمه المأخوذ من أصول النّصّ القرآني الذي نهل منها وتشبّع تماما من الأحكام الشرعية وكان واعيا كيف أحدث في العقول زلزال المقارنات ـ كيف يقولُ ما قال ؟ وكيف يخوض بالعقيدة في أمرٍ لم يقترب منه غيره من شعراء الجاهلية إلى شعراء صدر الإسلام وشعراء العهدين الأموي والعبّاسي ، ليأتي هو " ابن الجريد " ويطرح مسألة من عانقت مراتب وقتها ، وتحدّت الضيق الفكري وتمادت مع الوقت والأطوار وصولا إلى الحداثة والأحداث ـ فكانت رسائله منذ الانخراط في كتابة الشعر في حيِّزٍ حياتيٍّ ضيِّقٍ جدا ــ عندما نتحدّث عن عمر الشاعر العالمي " أبو القاسمي ـ فلا يتجاوز الخمس وعشرين سنة ـ نطرح منها " الطفولة والمراهقة " وللأمانة ـ والتزاما مع وجود روحه فينا ، روحه التي ترفرفُ في سماء الله ترى وتسمع من الأنين إلى الأنين ومن الحنين إلى الحنين ـ وعلى مقربة من الأحداث الدائرة في وقتنا هذا على مسافة قريبة من الصور المبثوثة وقبالتها ـ ما تبثّه القصيدة عبر أغراضها المتعدّدة ومن خلالها دلالاتها وإيحاءاتها وإحالاتها إلينا وإلى الأنفاس اللاهثة في الرّماد وفي الغبار ، وفي الأسئلة الحارقة ـ الالتزام الأدبي الذي يفرض تقديم القصيدة " بتصرُّف منّي قبل الخوض في " باقي الرسائل
ـ إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَاةَ ـ فلا بدّ أن يستجيب القــدرْ
ولا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِي ـ وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر
وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ ـ تَبَخَّـرَ في جَوِّهَـا وَانْدَثَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الْحَيَاةُ ـ مِنْ صَفْعَـةِ العَـدَم المُنْتَصِر
كَذلِكَ قَالَـتْ لِـيَ الكَائِنَاتُ ـ وَحَدّثَنـي رُوحُـهَا المُسْتَتِر
وَدَمدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجَاجِ ـ وَفَوْقَ الجِبَال وَتَحْتَ الشَّجَر
إذَا مَا طَمَحْـتُ إلِـى غَـايَةٍ ـ رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر
وَلَمْ أَتَجَنَّبْ وُعُـورَ الشِّعَـابِ ـ وَلا كُبَّـةَ اللَّهَـبِ المُسْتَعِـر
وَمَنْ يتهيب صُعُودَ الجِبَـالِ ـ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر
أبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ وَمَنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ الخَطَـر
وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزَّمَـانَ ـ وَيَقْنَعُ بِالعَيْـشِ عَيْشِ الحَجَر
هُوَ الكَوْنُ حَيٌّ، يُحِـبُّ الحَيَاةَ ـ وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر
فَلا الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطُّيُورِـ وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَــر
وَلَـوْلا أُمُومَةُ قَلْبِي الرَّؤُوم ـ لَمَا ضَمَّتِ المَيْتَ تِلْكَ الحُفَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الحَيَـاةُ ـ مِنْ لَعْنَةِ العَـدَمِ المُنْتَصِـر!"
وَيَفْنَى الجَمِيعُ كَحُلْمٍ بَدِيـعٍ ـ تَأَلَّـقَ في مُهْجَـةٍ وَانْدَثَـر
وَتَبْقَى البُـذُورُ التي حُمِّلَـتْ ـ ذَخِيـرَةَ عُمْرٍ جَمِـيلٍ غَـبَر
ومن تعبـدُ النـورَ أحلامـهُ ـ يباركهُ النـورُ أنّـى ظَهر
وَرَنَّ نَشِيدُ الْحَيَاةِ الْمُقَـدَّس ِـ في هَيْكَـلٍ حَالِمٍ قَدْ سُـحِر
وَأَعْلَنَ في الْكَوْنِ أَنَّ الطُّمُوحَ ـ لَهِيبُ الْحَيَـاةِ وَرُوحُ الظَّفَـر
إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ ـ فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَـدَر
ـ فالرسائل التي يحتويها ديوانُه " أغَانِي الحياة " ومن خلال الترتيب المعتمد في الدّيوان ، من طرف الدّار التّونسية للنشر والتّوزيع بتونس " نقفُ على أنّ أولى الرسائل كانت متصلة بالحبّ كيف لا وهو الشّابُ اليافع الذي أطلقَ من وجدانه قصيدته الأولى "الغزالُ الفاتِنُ " في 23 فيفري 1923 ـ أي في عمر " أربع عشرة سنة " تاريخ أوّل كتابات رسميه له ...
وللحبّ مناخاته الوجودية ، تلك التي تعلّقُ وجهتها في ملمح أنثوي تسرقُ لحظاته الأولى القلوب ـ أو تختطف العقول، أو تمدُّ من بابها أو نافذتها بجاذبية الفتنة والإغواء فيستجيبُ التّعبير رومانسيا خارقا للعادة ويتسبّبُ في الهيام ، إلى السرحان ، إلى الجنون ..
غيرأنّ الشّابي في العديد من قصائده التي 0وثّقت لمفهوم الحبّ جاءت عاقلة ، ومتوازنة ، ومفتوحة على عبقرية القول مراعية المتون اللغوية ، وطقوس الوصف الذي لا يتجاوز حدود تكوينه الأساس من معين دينيّ يراعي المسافة بين صفته ـ الشاعر ـ وصفة أبيه ـ القاضي والمحافظ ـ وخير ما جاء في عشقه لتونس ما قاله في قصيدته " تونس الجميلة :
أَنَا يَا تُوْنُسَ الجَمِيلَةَ فِي لُجِّ ـ الهَوى قَدْ سَبَحْتُ أَيَّ سِبَاحَـــهْ
شِرْعَتي حُبُّكِ العَمِيقُ وإنِّي ـ قَدْ تَذَوَّقْتُ مُرَّهُ وَقَرَاحَــــــــــــهْ
لستُ أنصاعُ للوَّاحي ولو متُّ ـ وقامتْ على شبابي المناحَةْ
لا أبالي..، وإنْ أُريقتْ دِمائي ـ فَدِمَاءُ العُشَّاق دَوْماً مُبَاحَــهْ
وبطولِ المَدى تُريكَ الليالي ـ صَادِقَ الحِبِّ وَالوَلاَ وَسَجاحَهْ
إنَّ ذا عَصْرُ ظُلْمَةٍ غَيْرَ أنِّي مِنْ وَرَاءِ الظَّلاَمِ شِمْتُ صَبَاحَهْ
ضَيَّعَ الدَّهْرُ مَجْدَ شَعْبِي وَلكِنْ ـ سَتَرُدُّ الحَيَاةُ يَوماً وِشَاحَـهْ
02 جوان 2025
ـ ومن رسائله التي أطلقها خالدة إلى شعبه وهو الذي واكب زمن الاستعمار الفرنسي وشاهد بعينيه طفلا وشابا من كان يدور في الواقع التّونسيّ غير أنني وقفتُ على حقيقة التزامه ـ بمدى حساسية وظيفة وموقع والده في الدولة فلم تذكر قصائده مباشرة ـ المستعمرـ وتصرفاته ولكنه ببديهته وفطنته وانتباهه ـ وجّه رسائله الوطنية رمزيا إلى الطاغية من خلال العناوين التالية : إلى طغاة العالم ، أيها الظالم المستبدّ ، نشيد الجبّار ، وغيرها ...
كَ الوَيْلُ يَا صَرْحَ المَظَالمِ مِنْ غَدٍ
إذا نهضَ المستضعفونَ، وصمّموا!
إذا حَطَّمَ المُسْتَعبِدُونَ قيودَهُمْ
وصبُّوا حميمَ السُّخط أيَّان تعلمُ..!
أغَرّك أنَّ الشَّعْبَ مُغْضٍ عَلَى قَذًى
وأنّ الفضاءَ الرَّحبَ وسنانُ، مُظلمُ؟
ألاّ إنَّ أحلام البلادِ دفينة ٌ ـ تُجَمْجِمُ فِي أعْماقِهَا مَا تُجَمْجِمُ
ولكن سيأتي بعد لأي نشورها ـ وينبث اليومُ الذي يترنَّمُ
هُوَ الحقُّ يَغْفَى ، ثُمَّ يَنْهَضُ سَاخِطاً ـ فيهدمُ ما شادَ الظلاّمُ، ويحطمُ
غدا الرّوعِ، إن هبَّ الضعيف ببأسه ـ ستعلم من منّا سيجرفه الدمُّ
إلى حيث تجنى كفَّهُ بذرَ أمسهِ ـ وَمُزْدَرعُ الأَوْجَاع لا بُدَّ يَنْدَمُ
ستجرعُ أوصابَ الحياة ، وتنتشي ـ فَتُصْغِي إلى الحَقِّ الذي يَتَكَلَّمُ
إذا ما سقاك الدهرُ من كأسِهِ التي ـ قُرَارَتُها صَابٌ مَرِيرٌ، وَعَلْقَمُ
إذا صعق الجبّارُ تحتَ قيوده ـ يُصِيخُ لأوجاعِ الحَياة ِ وَيَفْهَمُ!!
ومع حلول سنة 1925 انطلقت الرسائل متواترة " عن تونس الجميلة ، وعن شعره ، وعن الصيحة ، وفي الظلام ، وفي جمال الحياة ، وفي حديث الشيوخ ، وفي نظرة في الحياة ، وعن أنشودة الرعد ـ ذكرى صباح غرفة من يم ، انشودة الرعد ، شكوى اليتيم ، قبضة من ضباب ، رثاء فجري ، صلوات في هيكل الحب ، قلب الام وغيرها من العناوين ...
العناوين في بساطتها تنساب منها أوديةٌ وروافدٌ من الذات إلى الآخر " القاهِر، والمقهور ـ يلوم القاهرُ على جبروته ويتوعده بثورات السّكون وهو الشاعر الثائرُ الذي أخذ على محمل كلامه أن يُجنّدَ للمستقبل لتحقيق اهتزازات في منطق الانتماء للطبيعة والحقيقة والحياة
لكَ الويلُ يا صرحَ المظالم من غد ـ إذا نهضَ المُستضعفُونَ وصمّموا
إذا حطّّم المُستضعفون قيُودهم ـ وصبُّوا ححميم السّخطِ أيّانَ تعلمُ
أغرّك أنّ الشّعبَ مُغْضٍ على قضى ـ وأنّ الفضاءَ الرّحبَ وسنانُ، مُظلمُ
وهو الذي قطع عهدا من نفسه إلى الأبعاد مشتكيا وصارخا ويظهرُ ذلك جليا في مضامينه الكثيرة التي كان يكتبها نثرا ويحدّدُ تواريخها باليوم والشهر والسنة والتي كان يوجّهها إلى صديقه الحميم ـ محمد الحليوي ـ وكان يبدي له تقديرا كبيرا ذلك بذكر " سيدي محمّد الحليوي ـ في كلّ رسائله وقد بلغت هذه الرسائل حسب التعداد الرسمي الوارد في ـ ديوان " الأعمال الكاملة " 39 رسالة ، وكان بدوره يتلقّى منه الرسائل ـ مساندا
وداعما وعاشقا لما يبثّه " الشابي " للوجود ..
ـ وفي ذات الوقت يطلق من غضبه على المتخاذلين
أيّيها الشّعبُ ليتني كُنتُ حطّابا ـ فأهوي على الجذوع بفأسي
وحاثا في أنشودة إيقاعية رائعة ـ تغنّى بها المغنّون
خُلقتَ طليقا كطيفِ النّسيم ـ وحُرًا كَنور الصُّحى في سماه
تُغرّدُ كالطّير أينَ اندفعتْ ـ وتشدو بمَا شاءَ وحيُ الإله
كذا صاغَك الله يا ابن الوجود ـ وألقتك في الكون هذي الحياه
ـ يُخاطبُ الشّابي في رسائله الوجودية قلبه ، وبقايا الخريف ، والمساء الحزين ، والطفولة ، وجدول الحبّ والعازف الأعمى ، وصوت التائه ، ويخاطب الأسى والشعر ، ويخاطبُ الله ، والنبيّ المجهول ، والأبد الصغير والجمال المنشود ، وطريق الهاوية ، وحماة الدّين والأشواق التائهة ، وأحلام الشاعر، وأبناء الشيطان ـ إلى صلواته في هيكل الحب يقول :
عذبةٌ أنتِ كالطفولة ، كالأحلام ـ كاللّحن ، كالصباح الجديد
كالسماء الصحو كالليلة القمراء ـ كالورد ، كابتسام الوليد
يا لها من وداعة وجمال ـ وشبابٍ منعّمٍ أُملُود
ـ فالحصيلة ـ 324 قصيدة كلها تنطلقُ من الذات متأثرة بمكتسبات ازدحمت كلها من علاقة الشاعر بالطبيعة وعلاقته بالوطن ، وعلاقته بالمحيط ، وانفتاحه على الحياة بكل ما فيها من ارهاصات نفسية وعاطفية فكأنما القصائد كلها قد اتّفقت والتزمت وتعاهدت بينها أن تكون مواكبة وعاشقة ومتفاعلة مع الحركة والسكون ـ وكأنها لا تنام حتّى تستيقظ على ملتزم بالكتابة ومنتبهٍ في داخله " أنه سيموت سريعا " فكانت قصائده ترافقه في حلّه وترحاله ـ من الجريد إلى الشمال إلى العاصمة ـ هذه الأسفار كانت مرافقة له بين السطور ـ
ـ كان الشّابي مهموما رغم الغنائيات التي تتسرّب من هنا وهناك لكنها قليلة بالمقارنة مع الزخم الشعريّ الكثيف الذي يحمل تراكيب ونوعيات هذه الهموم التي تحيط به ، وخاصة المهيمنة وهي القريبة من اهتماماته الفكرية ـ الأدبية منها والفلسفية ـ التي تتراكم في نفسه فيبثها شعرا ـ كما تمّ حصرها في الجزء الأوّل من مجلّدي " الأعمال الكاملة " ـ فيقولها بلغة الشاعر المتمكّن من التّوطين والتّمكين ـ كيف تكون كتابته ، والأهمّ : متى وكيف سيطلقها للقراءة ، وهو يعلم رغم صغر سنّه أن وراء خلفية النشر عمالقة من علماء الشعر في تونس وفي مصر التي كان مهاجرا نحو مراكز ومؤشرات المسموح به لاستقبال قصائده الثائرة وخاصّة " مجلّة أبولو " التي ذكرها في عديد الرسائل التي كان يوجهها إلى صديقه " محمد الحليوي " ..
وتزدحم رسائله بكمّ كبير من المشاعر المتأزمة والتي لا يكتمها ولا يضيّقُ عليها مثلما يفعل في قصائده ، وقد وجدت هذا في أغلب الرسائل الواردة في " الجزء الثاني من ـ الأعمال الكاملة ـ فالاختناق بالمعاني وأحيانا بالجمر الحارق في نفسه المتشبثة بالحياة ـ وإرادة الحياة ، يحيله مباشرة إلى بثّها في سرديات تُحيلُ بدورها على أن تعود كلماته في رسائله إلى ـ الحليوي ـ بملامسات تعبيرية منه تخفف العبء وتمدّ بالشفاء ، وتردُّ إلى حتمية التعامل مع الواقع بروح صامدة ، وتفاؤل قد يجد طريقه بالحلول الممكنة التي كانت تصدر من هنا وهناك فترتاح النفوس بينهما ، ويتواصل الاستقرار على ضرورة العطاء والبحث عن البديل ، فكانت بعض المشاريع المشتركة هي القاسم المشترك ـ ولكن غالبا ما كان الخوف من الفشل هو المخيّم بل غالبا ما يصرع المحاولات فتسقط الطموحات والمشاريع فيكون البكاء ؟؟؟ أي نعم فالبكائيات غالبة في أغلب رسائل الشّابي ، ذلك أنّه لا يُخفيها ويطرحها وقد تأكّدت يقينيا أن الإصابة المبكرة على مستوى القلب كان له الدور الرئيسي لموته السّريع
فالقلبُ الذي أرهقته الأحوال وأنهكته الخلفيات لم يصمد ليتوقّف على ـ قصيدة اخترقت كلّ مؤشرات الموت لكي تقول للدنيا ـ بنبوءة شعرية وكأنّ الشّابي يعيش بيننا :
لاَعدلَ إلاَّ إنْ تَعَادَلَتِ القُوَى ـ وتَصَادَمَ الإِرْهابُ بِالإرهابِ
والخلاصة التي تقفُ عندها تجربة الشّابي شعرا ونشرا تُحيل مباشرة إلى اكتسابة العبقرية التي أذكت فيه روح البحث عن المُشبع بالقيم والمعاني الوجودية ، وعلّمته أصول التعامل مع الكون لكي يقتبص منه محتوى رسائله التي ذهبت من خلالها إلى أبعاد ما أراد ترويجه ،
و لعل من أبرز سمات العبقرية التي اكتسبها الشابي من بيئته وعالمه حبّ المغامرة والرغبة في مصادمة السائد والشعور بالتفرد والإحساس بالتفوق على المحيط بحكم عدم التوافق بين رؤيته لذاته ورؤية الآخرين له والاتصال الدماغي وهو نوع من الاتصال بمصادر إلهام بعيدة ـ واضحة وغامضة
..
دون أن أهمل المأزق الحقيقي الذي أوقع " الشّابي " نفسه مع رجال الدّين في أغلب الدول العربية ذلك من خلال ما جاء في البيت الشهير :
ـ فأجمع أغلبُهم على فتوى رسمية : " أنّ قول الشاعر:
" إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر"
هو : " كفر محض "، لأنه جعل إرادة الشعب فوق إرادة الله تعالى ...
ـ شاعرنا التّونسيّ قالها في أوج شابه وفارق الحياة وقد يكون في ذلك حكمة ربّانية ـ لأنه لو طال عمره لكان مستهدفا على امتداد حياته من طرف المتشدّدين
" " إذَا الشّعبُ يومًا أرادَ الحيَاة فلا بُدَّا أنْ يستجيبَ القدر ـ وقد كفّروه ـ عليها في مصر وفي بلدان أخرى ــ ومن وجهة نظري بعدما ــ قرأتُ العقائد ــ وبحثتُ عميقا في شؤون الدّين ـ وتوغّلتُ في مجالات المعرفة على امتداد السنوات الماضية ـ أي من سنة 2006 ـ على إثر إحالتي على " شرف المهنة " فانتبهتُ في البيت الشهير الذي أصبح متداولا في كل اصقاع الدنيا للدلالة على رغبة وغبطة الشعوب المقهورة وذهابها بكل الطرق والأساليب المتاحة ـ لتحقيق الحرّية ، والاستقلال ــ أنّه كان الأصحّ أن يُقال :" فلا بُدَّ أن يستَجِيبَ القضاء ، وقد يكونُ للضرورة الشعرية التي حضرت في وقتها لكي ـ تنطلق القصيدة ، لأنّ الحكم الربّاني : يقول : "أن القدرلا يتغيّر وحكمه بات في اللوح المحفوظ بدليل ما جاء في حديث جبريل ـ عليه السلام ـ مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ عن الإيمان ــ قال : " أن تُؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ـ لم يذكُر ــ القضاء ــ وإنّما ذكر " القدر " خيره وشرّه ـــ
لأنّ القضاء هو ما كُتبَ في " كتاب الملائكة ، وهو "
قابلٌ للمحو " ذلك ما ورد قول ربّ العزّة ــ " يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ " الرعد : 39 ــ
ــ وجاء في حديث رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ــ النبأ العظيم للفصل بين ــ القضاء ــ وهو قابل للمحو، والقدر وهو ثابتٌ لا يتغيّر ــ الحديث
:
ـ " لا يزال القضاء والدعاء يعتلجان ، ويتصادمان بين السماء والأرض حتى يغلب أحدهما الآخر ، ويغلبُ الدّعاء القضاء " ـــ
وبالتّالي : من هذه الحقيقة ــ ومرتكزها عقيدة الإيمان وقع الالتباس وحكم من حكمَ على ـ قول الشّابي ــ رحمه الله " فلا بُدّ أن يستجيب القدر كونه ، تجاوز " حكم الله البات في مسألة استحالة أن يتغيّر القدر، وكان جائزا له وليوم الناس هذا ، أن نقول :" فلا بُدّ أن يستجيبَ القضاء ولكن هيهات ـ فالقصيدة ـ مرّت وكُتبت للشّابي ــ وحدهُ وأجره من خلالها عظيم لأنّه ، ترك أثرا بليغا
تحررت بفضله الشعوب ، ومنها الشّعب التّونسيّ من الاستعمار الفرنسي ، وكانت نشيداأطاحت بالنظام السابق ورددتها الحناجر في كلّ مكان ـ حرّة طليقة ومدوّية ــ ومرَدُّه طبعا إلى ـ النّية ــ
ـ ويبقى الإشكال قائما ـ في أذهان رجال الدين ـــ بمختلف أصنافهم ــ معتدلين ، ووسطيين ، ومتشدّدين ــ للحكم على مقصد " البيت الشعري ..
ــ والمؤسف أنّ الشّابي في حياته وبعد موته لم يجد من يقف مساندا له في مواجهة الهجمات الشرسة التي استهدفته جراء اقدامه على هذا القول ـ بل ذهبت في نفس السياق ، أو قاربت باحتشام في جملة لا تزيد عنها :
ـ " موقف الشعراء والنقاد تجاه الشابي وقصيدته "إذا الشعب يوما أراد الحياة" ليس موضع جدل، بل هو موضوع تأويلات وتفسيرات مختلفة. بعضهم يرون في عبارة "فلا بد أن يستجيب القدر" كفرًا، بينما يرى آخرون فيها إيمانًا بإرادة الشعب وقدرته على تغيير واقعهم " ــ ؟؟
تونس في 03 جوان 2025
حسن بن عبدالله
الكاتب: سكرتاريا التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 08-06-2025 10:27 مساء الزوار: 260 التعليقات: 0
|
|