د. إبراهيم خليل مما لا جدال فيه، ولا ريب، أن علم الدلالة اللساني، أو ما يعرف بـ semantics يحظى بنصيب الأسد من اهتمامات اللسانيين في الحديث والقديم. ولا نظن أن في الدنيا لغة لم تعرف صناعة المعجم في قديمها. وصنعة المعجم كيفما كان الأمر ضرب من التفكير المبكر بالدلالة، وبعلم المعنى. وفي القرن 19 ظهر هذا المصطلح في عنوان كتاب لميشيل برايال Bre›al 1832- 1915 تناول في الضوابط، والمعايير، التي تتحكم بالألفاظ وبعلاقاتها المياشرة وغير المباشرة في الدلالة على المعنى، واختلاف هذا المعنى مع بقاء اللفظ من حين لآخر على ما هو عليه دون تغيير في مبناه. مشيرًا لدور السياق في إزالة الغموض عن هذا الاختلاف. وتبعا لذلك تفتحت أنظار اللغويين في العصر الحديث على حقيقة كان القدماء قد أدركوها، وإن لم يعطوها ما هي جديرة به من عناية، ألا وهي العلاقة المرنة، والرجراجة، والمتغيرة، بين الدال والمدلول. ففي أوائل القرن الماضي حسم دو سوسير Saussure هذه المسألة بادعائه أن العلاقة بين اللفظ ومعناه علاقة عشوائية Arbitrary وليست طبيعية جوهرية، كعلاقة الدخان بالنار، أو الغيم بالمطر. مستثنيًا بطبيعة الحال بعض الكلمات المعروفة في اللغات، مثل رنين، وخرير، وصهيل، وصليل، وزعيق، وقهقهة، فمثل هذه الألفاظ دلالتها على مدلولاتها كدلالة الدخان على النار، والغيم على المطر. وقد واصل هربيرت بركلي كغيره من اللسانيين البحث في هذا الموضوع، فصنف كتابا بعنوان « مقدمة إلى علم الدلالة الألسني « تجاوز فيه الشرح المبسط للمفاهيم الدلالية التقليدية من علامةٍ، ومرجع، ومقابلة بين الدال والمدلول. والكتاب ليس عرضا للنظريات اللسانية، ولا تتبعا لمجريات التطور الدلالي في علوم اللغة، لدى كل من مدرسة جنيف، وكوبنهاجن، والمدرسة الإنجليزية، مرورا بالتوليدية الدلالية، والبراجماتية عند موريس Morice وعند جون أوستن Austin وما يعرف بالتداوليات، والكفاية التواصلية. ولن نلقي في هذا المقال الضوء على الكتاب بعرض أفكاره، أو محتواه، بقدر ما ننطلق منه لإيضاح فكرة علم الدلالة الألسني. الفلسفة والمعنى لا بد من التنويه بداية إلى الفرق بين نظرة علماء اللغة، ونظرة الفلاسفة إلى المعنى. فالفلاسفة اهتموا بالعلاقة بين اللفظ ومعناه من حيث المنطق. فتطرقوا لعلاقة المساواة، وعلاقة الاقتضاء، وعلاقة التضمين. ولهذا يصنف علم الدلالة المنطقي بالنموذج الشكلي، في حين أن علم الدلالة عند اللسانيين علمٌ تجريبيٌ، لا شكلي. كونه يعنى بمضمون العلامة اللغوية، والتراكيب التي تتألف بدورها من علامات. ولهذا عرفت الحقبة التي تلت الاتجاه السوسيري بالحقبة السيميائية، وأبرز ما في هذا التوجه هو النظر للعلامة على أنها واحدة من سلسلة علامات تؤدي وظيفتها الدلالية في إطار من هاتيك العلامات، تندمج فيه. وهذا يماثل ما هو معروف في الرياضيات. فكما أن الرقم 1 يدل على هذا العدد من حيث أنه أقل من 2 وأكثر من صفر، فكذلك الكلمة تدل على معناها من حيث أنها هي هي، وليست غيرها. فكلمة حصان – مثلا- ترمز إلى هذا المعنى – حي ، ذكر، بعرف، وأربع قوائم – وليس فرسا لأن الفرس يمكن أن تدل على المذكر، وعلى الأنثى. والعلامة اللغوية إن كانت (حصان) أو غيرها، هي شكل مادي مسموع ويمكن تمثيله عن طريق الكتابة، وله قابلية الاندماج في تركيب خطي يتألف من فاعل وفعل ومفعول (الحصان يأكل شعيرا) ولما كانت هذه هي طبيعة العلامة اللغوية، فقد وجب أن تراعى في استعمالها ما يحتاج إليه هذا الاستعمال من قواعد دلالية. وهذا ما كان يرمي لإيضاحه كل من شارلز موريس، وفيتنغشتاين، بقولهما: «لا تبحث عن معنى الكلمة بل عن استخداماتها» فهي يمكن أن تكون في بعض الاستخدام مؤشرًا مثل هذا، والذي، وكذا، و هنا، وهناك، وغيرها كقول الشاعر: هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأته والبيْتُ يعرفه، والحلُّ، والحَرَمُ فالناظم يتحدث- ها هنا - عن شخص ما لكنه أعرض عن ذكره، وذكر اسمه، مُكتفيًا بالعلامة التي تشير إليه تاركا للمخاطب أن يستوفي ما يختص بهذا الشخص من علم. وقد تستعمل العلامة اللغوية للدلالة على خصائص ينبغي لها أن تحيلنا لما يتمتع به المشار نحوه من إمارات ينْمازُ بها عن غيره. فكلمة (بيت) علاوة على أنها تشير لما يمكن تسميته منزلا، أو بيتا من الشِعْر، أو عائلة من العائلات، فإنها هنا تحيلنا إلى الحرم المكي لقوله والحلّ، والحرم، وتبعًا لهذا، فإن الكلمة (بيت) تتضمن معنى يختلف عن ذلك الذي يتضمنه اسم الإشارة هذا. وأما كلمات مثل شكرا, وآسف، وأعدك، فهي دوالٌّ كاسم الإشارة، وكلمة بيت، بيد أنها تختلف عنها في كونها فعلا منجزا بالتلفظ وحده، وبهذا يفرق اللسانيون بين كلمات إشارية، وأخرى تمْييزيَّة، وثالثة تمثل أفعالا وأعمالا ينجزها المتكلم باللفظ وحده. والألفاظ تكتسبُ القدرة على تعيين المعنى في الوقت الذي لا تني فيه عن الاندماج في سلسلة من التتابُعات. فكلمة (كتاب) مثلا تصلها بالمعاني التي تدل عليها سلسلة من الاقترانات، فالكتابُ الورقي الذي يقرأ، يختلف عن ذلك الذي يعنيه القرآن الكريم بقوله (لكل أجل كتاب: الرعد الآية 38). وهذا أيضا يختلف في مرماه عن ذلك الذي يرمي إليه شاعرنا الجواهري بقوله: أحقا بينا اختلفت حدود وما اختلف الطريقُ ولا الكِتابُ المَعْنى العملياتي وهذا بدوره مختلف عن معنى الكتاب في قولهم عدنا من المحكمة الشرعية بعد أن كتبنا الكتاب. ومن هنا تشكل هذه المدلولات نمطا خطيا في سلسلة متقاربة تتمحور حول جذر واحد يتألف من الصوامت ذاتها في كتب. لذا يضيف بعض اللسانيين قائلين: إن دلالة هذا الجذر على الكتاب الورقي هو المعنى المركزي له وأن المعاني الأخرى التي تدور من حوله هي المعاني الثانوية التي لها صلة ما بالمعنى السابق. فالدلالة المباشرة لكلمة طالب معروفة جدا، فهو شخص ما مسجل في كلية، أو جامعة، لكن هذه الكلمة يمكن أن تستخدم في سياق ما بمعنى طالب ثأر، أو طالب لجوء سياسي، أو « طالب القُرْب « مثلما يقال في اللهجات للدلالة على التقدم لخطبة فتاة ما من ذويها, ونستطيع أن نصف الكلمة الأولى بأنها ذات معنى مركزي أو جوهري مباشر، والأخريات بالكلمات ذات المعاني غير المباشرة، بدليل احتياجها لضميمة ما مثل: ثأر، لجوء سياسي، قرب إلخ... بمعنى آخر لا بد لأداء هذه الألفاظ مثل هاتيك المعاني من شروط. وأما موقع هذه الدلالات، إلى جانب الدلالة المباشرة، فذلك ما يعنيه بعض اللسانيين عندما يتحدثون عن ديمومة الاستخدام للعلامة، وربما كان هذا الذي نقوله هو ما نبه عليه بعضهم عند التفريق بين المعنى الجوهري والمعنى العملياتي. فالمعنى الجوهري لدى كلاوس هو ذلك المعنى الذي يقرِّرُه المتكلم أو الكاتب، والعملياتي هو ذلك الذي يتلقاه السامع، أو القارئ، بعد قيامه بتفكيك شيفرة النص، بسلسلة من الإجراءات التي تتطلبها المادة. وهذا ناتج عن أن الإشارات اللغوية في النصوص تتضمَّنُ- بالإضافة إلى المعنى الجوهري- سلسلة من الاحتمالات. فإذا سمعنا عن طريق الإعلام عبارة الهروب إلى الأمام، أو العودة إلى المربع الأول، أو ذرًا للرماد في العيون، أو طيّ صفحة الخلافات.. فإنّ كلا من هذه العلامات تخلت عن مدلولاتها الجوهرية لصالح المعنى العملياتي. وهو الذي يتصل بمضمون الاتصال الكفْء المنوط بمثل هذه الرسالات. وتبعا لهذا يلتقي علم الدلالة الألسني بالسميولوجيا من حيث أن كليهما يتأول الإشارة ضمن مجموعة من الشروط، في مقدمتها ما يفصح عنه السياق من احتمالات. المعاني والنحو ويفرق بركلي بين المعاني المعجمية للألفاظ والمعاني القواعدية (النحوية) ففي العربية، على سبيل المثال، يمكن للعلامة اللغوية أن تدل على اسم علم، وأن تدل في الوقت نفسه على صفة ، ككلمة (صالح) فهي اسم في قولنا: تغيب صالح عن الدرس. وصفة في قولنا عليٌ رجل صالح، وقولنا: هذا أمر يتفق مع الصالح العام، وربَّ صالح خير من طالح. والواقع أن الذي صرف اللفظة عن العلمية في الأمثلة الثلاثة هو القاعدة النحوية. فالإسناد في تغيب صالح جعل منها اسم علم، وخلو الأمثلة الأخرى منه هو الذي حال بينها وبين العلمية، علاوة على دخول حرف الجر ربّ في المثال الأخير. ومما ينم على هذا ويؤكده أن في اللغات لواصق لا دلالة لها إلا إذا استخدمت وفقا لقاعدة من قواعد النحو. فالحرف S لا دلة له إلا أنهS وليس C أو K ولكن هذا الصوت الأسناني الصفيري المهموس إذا زيد على كلمة مثل cat أصبح ذا دلالة نحوية- صرفية هي تحويل المفرد إلى جمع. وفي ذلك من الفارق في المعنى ما لا يخفى، أو إسناد الفعل المضارع لـ He أو She في مثل He takes. ومن طبيعة اللغات احتواؤها كلماتٍ موحدة المعنى على الرغم من اختلافها في اللفظ. وهي التي توصف بالمترادفات Synonymy وعند بركلي هذا النوع من الكلمات، على الرغم من اختلاف الآراء في ما إذا كانت مترادفات حقا، يضفي على الكلام ضربًا من الإسهاب التداولي. فبعض الأشخاص بدلا من أن يقول قارس في وصفه البرد يقول لاسع، وأخر بدلا من أن يقول أسرع أو ركض يقول هرول. والترادف لا يكون في الألفاظ فقط بل يكون في العبارات والجمل، فيرى بعض اللغويين أن جملة أقلع بطرس عن التدخين لا تختلف من حيث المعنى عن جملة كان بطرس مدخنا . وكذلك كلمة استيقظ بطرس لا تختلف في المعنى عن جملة: بطرس كان نائما. وقد تتضمن الجملة، وتكتنف جملة أخرى، هي مرادفة لها بمعنى من المعاني، فقولنا اشترى جورج الكتاب من باريس، لا يختلف كثيرا عن قولنا اشترى جورج الكتاب، أو جورج كان في باريس. ولا ينبغي لدارس يتناول آفاق الدرس الدلالي ألا يقف بنا إزاء تيار لساني من التيارات المهمة، وهو التداولية، أو البراغماتية Pragmatics ولذا، وتبعًا لهذا، يتوقفب بنا بركلي عند آراء جون أوستن، ولا سيما كتابه كيف نصنع الأشياء بالكلمات How to Do Things With Words الذي يصنف فيه الملفوظات على نوعين هما: تقريرية تصف الواقع، مثل: القط فوق الحصير. وإنجازي غير تقريري كقول القائل: أوصي بثروتي هذه لحفيدي. فالجملة الأولى تصف واقعًا قد تكون صادقة في وصفه، أو كاذبة، في حين أن الثانية لا تصف واقعًا فحسب، بل تنجزه من حيث هي ملفوظ لساني ينقل ملكية الثروة من الجد لحفيده، وهذا يماثل قول القائل: أنا جائع. فليس بمقدورنا تكذيب أو تصديق هذا المتكلم، لأنه بقوله هذا يطلب طعامًا، فإما أن تسمح الظروف بتقديمه فورا، أو الاعتذار، وفي الموقفين يعبر هذا القول عن فعل أنجز بوساطة الكلمات. التشكيل التحويلي والألسنية – بصفة عامَّة- لا تختص بالدلالة من حيث هي علمٌ فحسب، بل تتناول جل التصورات الممكنة حول الأصوات اللغوية، بما فيها
الظواهر الفونولوجية، والنبر، والتنغيم، لأن لهذه الظواهر، في كثير من الأحيان، تأثيرًا غير يسير في المعنى. ولا تفتأ تقف بنا عند التصورات النحوية، والصرفية، والاشتقاقية، لأن لذلك كله علاقة بالمعنى، إن كان على مستوى القياس المعجمي، أو البياني. فلكل من النحو، والصرف، والاشتقاق، أثره في ما سماه تشومسكي، وكاتز، قواعد الإسقاط projection rules وهي التي تضفي، في نهاية المَطاف، على الملفوظات طابع التشكيل التحويلي بصورته النهائية، والأخيرة.