|
عرار:
لا بد للناقد الأدبي من منهج ينطلق منه، دون أن يكون مقيدًا به حتى لا يقع في خطأ قراءة منحازة ذاتية فيفقد مصداقيته. من هذا المنطلق، رأيت ألاّ أخوض في مغامرة نقدية شاملة لديوان "القصائد الدافئة" للمربي الشاعر حسين جبارة قد لا تعطي هذا العمل قيمته الأدبية واكتفيت بالتعليق على هذا الديوان بصورة بانورامية شاملة. صدر حديثًا ديوان شعر جديد بعنوان "القصائد الدافئة" للمربي والشاعر حسين جبارة، يتضمن الكتاب ستة فصول شعرية، ينفرد كل فصل منها بمجموعة قصائد مختلفة المضامين. استهلّ الفصل الأول بعنوان "وطنيات" واشتمل على خمس وثلاثين قصيدة، وتبعه الفصل الثاني بعنوان "شخصيات" ليضم ثلاث قصائد طويلة، ويليه الفصلان: الثالث بعنوان "غزليات" والرابع بعنوان" تفاؤليات" ليشتمل كل منهما على سبع قصائد، أما الفصل الخامس من الديوان فقد كان بعنوان " مدرسيات" وخصصت له أربع قصائد، واختتم الديوان بالفصل السادس بعنوان متفرقات" وسجلت فيه ست قصائد. ولعله من غريب الأمر أن ينفرد كل فصل منها بمجموعة قصائد ربما اختلفت في الموتيفات والمضامين المطروحة من جهة، وتساوت في الشكل واللغة والبناء الشعري من ناحية أخرى؛ لتصبح كباقة ورد مزركشة الالوان تفوح رائحتها العطرة في كل مكان، لكنها وضعت في أنية ضيقة وخانقة حتى كادت تفتر وتذبل وتموت بدلاً من يتم تنسيقها في إطار لوحة بانورامية شاملة وبنية واحدة تزيدها جمالاً وبهاء. ولعل هذه المحاولة الشعرية هدفت إلى تفسير الواقع المعيش وتحليل مستوياته الطبقية بواسطة الشخوص والمشاهد والصور والمواقف المختلفة، الأمر الذي جعل الديوان بعيدًا عن أن يكون وحدة مترابطة ومتناسقة، خاليًا من الصورة الكاملة أو الفكرة الواحدة مما قد يحدث شعورًا بالملل أحيانًا. علمًا أنّ نظرة متأنية للقصائد المختارة في هذا الديوان تكشف أن جميعها دون استثناء، تحمل في طياتها معاني الطبيعة، والوطن، والحب، والتراوح بين الوجدانية والتأملية. ويبدو أنّ موضوع الوطنية وحب فلسطين واهلها المناضلين من أهل مدينة الطيبة أو القرى المجاورة يحتل مساحة شاسعة من هواجس الشاعر الوجدانية، حتى أنه يُظهِر في القصائد العاطفية، حب بلدته الذي تقاطع ما زال يتقاطع مع تفاصيل حياته اليومية. وربما اتضحت هذه الصورة بشكل جليّ لدى مراجعة ما جاء في القصائد التالية: إنني أم الوليد، مع صالح برانسي، فلسطين داري، عشق الوطن، الانتفاضة الثانية. حسن البشارة ...ألخ لا شك أن هذا النشاط الكتابي والمخزون الثقافي والفكري الذي تماهى في ذهنية المربي والشاعر حسين جبارة كان يكبر ويتفاعل في فكره ومخيلته مع تقدُّمه في السن، ولعل كثرة ما يكتب الآن مقارنة بالقلة التي عُرِفَتْ عنه في السنوات الماضية، والتعطش المستمرّ للإنتاج الشعري الرومانسي الغنائي الذي كان محصورًا ومخزونًا في ظرف محكم الاغلاق في اطار الوظيفة الادارية، ما لبث أن خرج من هذا الحصار الوظيفي الروتيني الثابت حتى انكشف الغطاء وزالت الغمة؛ فانطلق يسمو بمخزونه الثقافي الفكري واشعاره المعتمدة ليصل بها وتصل به إلى أبعد من حدود فلسطين. الأمر الذي يحمله مسؤولية جديدة وهي حفظ راية الشعر العربي في بلادنا فهو لم يبد اهتمامًا بارزًا بالرواية أو القصة العربية، وأنّ أغلب اهتماماته خصصت لكتابة الشعر العربي بأسلوبه وشكله ومضمونه. والعودة إلى مناقشة ما ذكر في الديوان تبين لنا أنّ الشاعر كتب معظم قصائده في فترات زمنية متباعدة تزيد عن 15 عاما، مَرَّت خلالها بالشاعر أحداث كبيرة: خاصة وعامة. فحياته غنية وعريضة يملؤها الأصدقاء، ومخيلته طافحة بالمستجدات الأدبية والفنية والتأملات القلقة التي لا تغيب عن فكره. شاعر ملتزم بقضايا وهموم أمته العربية، وشغله الشاغل البقاء والثبات في ظلال الصراع النفسي والاجتماعي الذي تعرض له المثقف العربي منذ نكبة فلسطين التاريخية والتغني بشخوصها وأبطالها ومناضليها والسير على نهجهم. إنّ ما يميز كتابة الشاعر حسين جبارة في هذا الديوان هو مقدرته الواضحة على المزج ما بين واقعية الكلمات والمعاني من ناحية ورمزية اللغة الشعرية المتخيلة، وما جاء استخدام الكلمات والتعابير المألوفة لعامة الناس في جميع قصائد الديوان عامة، الا بهدف عدم ارهاق القارئ في البحث عن معاني الكلمات في المعاجم اللغوية المختلفة. ولعل هذا المنهج الابداعي يتخذ اتجاهًا جديدًا في تجربة الشاعر حسين جبارة لتأتي مواكبة لمرحلة جديدة من التحولات السياسية والاجتماعية في تاريخ أمتنا العربية بعامة. وربما كانت هذه التجربة نتيجة مباشرة من نتائج الرصد والتعبير الشعري المعاصر. وإذا تأملنا القصائد الاولى من الديوان يجد أن محاور التعبير التي اعتمد عليها الشاعر في بناء قصائده الشعرية على وجه العموم وفي مستوياتها المختلفة: الايقاعي والأسلوبي والتشخيصي واختيار اللغة والمضمون كانت من منظور انساني وجداني خالص. وهنا لا بد لنا من الاشارة إلى أن النقد الحديث يدعو إلى ضرورة أن تكون اللغة الشعرية لغة خلق وابداع، تشير إلى دلالات غير مألوفة، ولغة تفوق لغة الناس، وألا أصبحت لغة الشعر مجرد ألفاظ نحوية أو صوتية ايقاعية. والحقيقة التي يجب أن تؤكد هنا، أنّ القصيدة الشعرية صناعة خاصة، لها أصولها وقواعدها. فحين يطالب القارئ الشاعر بالتبسيط، يطالب الشاعر القارئ بأن يرتفع في مستوى فهمه، يتعمق ويبحث إلى أن يدرك ما يقال. فالنظرة الجديدة للشعر تجاوز لغة الكتابة بحسب الكلام إلى لغة الكلام بحسب الكتابة، ونقصد في ذلك ألاّ يكون اللغة المكتوبة هي اللغة المحكية المعروفة للناس، وإنما نقول لغة نكتبها، وقد يكون ذلك بإفراغ الكلمات من معناها المألوف، وبدل أن يكون الشاعر جزءًا من اللغة، تصبح اللغة جزءًا من الشاعر. وخلاصة القول: أن الشاعر حسين جبارة في ديوان "القصائد الدافئة" لم يكن مقلدًا مفرطًا في تجربته التي استلهم فيها الذات والوطن والآمال، ولكنه على الأغلب كان كلاسيكيًا في رصده للواقع الاجتماعي المعيش، ودعوته التي انطلقت من نفسه ووجدانه ليستوعب الوطن الكبير بتاريخه، وثقافته، وقضاياه، وشخوصه السياسية والوطنية، وتحولات الواقع ومشاكله الماضية والحالية من خلال القصيدة. وفي هذا الديوان يحاول الشاعر حسين جبارة أن يتجه إلى استخدام المحاكاة الخاصة لتجاربه الذاتية بصورة تفوق توجهاته العامة، وقد لاحظنا أن انحيازه الكتابي للمضمون في سياقه الاجتماعي في القصائد المختارة كان أكثر حضورًا من الصياغة الشكلية البنائية للقصيدة وابراز القيم الجمالية فيها. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الإثنين 07-05-2018 09:31 مساء
الزوار: 1297 التعليقات: 0
|