|
|
||
|
دراسة في ديوان: "كنتُ أُعلّقُ وجهي خلف الباب".. لفتحي ساسي.. للناقدة ابتسام الخميري
بين غرور الأنا و وجع الآخر... دراسة ذرائعيّة مستقطعة في ديوان: "كنتُ أُعلّقُ وجهي خلف الباب" للشّاعر التّونسيّ "فتحي ساسي"
بقلم الأستاذة: إبتسام عبد الرّحمان الخميري(5)
المقدّمة:
هكذا يستمرّ الشّعر كمرآة تكشف ذات قائله، تفضحه، بحروف و كلمات و صور شعريّة انتقاها هذا الأخير... فالشّاعر عندما يقدّم لنا قصائده إنّما هو يتيحُ لنا فرصة الوُلوج إلى عوالمه الدّاخليّة و الخارجيّة عل حدّ السّواء و يمكّننا من التّعرّف على علاقته بما يحيطه: المكان، الزّمان، الأشخاص( الحبيبة، الأمّ، المجتمع...) بل و يضيء لنا الطّريق بواسطة أسلوبه و معجمه اللّغويّ و كذلك إيديولوجيّته الفكريّة... و ذلك لنسير معه جنبا إلى جنب في عالمه المُقدّم لنا في ديوانه الشّعريّ...
هو الشّعر و تعرّجاته الإبداعيّة و دلالاته الفكريّة، هو هذا الشّعر الحديث اليوم و الموسوم بالشّعر النّثري و هو الّذي انضوى تحته شاعرنا المترجم التّونسيّ "فتحي ساسي" في ديوانه "كنتُ أُعلّق وجهي خلف الباب". سنأتي على البعض من هذا البوح النّثريّ الجميل باعتماد نظريّة النّقد الذّرائعيّ باعتباره نظريّة تتضمّن عدّة مداخل منها الفلسفيّ و منها النّفسي و العلميّ و الثّقافي... سنقدّم دراسة مستقطعة من النّظرّية الذّرائعيّة:
في البدء وجب التّعريف بالشّاعر:
من هو فتحي ساسي؟
-هو شاعر و مترجم.
-يكتب غالبا النّثر و الومضة...
-عضو اتّحاد الكتّاب التّونسييّن.
-عضو بنادي الإبداع الأدبي بدار الثّقافة بسوسة.
شارك في عدّة مهرجانات و ملتقيات شعريّة داخل و خارج البلاد التّونسيّة...
من إصداراته:
-بذرة عشق سنة 2010 –أحلم... و أوقّع على العصافير آخر الكلمات سنة 2013 –سماء لطائر غريب 2016 –كوردة وحيدة... على مقعد 2017 –كلّ هذا الكون وجه حبيبتي سنة 2018 –طريقة جديدة للغياب 2019 –و حبّك... يأتي كظلّ قصيدة 2019
كما له إصدارات في التّرجمة.
1-البُؤرة الثّابتة للدّيوان:
إنّ ديوان "كنتُ أُعلّقُ وجهي خلف الباب" دعوة من صاحبه لأنْ نلِجَ عوالمه الدّاخليّة و ما يخفيه فينكشف لنا بوضوح في هذا الدّيوان "النّثريّ"، أَ ليس هو الكلام الحسن الّذي يكتب دونما الحاجة إلى قافية و وزن معيّن؟ فقط الجماليّة في التّعبير و هو المنحى الّذي دأب عليه الشّاعر في جلّ كتاباته.
إنّنا أمام قصائد تكشف بوضوح جليّ ذات الشّاعر فيبدو كأنّه تأريخ للحظات حياتيّة اقتنصها رغم بساطتها و رغم أنّه قد يعيشها كلّ إنسان... لكنّنا لن نحسن القنص كما فعل "فتحي ساسي" و لن نصنع منها ألواحا تشكيليّة تكوّنت من كلمات و صور شعريّة غاية في الحبكة و المتانة. نجده قد مضى بنا في رحلة منذ صباه، طفولته لنصل معه لحظات نضجه الفكريّ في عروج جميل و مناجاة صوفيّة تعلو عن هذا الكون... و هذه هي القصيدة العربيّة المعاصرة الّتي نهلت من الواقع و تشبّعت بدواخل النّفس و ذلك ما ذهبت إليه دكتورة "زهرة بن يمينة " حيث قالت: "لقد اغترفت القصيدة العربيّة المعاصرة من واقع أخضب تجربتها الشّعوريّة، و ألهمها كثيرا من الأبعاد التّأمّليّة أفاضت عليها من جانبيْ الشّكل
و المضمون." (1)
2-المدخل البصريّ:
"كنتُ أعلّقُ وجهي خلف الباب" ديوان شعريّ للشّاعر التّونسيّ فتحي ساسي من الحجم المتوسّط ورد في مائة و ستة عشرة صفحة، عن دار بورصة الكتب للنّشر و التّوزيع، تضمّن أربعة و ستّون قصيدة.
قبل الغوص في خبايا الدّيوان نتوقّف عند عتبة الغلاف الخارجي حيث نلاحظ أنّ اللّون الأسود يطغى عليه ثمّ اللّون البرتقالي فبعض الأبيض، يظهر لنا خيال رجل يضع قبّعة على رأسه و نراه من الخلف بلون قاتم تحيط جزأه الأعلى (الرّأس و الكتفين) دائرة برتقاليّة بينما يعلو الغلاف مستطيل أبيض كتب عليه اسم الشّاعر بالبرتقاليّ و عنوان الأثر بالأسود. و لولا هذا البياض لأبحرنا في عالم مظلم منذ البدء، فالبرتقاليّ بما هو لون حيويّ يشعّ بالطّاقة و يبثّ الحرارة و الدّفء اللّذان يميّزان لون الشّمس بالمشاهد ذلك لأنّه ناتج عن مزج لونين قويين، فهو خليط من الأصفر الّذي يرمز للفرح و السّعادة مع الأحمر الّذي يعبّر عن الطّاقة الأمر الّذي يجعله لونا مميّزا يحمل معه سلسلة المعاني و المشاعر المبهجة و الدّافئة في نفس الوقت، كما يمنح هذا اللّون الشّعور بالسّعادة و الطّاقة العاطفيّة الّتي تدفعه للتّعاطف مع نفسه حيث أنّه لون مليء بالحياة يساعد الإنسان على تجاوز خيبات الأمل و أوجاع القلب الّتي تؤثّر على كبريائه...
كما أشارت بعض المراجع أنّ اللّون البرتقاليّ الدّاكن أو الغامض خاصّة، مثلما في الغلاف، يشير إلى الكبرياء و الغرور و الغطرسة و عدم المبالاة بمشاعر الآخرين و احترام الذّات بشكل مبالغ فيه إضافة إلى الخداع و عدم الثّقة.
إذا كان الأمر كذلك، فهل ترانا سنتعرّف على ذات متكبّرة مغرورة بين سطور الدّيوان؟ فلماذا هذا السّواد الّذي يحيط هذا الرّجل( الخيال)؟؟ لقد جاء الرّأس بما هو مكمن الفكر و العقل تظلّله قبّعة سوداء بلون أسود و كلّ ما يحيطه أسودا، و يعدّ اللّون الأسود أيضا لونا قويّا يرمز إلى الصفّ و الأناقة و الثّروة... و في علم نفس اللّون يرتبط اللّون الأسود بالحماية من الجهاد العاطفيّ، إنّه يخلق حاجزا بينه و بين العالم الخارجيّ، يوفّر الرّاحة بينما يحمي مشاعره و يخفي ضعفه و انعدام الأمن و انعدام الثّقة، كما يعبّر اللّون الأسود عن امتصاص جميع الألوان و غياب كلّ الضّوء و هو يخفي الّأشياء... بينما اللّون الأبيض ينقلنا إلى الضّوء. فما يُخفي عنّا الشّاعر "فتحي ساسي" بين سطور ديوانه "كنت أعلّق وجهي خلف الباب" ؟؟ و مع اختيار الشّاعر لغلاف ديوانه اللّونين القويّين ( البرتقاليّ و الأسود) نجده قد جمع بين التكبّر و الغموض في آن، فجاء عنوان الدّيوان الشّعريّ "كنتُ أعلّقُ وجهي خلف الباب" مترعا إصرارا و غطرسة لماض ولّى... يأتي الشّاعر ليُزيح عنه اللّثام: كنتُ: ناسخ "كان" في زمن الماضي مع المتكلّم المفرد (أنا) تلاه فعل أُعلّقُ: يُعلّق تعليقا فهو معلّقٌ و علق بمعنى وضع، علّق الشّيء على غيره: رتّبه عليه، فهو قد وضع وجهه خلف الباب، و الوجه هو ما يواجهك من الرّأس: العينان، الجبهة، الأنف، الخدّان، الفمّ.
إنّ الشّاعر قد اختار أن يُعلمنا بما قام به في زمن الماضي و هو أنْ وضع وجهه و ما حواه الوجه خلف الباب، و خلف الباب بمعنى وراءه لا أمامه و هو أراد بذلك التّستّر على أسرار رآها أو لاحظها أو ربّما سمع عنها و لا يجوز كشفها... فلمَ هذا التّصريح إذن؟ و ما الغاية منه؟؟
هكذا نستنتج أنّ الشّاعر قد انتقى لوحة الغلاف عن دراسة و دراية فوظّفها أحسن توظيف خدمت العنوان و رسمت لنا بعض ملامح ذات المؤلّف، و ينجلي لنا ذلك مليّا عندما نلج الدّيوان فنجده قد قسّم المجموعة الشّعريّة إلى قسمين: قسم أوّل "قصائد مفخّخة" و قسم ثان "قصائد بلا ظلّ" تراوحت العناوين بين اللّفظة الواحدة ( الغيمات، كعادتي، قالت، الفينيق، حلم، مزاج) و بين المركّب ( نملة صغيرة، شجرة عالية، النّبيّ الممدّد، تنهيدة قطار، على القصيدة، الضّحكات المكدّسة، أحمر شفاه، على الرّصيف، أصابع اللّيل، الرّسائل المنسيّة، القبلة الأخيرة، حديث زوربا) و بين الجملة الفعليّة تارة و الاسميّة تارة أخرى ( دعيني أكمل قصيدتي، سأظلّ وحدي داخل النّصّ، سأقرأ عليك قصيدة جديدة، أرغب في النّوم، تتقاطر على الوسادة، كنت أعلّق وجهي خلف الباب، تستفزّني الكائنات، لم تخبرني يا أبي، لن أجد أحدا، خذيها من يدي... و فوق المزهريّة بقليل، أعلى من الدّهشة بقليل، عاجز عن رسم وردة، اللّيل أصبح عاريا، العالم أصغر من القصيدة، ضفدع في بركة ماء، خلسة من ثقب الباب، ذلك الرّجل الواقف، تجاعيد لكتابة قصيدة، العصفور الّذي ينقر الحصاة، نجمة تلهو، لو كانت حبيبتي، سحابة في كأس النّبيذ، منذ بدء الخليقة، هي بعيدة هناك)
إنّ الشّاعر يبسط لنا مناخ اهتمامه الوجوديّ دونما مشقّة مترعا بلغته الّتي كوّنها و صوره الشّعريّة البسيطة و الّسهلة و الصّعبة في نفس الآونة لأنّها تحمل عدّة إيحاءات و دلالات فكريّة لا ندركها إلّا بعد قراءة الدّيوان عديد المرّات و نغُوص في معانيها...
الجدير بالذّكر، إنّ رصدنا للمشهد الظّاهريّ و الشّكليّ للأثر يجعلنا أمام "مونولوج" من نوع خاصّ لشاعر يسمو بمكنوناته و قد اختار له عالما لن يضيره ألّا تشاركه فيه فهو:
"كنتُ هكذا...
منذُ بدءِ الخليقة.
أكنسُ لعابي ككلبٍ مسعورٍ.
القلقُ و العزلةُ صديقان حميمان.
و أنا... في بهو الكتابة طفلٌ غريبٌ.
ما زال يمصّ أنامله أمام بنت الجيران." ص102
فجاءت القصائد معزوفات قصيرة قُدّمت لنا بحرفيّة مبدع اختار هذا المسار عن وعي تامّ، قصائد تواكب وتيرة الحياتي اليوم فهي بنت عصرها رغم أنّه أعلن لنا قائلا:
"فأنا لا أملك جوّالا، و لا حسابا إلكترونيّا، حتّى إنّكم
لن تسمعوا صوتي القادم من مجرّةٍ بعيدةٍ." ص98.
3-البيئة الشّعريّة:
إنّه الشّاعر الّذي عرفناه أنيقا متّزّنا، قد خلق له عالمه الخاصّ بين أوراق يبثّها أسراره، قلّما نلمح خياله هنا أم هناك في ملتقياتنا أو أماسينا الشّعريّة و هو العاكف على العمل الدّؤوب فيحرص على الكتابة و الإصدارات المتتالية هنا و هناك... لعلّ الظّروف الّتي عاشها شاعرنا قد أثّرت على منحى الأثر الّذي بين أيدينا، فهل تُراها ذات تصرّ على البقاء في زمن مضى و ولّى؟، مشحونة كبرا و احتراما لذاتها دون انصهارا في العالم اليوم؟ صانعة عالمها الخاصّ.
4-الاحتمالات المتحرّكة في النّصّ: شكلا و مضمونا:
هي لحظات مدهشة تملأ الكون برائحة الشّغف و تراتيل من نوع خاصّ مترعة أملا و ضياء بين خبايا الرّوح رغم الشّعور بالوحدة و الوحشة فيُعلن:
"حين أكونُ وحيدا...
أفتحُ في باب القصيدة ألفَ نافذةٍ،
و أُفجّر ظلّي على المرايا المعلّقة،
في جفن نجمة حائرة..." ص22
فالوحدة ولادة أخرى كانبعاث الحلم فهو شاعر ينتظر ولادة حقيقيّة لقصيدة جميلة و ذلك كلّ ما يحتاج إليه كأنّه يستغني عن هذا الكون ليسمو بروحه هناك أين العُروج إلى عالم الأرواح و المُثل و قد غذّى ديوانه هذا بمفردات من قاموس صوفيّ فأطنب في هذه الرّحلة الرّوحيّة:
"لم أجد لونا في علبة الرّوحِ، يليق بكلّ هذا البياض،
و لم أجد حبرا يمكن أن يسكنَ كلّ هذا الكون." ص24
و يقرّ بصيغة التّأكيد الّذي لا يدعو للمخاتلة باختياره الوحدة:
"سأظلّ وحدي داخل النّصّ مسجونا كألف النّداء.
أحرجُ الكلام كما يحلو لي...
كي لا أسقط خارج السّطر.
أنا في قصائدي خلاصٌ جميلٌ و بوح يفيضُ عن المبتغى." ص26
يظهر تمجيد الأنا، الذّات بوضوح جليّ حيث لم تقتصر الأفعال في الدّيوان على ضمير المتكلّم المفرد( أفعال مصرّفة مع ضمير المتكلّم المفرد:أنا) بل مفردة "أنا" قدّمها لنا في تسعة و عشرين مرّة(29) هو غارق في أنّاه، بذكرياتها و ما تحسّه و ما استخلصه من الحياة فهو قادر على كلّ مستحيل، إنّه يطير حين يقول:
"و طرتُ أخيرا داخل الغُيُومِ،
وحْدي، حينَ غرقتُ في البُكاءِ." ص29
فالعالم صار عنده صغيرا جدّا يقول:
"العَالمُ أصغرُ من قصيدةٍ..." ص31 ، هذا هو العُلُوّ بالذّات و الغلوّ في رسم معالمها الخاصّة و ذلك شيء ينبع من ذات الشّاعر و حقيقته بكلّ صدق و أمانة، يسمو بذاته:
"هكذا سيقالُ عنكَ أنّك حَدَاثيّ مثلي تمَاما، تُغامرُ على البياضِ كطِفلٍ." ص31.
و هو غريب الأطوار حينا:
"لكنْ لي رغبات غريبة لا تشبهن أيّ رغبةٍ أخرى،
مثلا أن أضاجِعَ كلّ نساءِ الكونِ دفعةً واحدةً،
أو أن أضاجع نملة." ص32
لكنّه يبقى طفلا صغيرا متشبّثا بمرحلة عمريّة يراها جميلة رغم بعض الرّفض لها:
"كطفل صغير تعثّر على خدّ اللّيل." ص35.
هو شاعر قد اختار الوحدة إذن إذ لا يحتاج لغيره:
"وحيدا في سمائي... كإلهٍ بلا طينٍ."ص 37 . هو مصرّ على تجميل العالم بطريقته الخاصّة:
"حين أرغب في النّوم.
عادة لا أذهب إلى فراشي.
إنّما أفتح ثقبا في الحلم، لأرى العالم أجمل،
أو أفتح شرفة في قصيدةٍ." ص41
و هو الصّاعد حذو غيمة تارة و نجمة تارة أخرى (ص 42) و تبقى سماؤه بعيدة بل هو المتحكّم في عناصر الطّبيعة كأن يضع الشّمس على الطّاولة ( ص45) أو يعبئ جيبه بالنّجوم (ص 46) و هو الّذي بإمكانه تمزيق الرّيح يقول:
"لكنّي دون سابق علم أجهل وجهة الرّيح،
و رغبة منّي كي أعيد طفولتي الأولى،
أمزّقها دفعة واحدة..." ص47
في النّهاية هو شاعر له القدرة الواسعة على التّأثير بكلّ ما يحيطه من كائنات و عناصر الطّبيعة و يقيم جلسات شعريّة مع "زوربا" و "بورخيس" و يرسل إليهم برسائله فله علاقة متينة بهم.
هو الشّاعر الصّانع المستحيل إذ يعلن لنا:
"اللّيل سقط في الظّلام،
سأجمع كلّ النّجوم، و ألقيها في الضّياء.
و أعيد حياكة السّماء على طريقتي.
يمكن أن أرتّب النّجوم تحت السّرير.
نجمة قرب نجمة.
و يمكن كظلك أن أضع القمر في مسمار فوق الباب،" ص55.
هذا الصّانع للمستحيل هو في مأمن ما دام في عالمه الصّغير( المطبخ، بيت الجلوس، على شرفتي، في حديقة منزلي، غرفة...) هذا العالم يمنحه كلّ طاقة فهو بإمكانه أن يحقّق ما يريد فنراه قد انزوى في مكتبه مكبّا على الكتابة، هو ببساطة صانع محترف و رسّام مغامر و طقوسه تسمو به و تزيده ترفّعا كما أخبرنا "يلوّن البياض كرسّام بارع". هذه الذّات المسافرة في عالمها تنكشف لنا بكلّ تجرّد لنراها متشبّثة بماضيها فشاعرنا هنا قد وصف لنا ما علق بذهنه لأنّها مرتع لأحلامه الجميلة. و تستمرّ هذه الذّات الشّاعرة في الانكشاف في كلّ ما يحيطها...
و يقدّم لنا صاحبها الشّاعر "فتحي ساسي" ما توصّلت إليه هذه الذّات فيقول: كلّ هذا العالم وهم." "الظلّ هو الحقيقة المطلقة". في الباب الثّاني من هذا الدّيوان حيث وسّمها: "قصائد بلا ظلّ". ها هو يقدّم لنا خلاصة الوجود عنده حين يقول:
"تُتقن الكتابة و الاستعارة، و تغامر جيّدا في بنيويّة النّصّ.
مثبتا جدارتك في الحديث عن الغربة في الشّعر التّونسيّ،
و عن مشاكل الحداثة و النّصّ المفتوح.
مع كلّ هذا لا عليكَ أثبتَّ في مكانك... القصيدة ها هنا،
و من يعنيه أن تقلقْ؟" ص 64.
هو المشحون بالثّقة في النّفس و المغامر "أغامر كنصفِ إلهٍ و لا شيء عندي..." ص67. فيظلّ يغامر على شاطئ الكلمات، و يتعالى صوت الأنا بداخله على مدى لوحات الدّيوان إذ يعلن صراحة:
"و أنا واثق إنّك لن تأتي..." لقد أصبح شاعرنا نجما:
"فلا ترحل بعيدا، أنا مثلك صرتُ نجما في ليل العبارة." ص71.
بيد أنّه يبقى الطّفل المتشبّث بالبراءة "مسافرا كفرح طفل خلسة من كلّ الأمكنة" كأنّه يخجل من البوح بطفولته و براءتهᵎ هو ارتباط وثيق بمكانه الضيّق( الغرفة، البيت، الشّرفة ) يسافر من خلال إطلالة منهم في العالم الرّحب... و ذلك يبيّن لنا علاقة الشّاعر بالمكان و مدى اتّصاله به رغم صغره، من هنا يمكننا القول "إنّ المكان في الأدب هو أحد الأركان الرّئيسيّة الّتي تقوم عليها العمليّة الشّعريّة و السّرديّة حدثا و شخصيّة و زمنا، فهو الشّاشة المشهديّة العاكسة و المجسّدة لحركته و فاعليّته." (2) فالشّخصيّة هي ذات تصنع عالمها الخاصّ لا تتنصّل من ماض جميل مؤلم و هي بين زمن الماضي و الحاضر تستلهم ترسم لوحة فنيّة كرسّام و تتأمّل و ذلك هو الشّاعر و الشّعر ليس سوى تأمّل و حلم و خلق لعالم خاصّ، إنّنا إذ غصنا في عوالم الشّاعر "فتحي ساسي" نجدنا أمام سيرة الأنا مكتوبة على فترات العمر بما تحمله من مشاعر و ما يخالج النّفس... فالسّيرة الذّاتيّة هي سيرة شخص يرويها بنفسه كما فعل شاعرنا بصوره هو و قاموسه الخاصّ. لعلّنا نقف إلى جنب ما ذهب إليه أصحاب المنهج التّاريخي: "تعتبر السّيرة الذّاتيّة ظاهرة حضاريّة تنشأ و تتطوّر في ظروف معقّدة و ضمن سياق اجتماعي ثقافيّ ذي طابع محدّد." (3)
هي لوحات من واقع صاحبها عاشها على مراحل عمريّة جاءت بكلّ صدق و أمانة، فهو الوحيد دوما المترع أحلاما، الهارب من القلق إلى حلم جميل:
"أخرجُ من الحلمِ رغم أنفي هاربا من قلقي..." ص76. لذلك اختار العزلة لأنّ الكائنات تستفزّه: "
"فالعزلة تعرفني جيّدا...
و لا شيء يكفيني غير قصيدة واحدة تنخرُ رأسي.
و تُبعثر اللّيل في دمي." ص78.
بل و يؤكّد على العلاقة المتينة بينه و بين الوحدة و العزلة:
"فالقلق و العزلة صديقان حميمان." ص102. و هو مع ذلك لا يريد بعض ماضيه حين يقول: "... و يلبسني كرصاصة." ص85.
لكنّه يبقى طفلا: "و أنا كطفل وديع." ص87. ها هو يتخلّص من عاداته أو تفاصيله الجميلة حينما يُعلم أمّه في قصيدة "صرت هكذا يا أمّي." ص89.
رغم هذا التّحوّل الّذي أعلنه يبقى طفلا يلعب بقلبه كالأطفال فهو "طفل غريب" ص102.
الإيقاع الدّاخلي: نلحظ أنّه ثمّة بالدّيوان "كنتُ أعلّق وجهي خلف الباب" لصاحبه "فتحي ساسي" موسيقى مغايرة تماما لما ألفناه في الشّعر (العروض، الوزن، القافية) لكنّ هذه الموسيقى تنشأ من خصوصيّة اللّغة الشّعريّة و المناخ الّذي ترزح فيه الكتابة. فالقارئ لهذه القصائد يسمع موسيقى ذات إيقاع متوازن فيه السّرعة طورا الإسراع طورا آخر فالعودة إلى العزف الهادئ... فنلاحظ اعتماد الشّاعر لعناصر تساعد على ذلك كالتّكرار الّذي برز كثيرا بالأثر فمثلا تكرّرت مفردة: "قصيدة، قصائدي" اثنان و عشرين مرّة. مفردة "أنا" تسعة و عشرين مرّة. " هناك" عشر مرّات. و كذلك تكرار مفردات أخرى: النّجمة، السّماء، الشّعر، الوحدة، أفعال مسندة للمتكلّم المفرد (أنا) و هو يساعد على الإمساك بالإيقاع الموسيقي حيث يعتبر "الإيقاع الدّاخليّ هو بنية جوهريّة للنّصّ كما ذهب إليه دكتور "نعيم اليافعي": "إنّ الوزن أساسه الكلمة بينما الإيقاع أساسه الجملة أو الوحدة". قد لا نسير معه فيه حيث نجد مستوى صوتي حاضر بإطناب كالتّكرار بشكل عامّ، و هناك مستوى دلاليّ كالتّقديم و التّأخير...الخ، فـ" تعتمد إيقاعا جديدا يستمدّ أغلب مقوّماته من نظام الحركة و طرائق تفاعل العلاقة الدّاخليّة الّتي تؤسّس مجتمعة بنية النّصّ ذاته، لكنّ هذا الإيقاع الجديد لا ينفي القديم أو يلغيه بشكل نهائيّ صارم." (4)
إضافة إلى ما تقدّم ذكره، نجد الشّاعر يعرّفنا طقوس كتابته الشّعريّة في قصيدة: "على الرّصيف" يقول:
"هكذا يكتبُ الشّعرُᵎ
على قارعة الطّريق... أو على الرّصيف،
أو على إسفلت أحلام معلّقة في أرجوحة." ص93. و تبقى المرأة أو الحبيبة هي الغيمة أو السّحابة أو هي "بنت الجيران":
"و ما زلت كعادتي أحبّ اللّعب
مع بنت الجيران..." ص 96.
"و أنا... في بهو الكتابة طفل غريبٌ.
ما زال يمصّ أنامله أمام بنت الجيران." ص102.
و هي سيّدة في الغياب:
"سيّدتي في غيابي...
لا تشعلي النّور، فقط مارسي شغفك في الغياب." ص94.
الختام:
في الأخير، ديوان "كنت أعلّق وجهي خلف الباب" هو بحث صاحبه "فتحي ساسي" عن النّسيان و التّخلّص من ذاكرة متعبة، مرهقة، هي رسائل ذات موجوعة و في الوقت نفسه ذات قويّة تصنع عالمها الخاصّ فلا حاجة لها بالآخر، هو يرقى عن الأوجاع بتمكّنه من النّسيان فلا يذكر:
"هذا كلّ ما أتذكّر،
فقد نسيت حقيقة الأشياء،
تلك الحقيقة الرّابضة في مفترق القصيدة." ص100
في الحقيقة، هو الخجول الّذي لا يتقن سوى الشّعر كتابة ليعبّر عن ذاته المترعة نُضوجا و عُلُوّا و المحبّ للشّعر المقفّى: "مازلت أحبّ الشّعر المُقفّى". ص107. في المحطّة الأخيرة أو القبلة الأخيرة يتخلّص الشّاعر من براءته و تعلّقه بمراحل عمريّة عاشها و برغبة مكبوتة في بناء عالم خاصّ ليكون الخريف قد حلّ و لن يرحل و لن ينتهي" ص109.
هي مرحلة عمريّة يبلغها الإنسان، كما الطّبيعة، إيذانا بميلاد أشياء أجمل و أنضج و أبهى، خريف تتهاوى فيه بعض المشاعر الّتي قد ننساها لتنمو أخرى...
"كنت أعلّق وجهي خلف الباب" ديوان رصين له من الصّدق و القوّة ما يجعله إضافة راقية إلى المكتبة الثّقافيّة العربيّة بكلّ فخر.
المراجع:
1-"سيمياء الأهواء في القصيدة الصّوفيّة المعاصرة" ص63. دكتورة زهرة بن يمينة جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم، الجزائر
2-كمال عبد الرّحمان، ناقد من العراق
3-"قصيدة السّيرة الذاتيّة و استراتيجيّة القراءة في الشّعر الفلسطيني المعاصر" دكتور خليل شكري هيّاس.
4-" في بنية الشّعر العربي المعاصر" دكتور محمّد لطفي اليوسفي دار سراس للنّشر و التّوزيع تونس 1985.
5-إبتسام عبد الرّحمان الخميري: كاتبة و شاعرة و ناقدة ذرائعيّة، رئيسة رابطة الكاتبات التّونسيّات فرع سوسة، سفيرة السّلام بأكاديميّة السّلام بألمانيا مكتب تونس.
الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الجمعة 05-03-2021 04:22 مساء الزوار: 829 التعليقات: 0
|
|