إبراهيم خليل في كتاب قل نظيره، وندر نَزْره وكثيره، يجمع بين شاعرين، أحدهما فلسطيني من الجيل الحاضر، وهو المرحوم عز الدين المناصرة، والثاني عراقي من الجيل الماضي (توفي 1964) وهو بدر شاكر السياب. علاوة على هذه الندرة شذ بعنوانه عن غيره من عناوين. فهو بعنوان الزمكان. فالمؤلف يرى في هذه الكلمة نحتا لا مناص منه للتعبير عن تضافر الزمان والمكان. أما ما تبقى من العنوان، وهو الشعر العربي المعاصر، فزيادة أضفت على الكتاب من النظر الأول سمة التجاوز، والشمول، غير الواقعي. لأن الكتاب يقتصر على الشاعرين المذكورين. فلا مسوغ للقول بأن الكتاب يتناول الزمكان في الشعر العربي المعاصر. وليس من الصعب على المؤلف أن يسمي كتابه الزمكان في شعر السياب وعز الدين المناصرة، فبهذا يستبعد عنه ما يوحي به من شمول زائف. اقتصاد لغوي: ومع أن كلمة الزمكان من الكلمات التي لا تروق إلا للقليل من المشتغلين باللغة العربية وآدابها، فإن المؤلف سمير عباس (من الجزائر) حرٌ في أن ينحت ما ينحت من المصطلحات، وترجمة ما يترجمه من ألفاظ. بيد أن القارئ الذي ينعم النظر في التمهيد يظن الكتاب كتابا في الفلسفة تارة، أو كتابا في علم الاجتماع تارة، أو في علم النفس تارةً ، فما إن يتجاوز حكاية الزمكان وتفضيلها على الحيز لدى عبد الملك مرتاض، وعلى المكان لدى باشلار ومن ترجموا كتابه، وعلى الفضاء لدى حسن بحراوي وحميد لحمداني، وعلى فلسفة المكان لدى حبيب مونسي، وعلى شعرية المكان عند إبراهيم أحمد ملحم (1989) حتى يتوقع المؤلفُ أنّ لا يستسيغ القارئ هذا المصطلح. ولهذا يحاول- جاهدًا - باقتباسات متعددة من كانط – الألماني – إلى دوركايم –الفرنسي- فإلى مقولات هنري لوفيفر، وما يطرد ذكره في تعليقات غالب هلسا مترجم جماليات المكان، وميشيل بوتور، وإيف تادييه، مؤلف « الرواية في القرن العشرين « أن يقنعنا بأن المكان لا معنى له، ولا وظيفة، في معزل عن الزمن. وأن الزمن بدوره لا معنى له، ولا وظيفة، في معزل عن المكان. لذا يأتي اختياره لمصطلح الزمكان من باب الاقتصاد اللغوي الذي يبلغ درجة الشُحّ. فعوضا عن الإشارة للمكان، ثم الإشارة للزمان في موقع آخر، ها هو يعثر على مفردة واحدة تجمع البعدين في لفظٍ واحد يغني عن الاثنين. يعظ بما لا يعمل به: ولا يُستبعد أن يقع المؤلف سمير عباس فيما حذّر منه، ونهى عنه. فقد أضاف لهذا التمهيد المصطلحي فقرة عن المكان في الأدب بادئا بالشعر الجاهلي (ص25) دون أن يتقيد بالمصطلح الذي أقنعنا بجدواه. وكتب الكثير عن مرماه. فوقفنا في هذه الفقرة عند أبيات لعنترة في وصف الطلول، زاعما – وهذا صحيح- أن ذكر الطلل – وهو مكان – يجمع بين البعدين المكاني والزماني، ولكن المؤلف تحاشى في حديثه عن رقعة الطلل ما فيها من الزمكان. ذاكرا في هذا السياق أقوالا لكل من حبيب مونسي، وباديس فرغالي (وهما جزائريان) يؤكدان فيها ان الشاعر القديم حرص حرصا شديدا في مقدمته الطللية على إبراز قيمة المكان (ص27). وهذا العزوف عن كلمة الزمكان يتكرر في أثناء حديثه عن قصيدة الجبل لابن خفاجة الأندلسي(ص28) : (وأرعن طماح الذؤابة باذخ) ولا يفتأ يكرّر الربط بين الطلل والمكان، مع أن هذا معروف، وفي الدراسات الأدبية شائع ومألوف، ولا يحتاج إلى تكرار، يكشف عما أحاط به من غبار. فهو في هذه الحال على وفاق مع الدارسين الكلاسيكيين، أمثال شوقي ضيف، وأحمد الحوفي، وشكري الفيصل، ووهب رومية، ونجيب البهبيتي، وغيرهم في أن « الشاعر القديم تناول المكان على مستويات مختلفة نفسية وعاطفية وقبلية «. وهذا – فيما يبدو- عزوفٌ من المؤلف عن كلمة الزمكان. إذ اقتصر في الحديث على المكان. وهو في هذا على حق. بيد أن رقعة الطلل في القصيدة لا تقتصر على البعد المكاني، ففيها يجد القارئ ذروة الإحساس بالزمن، والشعور الفياض بالحنين للماضي. فما من مقدمة طللية إلا وللزمن فيها حضوره، فها هو امرؤ القيس في مطلع معلقته المشهورة يجمع بين الاثنين قائلا: قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ فصدر البيت يجمع بين الذكرى، وهو عنوان الماضي الذي يتوق الشاعر لاسترجاعه، والحنين إلى المنزل الذي لم يبق منه إلا الآثار، والدِمَن. وأما الشعر الحديث، فقد اجتزأ المؤلف من كتابٍ يدور حول الزمن والمكان في الشعر الجاهلي رأيا يتبنّاه، قائلا « المكان في الشعر الحديث يمثل في تجربته جوهر الأزمة التي يعيشها « (ص 30) والمثير للدهشة أن المرجع الذي يحيلنا إليه من مراجع الشعر الجاهلي، لا الحديث. والسؤال ها هنا هو: ما الأزمة التي يعيشها الشاعر الحديث خلافا للقديم الجاهلي؟ جوابا عن هذا السؤال يومئ المؤلف لموقف هذا الشاعر من المدينة. فمن إحدى قصائد أبي ماضي (1957) يجتزئ أبياتا يهجو فيها المدن التي تخدع الناظرين بما فيها من أبراج تنطوي على كل ما هو عار (ص31). ولنقل مثل هذا عن نجيب محفوظ في روايته القاهرة الجديدة، أو زقاق المدق. جدلية الزمن: ومما لا بد من ذكره ذلك الحِجاج الذي لجّ فيه المؤلف حول مفهوم الزمن. وما هي علاقة الماضي بالحاضر، وما علاقة الحاضر بالمستقبل الآتي. وهذا يدفع بنا ثانية للفلسفة، وعلم النفس، فضلا عن التاريخ، وعلم الاجتماع، وإلى كل من الثقافة، والفكر. ونحن نرى في ما جمعه المؤلف الفاضل من آراء لمارتن هيدجر، وغيرنتز، وأوتشيلد، وجون سكوت، وهنري برجسون .. وغيرهم ممن كانتْ لهم ملاحظ عن مفهوم الزمن، مادة قيمة تضاف إلى ما يقال عن الموضوع، إلا أننا لا نجد لتلك الاقتباسات حضورا مؤثرا عند الحديث عن الأدب. فعند تناوله للزمن في الأدب تناسى جلَّ ما ذكره، مستخلصًا من تحليله الشيق لأبيات زهير بن أبي سلمى أن الزمن هو عدو الشاعر الجاهلي بصفة خاصة، والعاشق على العموم. وهذا الرأي على ما فيه من دقة ليس جديدا، ولا يخلو من تعميم يأباه المنطق العلمي. فإذا كان شاعر قديم يلوم الدهر - الزمن- كثيرًا، فإن آخر يرى فيه عونا، وسندا، كقول المتنبي : وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلتُ شعرًا أصبح الدهر منشدا فهو يستعين بالدهر على خلود شعره، وبقاء ذكره. والموقف من الزمن يختلف باختلاف الشاعر، واختلاف التجربة التي يمر بها، فعمر بن أبي ربيعة يقول في قصيدة: فيا لكَ منْ ليلٍ تقاصَرَ طولـهُ وما كان ليلي قبلَ ذلك يَقْصُرُ فهو يريد تثبيت اللحظة الزمنية، فلا يمرّ الوقت مرًا سريعا كما هي العادة، لأنه سعيد جدا بلقاء من يحبّ. تكرار لا مزية فيه: وقد اضطر المؤلف لتكرار ما جاء في تمهيده مرتين، الأولى عند الحديث عن الزمان والمكان، والثانية عند الحديث عن مصطلح الزمكان(ص 49- 58) فأعادنا ثانية لمراجعه الفلسفية، والنفسية، والاجتماعية، التي ذكر الكثير منها في السابق. وعلى الرغم من تكراره لهذا، فإن تناوله لبعض قصائد السياب لا أثر فيه لما تكرر ذكره. أي أنه يقحم كلمة (الزمكان) من حين لآخر إقحامًا لا مزية فيه، ولا ضرورة. إذ لا جدوى من الزعم بأن قصيدة النهر والموت تجسد مفهوم الزمكان من حيث أن النهر مكانٌ، والموت زمن. ولا يصح في الأفهام زعمُ المؤلف أن ذكر الماء في الجرار، إلى جانب ذكره الغروب، فيه ما فيه من تفاعل الزمان – الغروب - والمكان الجرار. فالأشياء في القصيدة كالنثر يمكن أن تُذكر جنبا إلى جنب دون أن يرمي الشاعر لإنشاء علاقة تفاعلية بينها. وهذا يذكرنا بما يقوله عن أن ذكر بويب، والسنوات العشرين التي مرت من عمرالشاعر، مجاورةٌ تعني أن المكان بويب، والزمن - العشرين عامًا، شيءٌ واحد على المستوى الدلالي، فالعكس هو الصحيح، لأن النهر باقٍ على ما هو عليه منذ عشرين عاما بينما الشاعرتغيّر، وفقد بمرورها الكثير. ولسنا على قناعةٍ مما يقوله المؤلف عن عنوان قصيدة السياب غريب على الخليج، وأن فيها ما يسميه المؤلف زمكان الاغتراب. والصحيح ان فيها تعبيرا عن شعور المتكلم بالاغتراب لبعده عن بلده العراق. وهذا واضح لا يحتاج لفذلكة نقدية، أو حذلقة تأويلية، فهو يقول ذلك صراحة بلا أدنى مواربة « صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى عراق « مشيرا إلى هذا إشارة مباشرة « واحسرتاه، فلن أعود إلى العراق «. وهذا التأويل غير الضروري لا يتخلى عنه المؤلف في تناوله لقصيدة المومس العمياء. ولا في تناوله لحفار القبور التي يدعي أن فيها زمكانا هو زمكان المقبرة. أما وصف عيني الحبيبة بأنهما كغابتي نخيل، فذلك في رأي سمير عباس زمكان يتحقق من امتزاج سواد العينين بخضرة التخيل، ثم يتحول هذا الزمكان لشيء آخر هو الشرفة، وهي من حيث مدلولها مكان، أما القمر الذي ينأى، فهو زمن، لما هو مستقر في عرفنا من أن للقمر منازل تعرف بها الأشهر. والواضح أنّ لدى المؤلف فكرةً مسبقة هي الحرص على تأويل كل لفظ، وكل تشبيه، وكل استعارة، أو مجاز، أو كناية، أو صورة، تأويلا يرمي به إلى إقناعنا بهذا الزمكان. ولا يشذ عن هذا ادعاؤه بأن المطر ذكرى، وأن الحزن حاضرٌ. وأن العراق مكان، ولذا فهطول المطر فيه (زمكان). منهج انتقائي: ولا يُخفي المؤلف، الذي لم نستطع أن نجد ما يزودنا بالقليل من المعلومات عن شخصيته، وما إذا كانت له مؤلفات أخرى، نهجه الانتقائي في تناوله لآثار أو بعض آثار الشاعرين. فقد استهل الفصل الخاص بعز الدين بعبارة لشد ما تدهش القارئ، وهي « السياب ناظم أساطير والمناصرة مبدع أساطير « وفي الهامش الوارد ص 106 أحالنا المؤلف لكتاب « المناصرة وفنه الشعري « لكاتب لم نسمع به قبلا هو سامح حسن صادق. مع أن العبارة نُسبت لعلي عشري زايد. وهذه العبارة لمن يتأملها تنطوي على الحطّ من قدر السياب وشعره، مقابل الإعلاء من شأن المناصرة، وهذا غريب. مع أن المؤلف لا يبدي سعة اطلاع على شعر السياب، ولا على ما كتب عنه، وعن شعره. مما يدعو إلى الشك في دوافعه التي شجعته على الجمع بين الشاعرين على ما بينهما من تباين، واختلاف، في الزمان والمكان (الزمكان). وكأنه لا يتورَّع عن تحيزه الذي لا يخلو من تصريح، فلسان حاله يقول: إن المناصرة والسياب يحظيان بالتقدير نفسه في أروقة النقد، وموازين النَقَدَة. وأنّ منزلتيهما في الشعر، ريادةً أو جودةً، منزلة واحدةٌ، لا تنقسم على
اثنتين. البحر الميت: وفي تناول المؤلف للزمكان في شعر المناصرة يبدأ بالخروج من البحر الميت. وعن هذا البحر يجد القارئ معلومات لا علاقة لها بالشعر؛ عن موقعه، ومياهه المالحة، وغناه بالمعادن، ووقوعه تحت نير الاحتلال عام 1967 وما يتصل بحرب حزيران. وبالكنعَنَة، وما مُنح الشاعر من أوسمة، وألقابٍ، على رأسها الكنعاني الأول، وهو لقب منَّ به عليه ياسر عرفات عام 1988 على ذمة الراوي، ومثل هذه المعلومات تفصح عن وجود علاقة شخصية بين الشاعر والمؤلف، وهذا شيء لا يضيره إذا توخى النزاهة، وحرص على التجرد من الميل والهوى. إلا أن ما يبعث على الدهشة هو خلو القسم الذي توقف فيه عند منتقياته من شعر السياب من هذا البعد الشخصي. ولا ندري ما علاقة ارتباط الشاعر بأرض كنعان- فلسطين- وارتباط الشعب الفلسطيني بوطنه بمصطلح الزمكان، ولمَ يُطلق عليهما اسم زمكان التجربة؟ وهل ما تبقى من زمكان لا علاقة له بالتجارب؟ وهل في قول الشاعر على لسان المتكلم: لن أصبغ وجهي بالألوان المختلطة حتى لا يدهمني طير الوروار ما يصفه المؤلف بزمكان الأرض؟ أو زمكان الانتماء، الذي ينشيء تجربة على مستوى الوعي، ومقاومة الخروج، والنأي، والتمزق؟ لا خلاف في أن الشاعر يعبر عن التشبث بالوطن، وبأنه يأبى التلوُّن، والبحث عن هوية أخرى غير هويته بصفته أحد الكنعانيين، إلا أن العلاقة بين هذا كله، والزمكان، علاقة مفتعلة. وفي زمكان الحضور يقتبس المؤلف أبياتا من قصيدة جفرا أمي. وهي القصيدة التي يوظف فيها المناصرة- كعادته - شيئا من التراث الغنائي الشعبي، يفرضُ المؤلف مفهوم الزمكان على هذا التوظيف فرضًا فيه من التعسف ما يأباه المنطق. وهذا ينسحب على مختارات أخرى من شعره كالذي يأبى فيه الشهيد أن يدفن في المنفى. لأن المنفى في عرفه لا يعدو كونه كلبًا مسعورًا (ص127). تحيز نقدي: وعلى الرغم من معرفتنا بالراحل المناصرة، ومتابعتنا لشعره منذ « الدم في الحدائق « حتى إصداراته الأخيرة النثرية والشعرية (1)، لم نكن نعلم بما أورده المؤلف عن عضويته في جماعة شعر اللبنانية التي قادها الشاعران يوسف الخال، وأدونيس. فالمؤلف يعلق على مصطلح قصيدة النثر الرعوية قائلا إنه مصطلح صاغه المناصرة معبرا به عن انشقاقه الجذري عن تلك الجماعة. والمعروف أن جماعة شعر ظهرت سنة 1957 وكان صدور أول ديوان للمناصرة سنة 1970 وتفرقت الجماعة أيدي سبأ منذ العام 1965 لهذا السبب ولغيره نرى فيما كتبه سمير عباس في هذا الجزء من كتابه فصلا يغلب عليه التحيز، وتقلّ فيه النزاهة والتجرد. 1.للمزيد انظر كتابنا: شاعران من فلسطين البرغوثي وعز الدين، ط1، عمان: دار الخليج، 2021.