|
|
||
|
(( هاجس الغياب في قصيدة الشاعر ياسر الأقرع)) * الناقد : محمد الحراكي
(( هاجس الغياب في قصيدة الشاعر ياسر الأقرع)) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * الناقد : محمد الحراكي في أبسط تعريف له فإن الهاجس هو تلك الفكرة الثابتة التي تهيمن على النفس وتسيطر عليها، فتشغلها عن كل شيء أو تتسلل في كل شيء يمر في شعابها، حتى تبدو الإرادة عاجزة عن مقاومتها والتخلص منها. وفي النتاج الشعري الثريّ للشاعر ياسر الأقرع عبر دواوينه الستة بدءًا بـ( غدًا تمحوك ذاكرتي عام 1998م) وانتهاء بآخر إصداراته (إذا قيل أنتِ عام 2018م) يتجلى هاجس الغياب بوصفه واحدًا من الجوانب اللغوية/ النفسية التي لا يخطئها قارئ متتبع، أو ناقد حصيف. ولعلّي – على الرغم من ميلي إلى المنهج التأثري في النقد – أرى نفسي ها هنا أقرب إلى المنهج النفسي في قراءتي التحليلية النقدية لهذا الجانب في قصيدة الشاعر، كون القضية التي تجلت في ظاهر اللغة هي قضية نفسية في أبعادها ودوافعها، وما الترتيب الزمني الذي سأعتمده في تناول هذه القضية في شعره إلا وسيلة تخدم تطورات الحالة النفسية للشاعر وأسلوبه في التعبير عما يختزنه في داخله، والذي طفا على سطح لغته ربما دون وعيٍ منه. غدًا تمحوك ذاكرتي – ديوان الشاعر الأول – أشبه بالصرخة الأولى للمولود لحظة الولادة، والعنوان هو أول تجليات هاجس الغياب في نفس الشاعر؛ إذ لا يتحدث عن الذاكرة إلا من بات في قطيعة مع زمن مضى، وراح يعلن تمرده على وجع الغياب، بتوعده بأن الذاكرة سوف تمحو جزءًا من الماضي الغائب متمثلًا بأحدٍ ما...!! غداً.. تمحوكَ ذاكرتي / كسطر من على دفترْ / يخطُّ الطفل أحرفه / ويمحوها إذا يعثرْ ومن يقرأ الديوان الأول يصعب عليه أن يجد شخصية واضحة للشاعر أو موقفًا واضحًا تجاه الأشياء، وربما كان هذا أمرًا طبيعيًا في تجربة أولى غلب عليها التجريب والبحث عن شخصية أدبية تستطيع أن تتجاوز قيود الإبداع الشكلية لتبحر بعد ذلك في عوالم الشاعر العميقة فتستخرج خبايا نفسه، وكوامن أسرارها. مع بداية تبلور شخصية الشاعر واتضاح ملامحها الرئيسة في ديوانه الثاني (عيناكِ كل لغات العشق) يتخذ الغياب شكلًا مختلفًا، هو غياب الـ(ما قبل)، أو لنقل عنه (الانتظار) والحديث عن الانتظار شكوى من غياب ما.. يُنتظر، وفي قصيدة متميزة حملت عنوان ( في لحظة انتظار) يشكل هاجس غياب المحبوبة المنتَظرة حالة نفسية متقلبة تكاد لا تستقر على حال، ومن هذه القصيدة قوله: في لحظة انتظارْ / أعيش ألف حالةٍ.. / أخفّها الدَّمارْ/ أدور مثلما الطيور في سمائها... / تمارس الدوارْ. ومن يقرأ الديوان الثالث للشاعر ياسر الأقرع (الشعر بين قنديلين وجهك والقمر) يستطيع أن يدرك دون عناء أن ديوانه السابق كان كمن يقف على شاطئ البحر يستمتع بجماله ويتغزل بهدوئه وهيبته، بينما في ديوانه الثالث يبدو كمن أبحر حتى بلغ عرض البحر فإذا به يصارع أمواجه ويتلذذ بالغرق فيه حتى القاع. اتقاد شديد في الإحساس، وقدرة مذهلة في التعبير عن الحالة، وتمكن من اللغة التي صارت كما لو أنها تستجيب له بإشارة منه، وفي ذروة الانفعال العاطفي في التعبير عن الحب، يطلّ هاجس الغياب بين السطور وقد تشققت عنه الروح التي يذبحها هاجس الفقد. يقول في قصيدته (إليكِ في يوم ميلادك): تعالي الآن واستلقي بذاكرتي / أريد اليوم أن أمحو بكِ الأبدا فما أهتمُّ بالدنيا وأنتِ معي / ولا أحتاج إن كلَّمتِني أحدا ولا أرضى إذا ما غبتِ فاتنتي / بنار الشوق إن لم تحرقِ الكبدا ثم يتجسد هاجس الخوف ليعتلي ذروة القصيدة فيكون عنوانًا لها، كما في قصيدته (غيابك علمني أبجدية الحزن)، وفيها يقول: أحببتِني.. حتى ملكتُ بكِ الدُّنا / وتركتِ لي نار انتظاركِ موطنا فيمَ الغياب وأنتِ عطر قصيدتي..؟ / هل صار بعدي في عيونكِ هيِّنا..؟ وفي ديوانه الرابع (أنتِ ويبتدئ العمر) يجد القارئ كثيرًا من القصائد التي تصور حرقة الفراق ولوعة البعد، ويتحول الغياب من هاجس يراود الشاعر إلى واقع يغرس أظافره في روح الشاعر، وينعكس صرخةَ ألمٍ في قصائده، ولعل قصيدة (موجع هذا الغياب) تعد تجسيدًا حقيقيًّا لما نذهب إليه، ومنها قوله: ليس للأشياء شكلٌ واضحٌ / كيف أمضي.. هكذا دون اتزانْ..!؟/ أرجعيني من ضياعي / أخبريني.. أين أنتِ الآنْ..؟؟/ أنتِ أغلى ما بعمري من عذابْ / مُوجِعٌ هذا الغيابْ. وفي واحدة من أجمل قصائده (لعينيكِ سحر انتظار القصيدة) والتي ضمَّها ديوانه الخامس( لا.. أحبك) يصّور ياسر الأقرع بطريقة استثنائية حالة انتظار المرأة الغائبة، فتمتزج مشاعر الحزن الكبير مع اللهفة المتقدة، والحنين الذي لا ينطفئ، ومما جاء فيها قوله: لعينيكِ سحر انتظار القصيده / ووحيٌ كوحي الأماني البعيده / وما في غيابك ... إلا الحنينْ/ / أسائل عنكِ انكسار المكانِ / أفتش خلف اندثار الثواني / وأُصغي لوقع خطا العابرين.... لعلّكِ أنت ..! وفي قصيدة أخرى لا تقل إدهاشًا في تصوير مشاعر الغياب والانتظار يقول الشاعر في قصيدته ( في غيابك): يا حبيبي .. حين أسهرْ / يقطر الوقت حنيناً... في غيابك/ تَكْسِرُ الساعات حلماً/ خلف باب الوهمِ/ أعني خلفَ بابكْ. ولا يجد الشاعر ياسر الأقرع معادلًا لغياب المحبوبة إلا الموت، ففي ديوانه (إذا قيل أنتِ) وهو آخر ما أصدره الشاعر حتى وقت كتابة هذه الدراسة، حملت إحدى قصائده عنوانًا لافتًا (غيابك.. موت) فاختزل فيه هاجس الغياب في أوضح تجسيد فنّي له، ومن قصيدته قوله: إذا أنتِ غبتِ../ تصير المنافي ضفافاً لحزني/ تسيرُ الجهاتُ إلى اللاجهاتِ / تضيق البلادْ/ إذا أنت غبتِ../ يُضَيَّعُ عمرٌ من الأمنياتِ ولا يُستعادْ/ إذا أنتِ غبتِ /وحيدين نبقى.. أنا والرمادْ. في حديثنا عن (هاجس الغياب في قصيدة ياسر الأقرع) نقف مبهورين أمام جلال الإحساس، وعظمة التعبير، لنتساءل: أيّ إبداع هذا، وأية عبقريّة تلك التي قامت على تجسيد الإحساس، وإدهاش المعنى، وتكثيف العبارة، وكيف وصل الشاعر في وصف أثر الغياب في نفسه إلى هذا المستوى اللامتناهي من الجنون الشعري..!!؟ وربما علينا أن نشكر أيضًا تلك المرأة الحاضرة الغائبة، التي وصفها في عنوان إحدى قصائده الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الأحد 28-03-2021 05:41 مساء الزوار: 529 التعليقات: 0
|
|