مقدمة:
تعود نشأة الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية إلى بداية السبعينيات مع عبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار٬ ﺃما قبل ذلك فكانت بداية ساذجة وغير مكتملة وغير ناضجة فنيا، ويعزو بعضهم تأخر ظهورها بالقياس إلى فنون المقال والقصة والمسرحية "إلى صعوبة هذا الفن تقنياﹰ٬ فصاحبه يحتاج إلى التأمل الطويل وإلى الصبر والظروف المواتية"[1] ، بعد ذلك بنحو العقدين من الزمن برز نشاط روائي جديد ومميز٬ في ظرف زمني قصير إستطاع ﺃن يجد له موطئ قدم ٬ وينجب مجموعة من الروائيين الشباب ﺃعطوا الإضافة على الأقل في استمرارهم التنقيب عن الهامشي و المختلف والممنوع ؛ ما مكن من تراكم التجارب ٬ وإهتماماﹰ نقدياﹰ مشرقياﹰ (الخليج العربي) وليس
مغاربياﹰ فحسب ٬ مقارنة بالرصيد الزمني للمغاربة والتوانسة الطويل نسبياً. ولا ﺃدل من ذلك إعتراف الجيل المخضرم بالطفرة التى عرفتها الساحة الروائية وﺃعني رشيد بوجدرة المرحب قبل غيره بالموجة الشبابية الجديدة ٬ ربّما ذاك كان الدافع اﻷساسى في تغيير واسيني الاعرج لأسلوبه المحاكي للواقعية الاجتماعية تدريجيا مثل رواية " ما تبقى من سيرة لخضر حمروش" الصادرة بداية الثمانينات ٬ إلى سرد السيرة الذاتية و سرد التابو المقترن بالتراث مع بداية اﻷلفية في روايته الأكثر جدلاﹰ "المخطوطة
الشرقية " العام 2002 مثلاﹰ ، وهو الذي يقول :"ٳن الرغبة في التجديد هي التي تحفزني على تجاوز الواقعية التقليدية في رواياتي ٬ فالحياة ٳذا لم تجدد تموت٬ واﻹنسان ٳذا لم يجدد يموت هو الاۤخر٬ وعليه فإن الرواية كأي شكل ﺃدبي لا يمكن ﺃن تعيش ٳلاﱠ بهذه النزعة التجديدية التي تدخل في هذا اﻹطار" [2].
لعلﱠ اعتراف بوجدرة و واسيني ومستغانمي تنظيراً و ممارسة يقابله تلكأ و إنتظار التبلور الحقيقي من لدن الطاهر وطار حيث يكتفي بقوله : "ليس لدي ٳطلاع على الرواية الجديدة"[3] و الروائي المخضرم إبراهيم سعدي الذي إعتبر ﺃن الرواية الحالية لم تتسع حتى تتوقف على الرواية السابقة ٬ و ﺃن الرواية ما زالت في مرحلة التكوين وبالتالي من اﻹجحاف الحكم عليها. وعليه هناك من رفض الخروج من شرنقة الرواية التقليدية وعدم تقبل الخصوصية الجديدة شكلاً ومضموناً ٬ حتى وٳن كانت في طور التكوين ٬ في نفس الوقت نلمس إعتراف بالبناء المختلف والحضور المكثف للجيل الثالث ٬ الذي ﺃعقب الجيلين السابقين. في ظل هذا التفاوت في اﻷراء ٬ لا يسع المتابع إلاّ
الوصول ٳلى نتيجة مفادها وجود رواية جزائرية جديدة تحمل خصوصية : فهناك من يرفض تسميتها ٳستصغارًا للتجربة ﺃو تنكرا ٬ و هناك من يؤمن بالقفزة النوعية التي حققتها الرواية الجديدة ٬ وفئة وسَط ترى ﺃن المنجز الروائي في السنوات اﻷخيرة ماهو ٳلاﱠ ٳمتداد لسابقه. وٳن سلمنا بتداخل ﺃجيال الروائيين الجزائريين ٳلاﱠ ﺃنها تعرف تحولاً مستمرا ﻷدباء شباب إقتحموا هذا الوعاء الحاوي بسماته الجديدة التي إستحدثوها من ناحية الشكل/اللغة المختلفة ﺃوحت ولوج الموضوعات المحرﱠمة ٬ كالجنس وكسر التابو الديني و السياسي٬ بتدخل مباشر لتأثيرات الواقع المصطرع الهوية الثقافة بين تمثل هوية اﻷنا ـــــــ الإسلام، العروبة ٬ اللغة ـــــــ وفي مقابل تمثل[4] الاۤخر وثقافته العولمية أي التعايش الديني٬ التنوع الثقافي واللغوي ٬ حرية المرﺃة ..
ـــــ مفهوم الرواية الجديدة :
يقول آلان غرييهA.Robbe Grillet ﺃن " الرواية الجديدة هي كتابة غرضها تغيير نظام الكتابة السردية ٬ باعتباره نظاماﹰ بنيويا تأويلياﹰ كذلك ٬ ﺃي عن صيغة جديدة لكتابة العالم واﻹنسان"[5]، من هنا استطاعت الرواية المعاصرة في الجزائر ﺃن تراهن على التغيير، ﺃقصد ما تعلق بالثورة على لغة الخطاب الشيء الذي إنعكس على اﻷسلوب والتقنية /بنية الخطاب ؛ حسب فلاديمير كريزرسكي
Vladimir krysinski التطور الروائي من مقاربة سيميائية يمكن ﺃن يكون مدركاً بمثابة تحسين لثلاثة قوانين (علامات) هي : " قانون التكرار٬ قانون التشبع وقانون التحول"[6]؛ فالنص الروائي يكون تكرارياً عندما يكون مقيداً في بنائه وحركته ٬ بعودة نفس المواضيع والشكليات المتداولة ويكون مشبعاً من كونه ﺃصبح ملزماً بالتكرار، ولم يعد قادراً على السمات اﻷسلوبية المكررة باعتبارها علامات خلافية ، و يصبح تحولياً عندما يفرز شكلية وتيمية جديدتين تقفان بعيدا عن فضاءي التكرار والتشبع.
ولعلﱠ تسميات رواية اللاﱠرواية Anti novel ، رواية الحداثة ﺃو الرواية الشيئية أو الرواية التجريبية
novel experimental ﺃو الرواية الطليعية ﺃو رواية الحساسية [7].. تعني تلك البنية المستخدمة ـــــ بالمقارنة مع البنية التقليدية ــــــ بنية اللغة ونظرياتها فيها وطيدة العلاقة بالبنية العامة للمجتمع الخاضع لتأثيرات العالم من حوله خاصة التي تمس الثقافة والمعتقد مايجعل وجود الاۤخر[8] و تمثله بدرجة غير مسبوقة ٬ مساهم في تبلور ﺃفكار نيرة متنوعة تنتج أساسا من صنع الشخوص للأحداث ــــ فقد " ٳستوعب الخطاب الروائي العربي التحولات السريعة بخروجه عن السائد والمؤلف ٬ معتمداﹰ على التجريد والتجديد وتوثيق مصطلح الرواية الجديدة"[9] ـــــ ومن رموز تراثية وﺃسطورية وفلسفية كانت في السياق السوسيو-الثقافي المحلي ﺃو في سياق رؤية مغايرة للذات وللآخر ( للعالم ) ، ثم ٳنه التناص الخارجي مع التراث السردي العربي والثقافي الجزائري المحافظ على السواء ٬ ﺃو مع التراث السردي اﻹنساني العالمي جعل من الرواية مفتوحة على الثقافات متحاورة متعالقة معها هادفة ٳلى تجريب الجديد؛ " فالمؤلف يمارس تجربته ولا يعرف هويتها اﻷخيرة ولا يستطيع ﺃن يتنبأ في النهاية ٬ ومن ثم فإن الصفة الرئيسية لهذا الشكل ﺃنه تجريبي يخلقه كل من المؤلف والقارئ"[10]
ٳنه تقاطع الوعي بالرواية كبنية ﺃي شكل تعبير و رؤية دلالية ومجال معرفي٬ يكون قد دفع بالروائيين التقليديين /الواقعيين الفرنسيين إلى التغيير والتماس رواية جديدة في ﺃربعينيات القرن الماضي :"طغيان الواقعية المزمنة وتكلس في الخطاب٬ ﺃدى ٳلى نشوء نمط سردي جديد متحرر من تشيؤ*بنية الخطاب ، إنه التحول في بنية المجتمع الرأسمالي منذ القرن 19 بدﺃت ملاحمه مع فرانس كافكا Kafka.F مستوياً مع اۤلان غرييه Grillet.A ونتالي ساروت N .saraute
وكلود سيمون C.Simon "[11]٬ إنه المضي بالشكل الروائي ٳلى فضاءات ﺃرحب عن طريق التجريب واﻹنفتاح ﺃكثر على التجارب الروائية الغربية والعربية الحداثية. فهي كتابة جديدة تعيد بناء موروث المجتمع الجزائري وتفكك متعالياته الفكرية واﻹيديولوجية والجمالية تخييلا ، فهي لا تجيب على الأسئلة "الحداثية" إلاﱠ من خلال الإنجاز النصي الثائر على اﻵليات القديمة ٬ ولعل القواعد الثابت التي كرستها " الحساسية الجديدة و غدت مأخوذة مأخذ التسليم هي التجريب ٬ تشابك الواقعي والحلمي٬ تداخل اﻷزمنة ٬ وشاعرية اللغة و الرؤية والتباسها ، كسر النمطية ٬ تفتيت الشخوص واﻷحداث"[12]
"ولعل الجسد هو من ﺃهم القضايا التي ترسخت تجلياتها ما بعد الحداثية في الرواية العربية الجديدة ٬ لما يطرحه من ﺃبعاد دلالية حسية جمالية ثقافية وٳيديولوجية ٬ شكل ركيزة ﺃساسية لمعظم اﻹنتاج الروائي الجزائري الراهن ـــــ فهو ﺃحد مرتكزات التجريب وفي الخطاب الروائي النسائي الجديد بالتحديد كما يقول محمد برادة"[13] من مستغانمي إلى الفاروق وغيرهن ٬ يقترن بالتمرد على المعيقات اﻹجتماعية والمنظومة القيمية ومركزية الذكورة ٬ ومواجهة النظام البطريركي The patriarchal order ــــــ وهو قيمة فنية روائية ٳذا ﺃحسن توظيفه ٬ ﺃخذ بعداﹰ حضارياﹰ كحيِّز قار لا يمكن تجاوزه بين الروائي المتمثل للأنا / الذات والمتمثل للآخر ؛ ﺃي بين متعولمي الثقافة وبين المحافظين على الهوية الثقافية.
ـــــ تطور الرواية الجزائرية الجديدة :
ويأتي دور ﺃشهر النقاد اﻷكاديميين في المغرب والخليج تنويها وٳشادة بالرصيد الفنى والتراكمي الذي وصلته الرواية الجزائرية الفتية ٬ و التي لم تكمل عقدها الثاني. " والملاحظ ﺃن النقد اﻷدبي المغربي خاصة اﻷكاديمي ، لا يجد من مناسبة إلا واعترف فيها بمساهمة اﻷقلام الروائية الشابة في تغيير نمط الكتابة الروائية وﺃدواتها التعبيرية"[14] سواء من حيث المضامين الخطابية إجتماعية وسياسية وثقافية-فكرية المصقولة بجمالية السرد ٬ ﺃو تلك المحتفية بشعرية اللغة فحسب.
جدير بالذكر الإشارة هنا إلى تأثر الرواية الجزائرية التقليدبة والجديدة بنظيرتها العربية وهذا ما من شأنه مساعدنا على اﻹشتغال على النقد الثقافي ٬ فحسب عبد الله الغذامي :"النقد الثقافي يقرﺃ النصوص الثقافية القومية داخل الثقافة الواحدة"[15] والرواية العربية ذاتها هي نتاج تأثر بالرواية الغربية٬ حيث كلما ظهر جديدها ﺃو ما تعلق بالتنظير النقدي لها ٬ إلاﱠ وظهر بعد مدة ما يحاكيها عربياﹰ حتى " أضحت الساحة الروائية إعادة إنتاج لما ينتج في الغرب وفق خصوصيات
ثقافية معينة"[16]
غير ﺃن الملفت للإنتباه هو ﺃن التطور في الجزائر شهد قفزات مثيرة ٬ بخلاف أقطار المشرق العربي نتيجة ﻹسترداد الجزائر المتأخر ﻹستقلالها ٬ ولهويتها اللغوية بُعيد اﻹستقلال (التعريب) ٬ هذه القفزات جاءت من ﺃجل مواكبة التقدم السريع الخصب للدراسات حول الرواية والنقد و إشكالياتهما المعاصرة ٬ فشهدت الساحة الروائية و النقدية قفزات ـــــ حيث لم تشبع بعد من نظريات النقد الجديد حتى تجاوزته الجامعة الجزائرية إلى السيميائيات في المؤتمر الذي انعقد بجامعة سطيف سنة 1988 سابقة العرب ٬ حيث لم تتبلور قيم الحداثة في الرواية العربية بعد حتى قفزت شُلة من الروائيين نحو اﻷمام لتحتفي بما بعد الحداثة لتكون مضاعفة التشوه :" المجتمع العربي الذي لم يستطع دخول الحداثة زمنيا فإنه لم يستطع الدخول إلى ما بعد الحداثة إلى بطريقة القفز إليها ليكون مضاعف التشوه"[17]٬ فهم لم ينفضوا ماتراكم عنهم من نظريات الحداثة وإنفتحوا على ما بعد الحداثة"[18] حسب جابر عصفور٬ حيث الرواية المحتفية مبكرا بتشظي الهوية الدينية وبروز الطبقية والعنصرية في ظل عولمة الآخر لثقافته و المجارية لنظريات "صدام الحضارات" و " الفوضى الخلاقة " وغيرها بما لا عين رﺃت و لا ﺃذن سمعت.
ٳنتهت مرحلة اﻹيديولوجية بانتهاء الحرب الباردة ، ودخل العالم عصر العولمة والحق في اﻹختلاف والتنوع الثقافي[19]، إذ مع انتفاء دور اﻹيديولوجيا في الاۤداب ، حلت قضايا عالمية جديدة محلّها من قبيل صراع الهويات فيما بينها وبين الآخر نتيجة غزوه الثقافي، وتمثُّل المثقف الهجين لتلك الثقافة العولمية ؛ شغله الشاغل هو اﻹساءة للتراث الديني٬ وقلق ذاته من فضاء الحريات الفردية والجماعية ، فأضحى يستحث الخطاب الثقافي للمثقف المتمثل للهوية واﻷصالة ؛ فعمل المؤلف على خلق الشخصية الجدلية عبر متخيله السردي ﻷنه أراد ﺃن يعبّر برؤية فنية جديدة (شعرية اللغة، استدعاء الخطاب التراثي واﻹنساني : الخطاب الصوفي٬ خطاب الجسد..) عن حمي وطيس تمثل الشخصية المثقفة لخطاب اﻷنا والاۤخر الثقافيين.
وتبدأ الرواية الجديدة زمنياﹰ بصدور رواية الولي الطاهر يعود ٳلى مقامه الزكي للطاهر وطار عام 1999 و روايتي"اﻹنزلاق" لحميد عبد القادر و"المراسم والجنائز"[20] لبشير مفتي قبلها بعام ، مع بدء لملمة الجراح والعودة التدريجية لسابق العهد. ولقد ﺃصبح الروائي يصارع ذاكرته كي لا تمحى تجربة العنف التراجيدي من ذاكرته ٬ فحكى بتأريخانية نصوصاﹰ استعجالية٬ "سواء كانت مرتبطة بذات المبدع في رواية السيرة الذاتية ﺃو نسبها المؤرخون ٳلى الماضي٬ كما هو الحال في الرواية التاريخية"[21]، معبئاﹰ بشحنة إضافية زادها الآخر (الغرب) في شن حرب لا هوادة فيها (إمبريالية جديدة) ضد الإرهاب و الإسلام السياسي الذي حطّ من كبريائها في 11 سبتمبر2001 ٬ فشهدنا الجدل يشتد ويتعاظم بين شخصيات الرواية الواحدة ٳحداها تتمثل خطاب اﻵخر واﻷخرى تتمثل خطاب الهوية ومقابلة الإمبريالية الجديدة. تعاظم هذا الجدل مع شن المنظمات المدنية الثقافية الغربية نقدا لا هوادة فيه على المقدسات الإسلامية، بداية بالإساءة الكاريكاتورية وصولا إلى التظاهر عرياﹰ أمام المساجد.
لعل حدس الطاهر وطّار حول المتعولمين من حاملي الثقافة الغربية أنهم يحضّرون ﻹبتزاز الهوية الثقافية اﻷصيلة كان في محله ، فاستبق الأحداث بروايتي" الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي " و"الولي الطاهر ويرفع يديه بالدعاء" سنة 1999 فلم تسع الحركة الروائية المناوئة لتياره إلاّ أن شدت من عضُد الحق في اﻹختلاف الثقافي ، حيث ظهرت العديد من الروايات تشيد بخطاب اﻵخر مضمرا ﺃو علنيا ٬ بخاصة ماتعلق بالتنكر للإسلام وقيمه والدعوة لترقية حقوق المرﺃة ، " المتابع لحال الثقافة الجزائرية سيلاحظ أن كلا الجبهتين اللتين تمثلان المثقفين رافضة للأخرى ، فلا جماعة السلطة( ﺇرتبطت بالسلطة تشدقًا و تملقًا ) راضية عن المثقفين اﻹيديولوجيين ٬ ولا هؤلاء يعترفون بأن ﺃولئك مثقفين ٬ وعندما ﺃضنتهم المسيرة وفقدوا في أن يروا بارقة أمل ، نقل بعضهم نشاطه إلى جانب السلطة و بعضهم بحث عن مكان لأفكاره بين فئات المجتمع ..
"[22] وهذه بعض الروايات الجزائرية الجديدة المتمثلة لخطاب الذات (الهوية الثقافية اﻷصيلة) ﺃو لخطاب تمثل اﻵخر (العولمة الثقافية) من 1994 إلى 2014[23].
البناء الفني في رواية أقاليم الخوف لفضيلة فاروق:
يقصد بمفردة "البناء" في السرد البنيوي الترابطات والتعالقات بين عناصر النص الدلالية و الصوتية واﻷسلوبية ٬ هناك من النقاد من يرى ترادفا بين مصطلح البناء و البنية بيد ﺃن الناقد سمر روحي يفرق بينهما قائلاﹰ : "إن هيكل النص اﻷدبي يبنى من عناصر فنية٬ تتصل فيما بينها على نحو خاص لتكون نسقاﹰ ﺃو نظاما. وليست البنية شيئا غير هذا النسق أو النظام . وقد غلّبت
استعمال مصطلح "بناء" على مصطلح "بنية" ﻷنه دال في اللغة العربية على المراد من البنية٬ إضافة إلى إيحائه بتكوين النص اﻷدبي ﺃو معماريته ﺃو كيفية إشادته"[24]
تميّزت رواية بداية اﻷلفية الجزائرية بخصائص وسمات شكلية جديدة ٬ سرعان ما بلورت مضموناً يختلف إختلافا جذريا مع الرواية اﻹيديولوجية التي أرﱠخت لسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي٬ فعلى غرار الرواية الجديدة الفرنسية (الثورة على الرواية التي مثلها بلزاك و زولا و موبوسان..) شذت الرواية الجزائرية الجديدة على القوالب الجاهزة ٬ " لتُعنى بأسطورية الواقع المعيش سخطا و زهدا : ﺃسطورية ترفض الصوفية وتحب الحياة ٬ لكن مع ذلك تقلق بها و تشكك في قيمتها ٬ عبر الشخصية الروائية التي تشيىء اﻹنسان(...) و توفر جميع المعطيات ٬ والإجراءات ٬ و
الفلسفات ، والتمردات و اﻹنكارات ٬ والرفوض"[25] ؛ ترحب بجميع اﻷجناس التعبيرية أدبية أو غير
ﺃدبية ٬ كاﻷشعار و التمثيليات درامية ، رسوم ، مقاطع موسيقية ٬ سير و النصوص العلمية أو فلسفية أو تاريخية ودينية أو تحليلات سلوكية[26] .. والرواية الجديدة هي رواية شعرية اللغة لا يمكن ﺃن نوجز خصائصها الفنية٬ ٳلا ﱠمرتبطة بخصائصها الدلالية (التشاكل الخطابي) ٬ " فالدارسون المختصون في السردية يفرقون بين هذين المفهومين المتداخلين : ثنائية المتن والمبنى في الرواية"[27]. ﻷنهما مفهومان جدليان متلازمان تلازم الدال و المدلول في اللسانيات الحديثة ٬ حسب عبد الملك مرتاض :" طبيعة النص السردي تتجسد بإلتحام المتن الحكائي ٬ كمضمون خبري حكائي ﺃو خيالي ٬ بالتشكيل اللغوي الجمالي في الرواية الجديدة"[28]و هما:
ــــ المتن الحكائي ﺃو الحكاية :
يتعلق بالمضمون السردي المتمثل في اﻷحداث المتتابعة للقصة ﺃو الرواية كما جرت في الواقع ﺃو المتخيل ٬ حيث تمثل المادة اﻷولية للحكاية في ﺃي عمل درامي تتجسد في متواليات ﺃو برامج سردية تنجزها شخصيات ﺃساسية ﺃو ثانوية حقيقية ﺃو خيالية[29]
ـــــ المبنى الحكائي (القصة ﺃو الخطاب):
يتعلق بطريقة ﺃو نظام هذه اﻷحداث في الحكي ذاته فهو بعبارة ﺃخرى " الطريقة الفنية التي تحبك بها العقدة الحكائية ٬ ﺃي التشكيل الجمالي الفني للمادة الحكائية ٬ يتجسد في ٳختيار تقنيات سردية متنوعة"[30] تتعلق بزاوية رؤية الراوي والحوارية والتلاعب بالضمائر و اﻷزمنة و الفضاءات المكانية..، وعليه النص الروائي نص يلتحم فيه الحكائي الواقعي بالمتخيل ٬ و كيفية نسج المتخيل وٳشتباكه بالواقعي معيار التجريب والتجديد " الكاتب التجريبي يسم روايته بوضعين متظافرين متشاكلين : اﻹجتماعي في تجلياته ٬ والجمالي بتمظهراته"[31].
يبقى البحث عن أساليب فنية جديدة عملية مشروعة لمواكبة ﺃو مجاوزة طرائق اﻹبداع و تقنياته في العالم ﻹثبات وجود وتفرد وتميز المبدع ٬ وإفراغ الشحنة الفكرية والثقافية اللتين تؤرقانه ٬ " فالنص السردي حكاية وخطاب في اﻵن ذاته ٬ إنه حكاية بإثارته لواقع ومجموعة من الأفعال الواقعية ﺃو المتخيلة ٬ و هو أيضا خطاب يتوفر على سارد يسرد الحكاية ٬ وفي مواجهته قارئ يتلقاها"[32] فكلما تجددت التقنيات و المضامين كلما تجددت القراءة و زالت الرتابة و الملل وتجدد اﻹنفعال وإقبال القارئ وصولاﹰ إلى المشاركة في إنتاج النص.
ﺃولاﹰ ــــــ المتن الحكائي في رواية أقاليم الخوف :
1ــــ بناء الحدث :
إن الحدث في الرواية الجزائرية الجديدة قائم على التفكك والتشويش٬ وعلى الصراع مع الواقع :" فبناء اﻷحداث يتمرد على جماليات الوحدة والتماسك والنمو العضوي"[33] مما يجعل بنيته تكتسيي طابع فكري ﺃوسيكولوجي ﺃو إيديولوجي ﺃو اجتماعي ٬ بحسب مرجعيات المبدع٬ فلو بحثنا في المظان التي تعترض سبيل الروائيين الشباب ٬ لوجدنا جلهم لا يتكأون على الحدث السياسي ﺃو الديني الواقعي إلاﱠ كي يجعلوه بؤرتهم للتعدد والتنوع السردي ٬ متحررين من المرجعية السطحية إلىى البنى الدلالية العميقة ؛ في ﺃن يحيطون بالشخصية السياسية ﺃو الدينية مثلاﹰ باﻹجتماعي من كل جانب ٬ هذا ﺃخته مومس و اﻵخر بطله مجرم و ذاك مريدته جنية وهلم جر٬ من ثمة تتضح البنية الجمالية والدلالية للحدث ٬ " في كسر "الجدار الرابع" بينها وبين قراءها ﺃي تحتمل تأويلات عدة ٬ وفي تحطيم مبدﺃ اﻹيهام بالواقع"[34].
ﺃ ــــ اللاﱠيقينية و النظرة النقدية للواقع :
ٳنه الهاجس اتجاه ٳنتشار مظاهر اجتماعية غربية المنشأ كالخيانة الزوجية وتفكك اﻷسرة في بعض اﻷنساق الثقافية العربية، تمثلاﹰ للاۤخر وللعولمة الثقافية ٬ هذا اﻵخر الذي ﺃصبح يصوغ اﻷنا/ الذات اﻷصيلة الهوية تقابلياﹰ وجدلياﹰ ﺃحيانا ؛ " ﻷن الرواية الجديدة تطبعها خاصية فقدان اﻷمل في ٳمكانية التصالح مع الواقع ٬ فتتحول ٳلى التعبير عن ﺃزمة فكرية عوض ٳجتماعية"[35]. و"بذلك نكون ٳزاء حقيقتين ﺃساسيتين للرواية الجديدة و هما : اللاﱠيقينية وصيغة اﻹنتهاك الشكلي"[36]. و يرجع تشكيل بنية الحدث في الرواية الجزائرية الجديدة عموما إلى التقابل الجدلي بين الفكري-الثقافي و الفني الجمالي٬ وﺃن الصياغة الفنية تعني ﺃكثر مما يعني المحتوى. فالشخصية الحاملة ﻷفكار عابثة بهويتها كمارغرين نصر، وسلوى ، ونوا ، وﺃوليفيا والشخصية المقابلة المتمسكة بهويتها رغم ٳحتكاكها المباشر بالثقافة الغربية كإياد ، ومشهد ، وﺃم وهب ، ومحمد :".. كنت أشرح لأوليفيا ﺃن اﻷخلاق لاعلاقة لها لابدين و لا بجنس و لا بشاهدات جامعية عالية"[37] فإن كانت بنية اﻷحداث في عمومها تخضع لمنطق يربطها، فإن تجليها على مستوى المتن السردي يقتضي فهم جوهرها في ذاتها بحيث"(..) تحددها المرجعيات التي ينطلق منها الروائي في كتابة عمله الابداعي
(..) ٳذ من خلال هذه اﻹتجاهات والمرجعيات يمكن الكشف عن طبيعة اﻷحداث ودلالتها داخل النص الروائي ٬ و بذلك تغدو ضرورة ٳدراك مكامن اﻹبداع الفني وجمالياته معرفة الخلفيات التي يتأسس عليها كل نص ﺃدبي"[38].
الشخصية في نص ﺃقاليم الخوف تقوم على تقابل بنيوي جدلي ، وهي التي تخلق الحدث بنظرتها النقدية للاۤخر (المسلمين عن اليهود واﻷروبيين) كما يومئ إليه عبد الله الغذامي :"تصير الذات شخصية روائية في حبكة جماعية لا تتخلى فيه عن خصوصيتها٬ لكنها تفعل وتعمل ضمن خطة واعية باﻵخرين ومتيقظة لعيوبها الشخصية"[39] حيث تتعرف الشخصية الهجينة الثقافة (شرقية ترعرعت في سياق غربي كالبطلة مارغرين) على ذاتها من خلال نظرة اﻵخر المختلف العقيدة ٳليها : " فهتلر ليس مسلم و كل من ليس مسلم في النار! ﺃتبعها بأسئلتي : ولكن هتلر لم يختر والديه و لا اﻷرض التي ولد فيها و كبر فيها و لا المجتمع الذي تواجد فيه. فتجيب .. ﺃلا تسمعي بالذين ٳعتنقوا اﻹسلام و تابوا ٳلى الله من مشاهر هذا العالم؟ يغيب عن شهد ﺃن اۤلاف الشباب العربي المسلم ﺃصبح يرتد عن اﻹسلام ٬ معتنقًا المسيحية ﺃو اﻹلحاد تعباﹰ من التطرف و التدين الذي ﺃصبح وسيلة لتدمير الاۤخر.."[40]
لقد تميزت الرواية الجزائرية الجديدة بطرح موضوعات الراهن دون عناء اﻹجابة ، بمعنى ﺃنها رواية لا يقينية ولاجاهيزية ولا تملك نظرة وجودية للواقع والحياة ؛ فإذا كانت الرواية التقليدية بدءاﹰ ﺑ"ريح الجنوب" لبن هدوقة ، قد صنعها التاريخ الوطني والظرف السياسي واﻹجتماعي فإن الرواية الجديدة صنعتها المفارقات الفكرية والثقافية بعد العشرية السوداء ؛ تبلورت هوية متخيلها السردي عندما طرحت قضايا مابعد حداثية ٬ يحتفي خطابها بالهوية وقضايا الهوية الثقافية معيدة طرح الأسئلة: من نحن؟ لماذا نختلف عن الاۤخر؟ لماذا تقدموا وتأخرنا؟ وبالتالي كان لزاماً استدعاء ﺃسئلة الهوية بحثا عن تبرير ولوج شخصية المثقف معترك اﻹستقطاب الحضاري بين اﻷنا والاۤخر؛ بين العولمة والهوية عن طريق التوظيف الفني للتراث الثقافي سواء كان صوفياً محلياﹰ أو فلسفيا إنسانيا عالمياً ، كل مضمون لابد وﺃن يفرض شكلا ﹰجمالياﹰ خاصاً به ٬ والشخصية مهما تعددت مرجعيتها الحضارية (مع الهوية الثقافية اﻷصيلة ﺃو مقابلة لها) فإنها مضمون يفرض شكله الخاص ؛ ﻓ "نوا" و هو في كوسوفو يتضامن مع المسلمين فيقابل بمسيحيين قائلين له : "ضع صليبك في مؤخرتك ﺃيها اﻷمريكي الحقير"[41].
ﺃــــ1ــــ التعويل على جماليات الجسد :
ﺃصبح لموضوع الجسد/الجنس في اﻵداب والفنون طابعه اﻹشهاري اﻹستهلاكي الحاسم، أما عند الغرب اصطدم مع تقاليد الكنيسة لكنها فيما بعد تحت حجج حقوق اﻹنسان الفردية والجماعية رضخت له ، ﺃما في المجتمعات الشرقية ومنها الجزائر فيلاقي اﻷمر رفضاً ليس من اﻷجهزة الدينية فقط بل من المجتمع بكل ﺃطيافه الشعبية ٬ ولما كانت المرﺃة والمرﺃة المثقفة/الكاتبة من أكثر المتضررين من هذا الرفض نتيجة التباين الاجتماعي في العلاقة به ، استدعت الرواية الجديدة خاصة النسوية منها الجنس استدعاءاﹰ ، مبررها التخفيف من حدة الهاجس الجنسي؛ فكان تقليدا عند بعضهن٬ لذلك أتى متنهن متواضعاﹰ كربيعة مراح في رواية "الشاذ" وﺃمينة شويخ في رواية "ﺃسفل الحب" على سبيل المثال لا الحصر، ويأتي اللعب على موضوعة الجسد/الجنس عند بعضهن الاۤخر خروجاً عن النسق الذكوري في الكتابة ليشين ﺃن الجزائريات في المجتمع المحافظ تكتبن الجنس مثلهن مثل بوجدرة وأمين الزاوي ٬ بحكم ﺃنه في اﻷصل "موديل" المرﺃة في الغرب كما يقول جورج طرابيشي :" وبالفعل ٳذا صدقنا فرويد فإن التصعيد/التجاوز قدر الرجل٬ بينما تقضي شهوة القضيب على المرﺃة بالدونية و المحايثة"[42].
ﺃما الفئة المتبقية جاء توظيف الجسد/الجنس لديها ضمن خطاب الثالوث المحرم، كتقنية ليست بالمستقلة عن هواجس التخلف الثقافي للمرﺃة ٬ كما تقول ليلى حمران :" أصبحت الكتابة عن الجسد حرفة رائجة تستقطب الكتاب والقراء معاً في علاقة تبادلية مما حدى بعض الروائيين ٳلى اﻹنكباب على الجسد و تصويره في ﺃدق تفاصيله٬ باعتباره محل جذب للمتلقي وشهرة وربح للمرسل"[43]. بيد ﺃن هناك نسق ثقافي محلي يرى في السلوك الجنسي الحر تواطؤ على الهوية من قبل اليهود وﺃشياعهم اﻷمريكان : نسق ثقافي يتكتم و يكبت الحريات الجنسية و يعادي الاۤخر و يغتصب ممن يتمردن على قيمه٬ وممن ينتمين لعوائل مشبوهة ﺃو متمسحة٬ كإغتصاب اﻷستاذ المتوكل "المسلم" لشمائل زمن الحرب برغم إرتدائها للحجاب : "خلال القصف ﺃمسك يدي وراح يركض صوت القنابل حولني ٳلى صماء.. ثم وجدتني معه في نفق تحت اﻷرض .. قلبني بحركة عنيفة ورفع عني جلبابي ثبت فخذي بركبته وﺃنقض على عنقي كذئب مفترس راح يعضني وﺃنا ﺃصرخ شعرت بيده تمتد ٳلى ثيابي التحتية ثم شيء حاد يخترقني يمزقني تمزيقا يذهب ويجيئ..وهو ينهال على فرجي بالقصف.."[44] ولا مجانية في هكذا تصويرا دقيقا للجنس ﻷنه اۤلية فنية في بنية الحدث ؛ تفكيكاً لمظهرية اﻹسلام وموقفه السلبي من الاۤخر ذلك الاۤخر الذي يهتم بعقول /علماء الشرق ﺃكثر من ﺃنفسهم.
إن التجاوب مع ثقافة العصر/الثقافة اﻹستهلاكية والعولمة هو معيار للنجاح على مستوى استجابات التلقي ٬ غير ﺃن للمقدرة الفنية على توظيف الجنس في الرواية الجديدة يبقى هو المعيار
اﻷهم ٬ لعلّ الفاروق تميزت عن غيرها لموهبتها فيه ، وهذا ما نستشفه من حوار مارغرين مع الدكتور محمود في بيروت ، و هو يفحص بسكانير مبيض رحمها من معنى مضمر ، يحيل ٳلى أمكانية ٳقامة العلاقة الجنسية مع من تحب : "ـــــ يا للمبيض الجميل أنظري مارغريت! ٳلى ماذا يجب ﺃن أنظر؟ بقع سوداء وبيضاء لا غير. كنت ﺃتأمل وجهه.
ـــــ ﺃلا تنزل قذائف هنا؟"[45] ، ٳن مسألة الجنس الذي ﺃكل عليه الدهر وشرب في الثقافات غير العربية ٬ لابد من تناوله كعنصر فني له دوافعه حتى تتم استساغته وقبوله لدى القراء في الفضاء العربي والجزائري ، أين تشكل تيمة خطاب الجسد الهوية الثقافية كمحك حقيقي يميزها عن العولمة. وفضيلة الفاروق كمن تعرف ﺃن الجنس يشكل تابو ٳجتماعي وظفته السردية العربية مع ما يتماشى مع اﻷخلاق العامة ٬ بداية من ﺃلف ليلة وليلة بشكل خطاب مستتر (شكلت موضوعاته مضمرا إجتماعيا طبقيا) فلعبت الثقافة الجمالية العربية المتعولمة/الهجينة اليوم على هذه المظهرية وﺃستغلتها لصالحها ﺃي وجود ازدواجية الموقف الطبقي بازائه ٬ كما يقول: "..هناك نوع اۤخر من السراد يتخذ الجنس وسيلة لتعرية المجتمع من كون كبته يدفع ٳلى الخطيئة"[46] وهنا مربط الفرس؛ في التضارب الذي يشهده ويعكسه التقابل السوسيو ثقافي بين الغرب (المسيحي) والشرق (المسلم) حول حق التصرف الحر في مسألة الجنس من عدمه : أي طهارة الجسد تقابل دنسه٬ فالمسلم محمد لا يصافح المرﺃة : "ـــــ متى توقفت عن مصافحة النساء؟ ..ـ
ـــ هل ﺃخطأت مع إمرأة في يوم ما بمجرد ﺃن صافحتها ولامست يدها فإذا الشهوة تسري في عروقك وٳذا بعضوك يخونك و ينتصب ﺃمامها ٬ يا ٳلاهي ﺃليس لك عقل يتحكم في غرائزك الطليقة هذه؟"[47].
إن الغرب يقول بلا عقلانية الشرق وأن تراث العرب فيه ميال للهو ميله للجد ٬ فهو عنده شرق السحر وليالي ﺃلف ليلة وليلة. دليله هو الصورة التي صورها الرجل العربي و الشرقي عن المرﺃة في التراث اﻹسلامي٬ ويذكر عبد الله الغذامي ﺃنه لما سُألت المعبرة ﺃحكم ﺃهل زمانها ": ـــــ ﺃيتها الحكيمة ﺃين تجدن العقل معشر النساء..؟ قالت: ـــــــ بين اﻷفخاذ"[48] وبالمثل يدﱠعي الشرق ﺃن الغرب يعيش حالة من اﻹستنزاف اﻷخلاقي و الشهوانية الحيوانية الفضيعة.
أــــــ2ـــــ مواجهة النسق الثقافي:
مواجهة النسق الثقافي المحافظ على الهوية ( دينية/ﺃخلاقية كانت ﺃو عرقية/ الصراع الطبقي ﺃو تعلقت بنسق الجنوسة/النسوية) للأنساق الغيرية هو ما عمدت الفاروق على تجسيده بين فئتين من الشخصيات ، لكل فئة المرجعية الثقافية والحضارية المقابلة جدلياً لنظيرتها : شخصية البطلة مع عشاقها نوا ومحمد وصديقتها سلوى و ﺃوليفيا وابنة عمتها روزين، تقاوم التقاليد التي تكبل الشرق وتقف حائلاً بينه وبين التقدم الحضاري و التي يمثلها ٳياد وشهد ٬ ٳنه التقابل بين عائلة والد البطلة مارغرين وعائلة زوجها ٳياد : "بين ﺃوليفيا وشعيا مسافة نضج كبيرة فأوليفيا التي تكره الحرب و تعتبر الدين وسيلة لردع الشر في اﻹنسان لا اﻹنسان...ونرى لبنان قد يكون بخير لو ﺃن نظامه علماني"[49]، حتى وٳن استدعى اﻷمر العمالة و الجاسوسية للغرب وتفضيل إسرائيل على العرب : "إسرائيل هي"البعبع" الذي يخيف العرب جميعهم من المحيط ٳلى الخليج ، و بالنسبة لي لم تكن ﺃكثر من ﻹبرة التي تخيف الاٴطفال"[50].
إن مواجهة النسق الثقافي في الرواية الجزائرية الجديدة يتجلى في نقد المعتقدات والتقاليد الدينية ٬ نتيجة تنقيب الروائي داخل الفئات المهمشة والطبقات اﻹجتماعية المحرومة٬ وصولا إلى فهم الواقع الديني المعقد المتسم بالعنف مقارنة بالتدين لدى المجتمعات المسيحية٬ و" لم تعد اﻷساليب التقليدية قادرة على التعبير عن هموم و متطلبات الواقع الذي ٳزداد تعقداً عن تعقد٬ متجاوزا قدرات التعبير الروائي التقليدي"[51] فمن خلال ما اكتشفته الفاروق من مظهرية في اﻹسلام يتفرع شكها فتعمد إلى الكشف عن المستوران الاۤخران : الصراع السلطوي ــــ في ظل الحروب المزمنة في بلدان الشرق ــــ والتعالي الطبقي واﻹنحلال اﻷخلاقي المستتر نتيجة للتأثر بالثقافة الغربية ٬ فبالرغم أن الحاج وهب مواظب على الصلاة والصيام وتقبيل يد والدته٬ إلا أنه " يعشق النساء ﺃكثر من ﺃي شئ في الدنيا ٬ وزوجته التي تتخبط كالمعلقة بين علاقاته ٬ ﺃتقنت مهنة التجسس بسببه.. تسرع لثيابه"[52].
ب ـــــ ٳلغاء الحدث الرئيسي المُحرّك للنص:
لعل تراجع حدة النزعة اﻹيديولوجية في الرواية الجديدة يعكسه التشظي والتفكك ؛ تفكك الشخصية وتراجع دور البطل الخارق للعادة ﺃو اﻹشكالي ٬ لصالح تعدد الرؤى السردية من زوايا ثقافية مختلفة ٬ نتيجة لتعقد الحياة وتناقضاتها فما ﺃن يلج الروائي بشخوصه إلى الحدث اﻹجتماعي ، حتى يجد نفسه يخُوض في الجدليات السياسية والدينية. وتفتح الروائية فضيلة الفاروق جيباﹰ على الصراعع الثقافي بين الشرق والغرب بعد سقوط القطبية اﻹيديولوجية ؛ ٳذ تجد بطلتها مارغرين نفسها متورطة ٳلى الأذنين في قضايا لا ناقة لها ولا جمل فيها ٬ من منطلق ﺃنها صحفية مثقفة مسيحية بسيطة٬ همها السعادة مع الاۤخر الذكوري الذي جره القدر ٳليها صحفيا مسلماً سنياً وشرقيا لبنانياً٬ لكن يقودها "اللاﱠحدث" أي اللابطولة في سردها السيري (غرامياتها بينها وبين نوا) كما في قولها :" كنت ﺃصرخ مصابة بنوبة غضب فجائية و"نوا"يقترب مني هامساً:"نو بيبي" ثم ﺃخذني بحضنه واحتواني برفق٬ وراح يضغط علي شيئا فشيئا حتى هدﺃت ولكني إنفجرت باكية" [53] ٳلى ﺃحداث الصراع الحضاري بين الشرق والغرب التي جوهرها التقاليد الدينية التي لا يفرط فيها المسلمون ، ﻷنها تشكل الهوية الثقافية ـــــ كما تعرفت على ذلك من مقارنة عائلة اۤل نصر مع اۤل منصورـــــ لكنها مع ذلك تقوم بتفكيكها وصولاً ٳلى تفكيك هوية محمد العامل بمخابرات
بغداد ٬ وجعله يتقرب من ثقافة اﻵخر الغربي كما سنرى لاحقاﹰ :"عشت حياة ممتعة بين بيروت والضيعة لكني كنت ﺃتضايق من اﻷهداف التي غابت من حياتي٬ وحلقة الفراغ التي ﺃدور فيها شيئاﹰفشيئا.."[54].
ولعلّ مقتل والدها ﺃمام عينيها في شرم الشيخ ، في تفجير مرتبط بالجهاديين في مصر ضياع الموروث المادي والمعنوي عائلتها المسيحية في الضيعة ؛ بسبب الصراع السياسي/ الحرب بين المسلمين السنة والشيعة والمسيحيين في لبنان ، ﺃدى بها ٳلى التيهان وسط اﻷحداث والصراعات السياسية، فلم نعرف ٳزاء ذلك عما تبحث عليه الساردة ماغي/المؤلفة الفاروق بالضبط ٬ في الشأن تقول الناقدة شهلا العجيلي :" ﺃما مثقف القرن ال21 فأزمته ﺃعمق و مشكلته ﺃكبر، ﻷن القيم اﻷصيلة ليست مفقودة في العالم المتدهور فحسب بل هي مجهولة ﺃيضاً فإذا كان اﻷول (مثقف مرحلة الصراع اﻹيديولوجي) يبحث عن ٳبرة في كومة القش فإن الثاني لايعرف عما يبحث في كومة القش، ﺃو لا يعرف ماهي اﻹبرة ، ويعود السبب ٳلى التناقضات الحادة في العالم التي تمنع هذا المثقف من إمتلاك الواقع معرفياً ، فإذا كانت مشكلة اﻷول تعدد المرجعيات٬ فإن مشكلة الثاني سيرورة العالم نحو مرجعية واحدة متناقضة كل التناقض مع ﺃفعالها من جهة ٬ ومع تكوينه الثقافي من جهة ﺃخرى"[55]. نتيجة هذه اﻷزمة يتجلى في موقف المثقف الجزائري من الجنس
/ خطاب الجسد ٳما هو : غامض وطهراني في نص كنص الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي، وٳما ذاتي / نسوي متوجس من عبء التقاليد كما في نص "اﻷسود يليق بك" و"ﺃقاليم الخوف" غير واقف على حال إزائه : أي مفارق ثقافياﹰ فمن جهة تقول البطلة ماغي :"الحبل بدون الزواج دنس" ومن جهة أخرى توافق قول محمود :"الجنس رحمة ﺃليس كذلك؟"[56]
2 ــــ تعدد الشخصيات وٳختفاء البطل(جمالية التفكك بدل جمالية الوحدة):
على ﺃساس ﺃنه لا يوجد سرد بدون شخصيات تقود اﻷحداث ٬ و تنظم اﻷفعال ٬ وتعطي القصة بعدها الحكائي. حيث احتفظت الشخصية في الرواية الجزائرية الجديدة بدورها ، غير ﺃنه دور منتقص مقارنة مع الرواية التقليدية ، غدت مجرد شيىء حسب ميشال بوتور:"ٳن كتابة الرواية لا تقوم على الجمع بين ﺃعمال بشرية فحسب ، بل كذلك على الجمع بين ﺃشياء مرتبطة جميعها بالضرورة بأشخاص ٳرتباطا بعيدا ﺃو قريباً"[57] بحيث ﺃصبحت تلعب دور اللغة ﺃو المكان :" فمفهوم الشخصية في الرواية الجديدة إنصهر مع مفاهيم العناصر السردية اﻷخرى وقد أثبت عمار زعموش العلاقة التكاملية الموجودة بين الشخصية و المكان كإعطائه البعد اﻷنثوي اﻷمومي (..)"[58]
ﺃو الرمز المعرفي سواء كان فلسفيا ﺃو تراثياﹰ ثم ﺃن "الشخصية فوق ذلك تعتبر العنصر الوحيد الذي تتقاطع عبره كافة العناصر الشكلية اﻷخرى ٬ بما فبها اﻹحداثيات الزمنية الضرورية لنمو الخطاب الروائي وٳطراده"[59]٬ لا عجب إذن من كون النصوص الروائية الجديدةة بعثت الحياة في الأشياء و أماتت الشخصية ٬ كونها توائم في أساليبها وخصائصها نظريات ما بعد الحداثة "ما بعد الحداثة في النقد اﻷدبي تدعو إلى التعددية واﻹختلاف واللانظام ٬ وتفكيك ما هو منظم"[60]
"إن الشخصية في الرواية الجزائرية الجديدة ما هي سوى كائن من ورق٬ ﻷنها منتوج الخيال الفني للروائي، ومخزونه الثقافي ، الذي يسمح له ﺃن يضيف ويحذف ويبالغ ويضخم في تكوينها وتصويرها بشكل يستحيل ﺃن يكون انعكاساً لشخصية واقعية ، ٳنما هي شخصية ورقية ؛ من اختراع خيال الروائي بدﺃ دورها في الرواية الجديدة يضمر ويتراجع شيئاً فشيئاً حتى ﺃو شك ﺃن يختفي"[61] كذلك الشأن مع البطل٬ حيث "أصبحت البطولة للأشياء في الرواية الجديدة حسب رولان بارت الذي ﺃعلن موت البطل"[62] و فقد البطل بريقه أيضا في خضم تدافع اﻷصوات المقابلة لصوت الراوي والمؤلف عندما يطابق شخصية البطل ؛ كأن تعبّر الشخصية المتدينة عن رؤيتها
(المحافظة) كشخصيتي شهد وﺃمها ﺃم وهب في النص ؛ فشهد تزور بيت ﺃخيها ٳياد و تتفحص وجود المنكرات :"و قد ﺃثنت شهد ﺃكثر من مرة عليه حين كانت تزورنا وتتفحص زوايا البيت بحثاﹰعن المنكرات .
ــــــــ يعني تبت خيي؟ تسأله فيؤكد لها : ــــــــ و لله تبت ﺃختي ٳن شاء الله فوت عجهنم ٳذا كنت عمكذّب!"[63]
وتعبّر شخصية ﺃخرى عن رؤيتها المتحضّرة (شمائل) ، وشخصية ثالثة عن رؤية شيوعية (طوني)
والشخصية الرابعة عن الرؤية اﻷرستقراطية ــــــ سلوى السّافرة و جِيلنار التي تتحجب في الكويت و تخلعه في بيروت ــــــ و راتشيل التي تحب إسرائيل وهكذا دواليك ٬ ولكن للقارئ الحق في اختيار الرؤية التي يراها وجيهة ومقنعة دون ﺃن يفرض عليه الكاتب/السارد العليم حكما ذاتيا جاهزا ؛ كما في الرواية المنولوجية اﻷحادية الصوت في الرواية التقليدية ؛ بيد ﺃن الرواية الجديدة قد تخلصت بشكل من اﻷشكال من المنظور المطلق واستبدلته بالرؤية البوليفونية القائمة على فلسفة النسبية وجمالية التفكك :"و هذا اﻹختلاف بين بنات اۤل منصور لا يزعج كثيرا ﺃم وهب فحين يفتح موضوع بناتها تجيب : البطن بستان يجيب ﺃشكال و ﺃلوان"[64]٬ سواء كانت الشخصيات تحمل وعيا سلبيا ﺃوٳيجابيا ٬ نتيجة تنوع مصادر معارفها السوسيو-ثقافية٬ واختلاف منظوراتها للهوية ، انطلاقا من أزمة كل
شخصية السيكولوجية اتجاه اﻵخر: شهد مع سلوى و محمد مع مارغرين ؛ شهد ومحمد يبديان الغيرة المنطلية على التفوق الأولى من سلوى المتبرجة والثاني من أصدقاء ماغي المفتقدين للرجولة.
فالبطلة /الساردة مثلاً لا يهمها في ﺃمر تصدّع هوية الشرق شيء ، غير ﺃمر هؤلاء الذكور الشرقيين الذين تقيم علاقات حب معهم ، بكل وعيها ٬ لذلك جاء التحول من سرد ما يشبه السيرة الذاتية قبيل ولوجها إلى بيت آل منصور ( بالضمير ﺃنا) ، ٳلى السرد الحواري بضمير متعدد (هو٬ وضمير المخاطِب ﺃنت) بعد الولوج ؛ فهي دخلت كشخصية مطابقة لصوت الكاتبة فضيلة الفاروق ضمن عدة أصوات سردية ٬ أملا في وضع اليد على جرح أزمة التفكك اﻷسري٬ ليرمز انفصال ماغي عن زوجها إياد إلى الشرخ الذي ﺃحدثته العولمة على هوية اﻷسرة الشرقية المنغلقة كأبناء البلد الواحد الصغير لبنان.
"فالرواية الجديدة إذن هي تعبير فني عن حدة اﻷزمات المصيرية التي تواجه اﻹنسان٬ وفي ظل تفتت القيم اﻷخلاقية والمبادئ(..) و حيرة الذات الفردية لابد من اﻹستناد ٳلى جماليات التفكك بدل جماليات الوحدة والتناغم"[65]، بينما يكون صوت البطل طاغيا و وعيه تاريخيا من وعي الكاتب في الرواية التقليدية ذات الصوت الواحد ٬ ﺃما في الرواية الجديدة " فوعي البطل وعي غيري٬ غير محدد و لا يتم التستر عليه ، وليس مجرد موضوع بسيط لوعي المؤلف"[66] ٳذ تشعر البطلة مارغرين مثلاﹰ بالرتابة برغم من كونها صوت مسموع وسط حشد من الأصوات المتضاربة في عائلة
اۤل منصور، ما جعلها تترك بيروت وتقفل راجعة ٳلى مقر عملها بنيويورك.
3 ــــــــ ﺇنتاج المعرفة باستدعاء التراث اﻹنساني:
لعل ٳنتاج نوع من المعرفة ( علاقة العلاقة بين الشرق والغرب ) ﺃو الرؤية الفنية ( الشعور بقيم الشرق ) قائمين في رواية أقاليم الخوف على المرتكز الحيوي الذي بلغه النشاط الصحافي ، بمتابعة الراهن السياسي و تذوق الفنون الجميلة لمارغرين وعشيقها نوا وهو تجل من تجليات الكتابة الروائية الجديدة ٬ المرتكز هو المرجعية الحضارية الغربية التي ينخرط فيها الكاتب موظفاً خطابا فلسفيا أو
أو فلكلورياﹰ من جهة ، ﺃو المرجعية الحضارية الشرقية التراثية المحافظة التي تثير الكاتب تجعله يستدعي التراثي كالخطاب الصوفي من جهة مقابلة ٬ و لعلﱠ في نص ﺃقاليم الخوف كل ما تخشاه الشخوص الشرقية من : جنس/إنحلال ﺃخلاقي وإختراق للمقدس ٳسلامي ﺃو مسيحي و حتى بوذي ٬ وافتعال الحروب المدمرة و توسل المرﺃة الغربية الحاقدة على الشرق لذكاءها وثقافتها ..
إنه صياغة السؤال الفلسفي الكوني وعلى الطريقة الجبرانية [67] من خلال علاقة التوتر بين الغرب والشرق ﺃو اﻷنا /الذات و اﻵخر على لسان البطلة : "وظيفة كل ٳنسان في الحياة البحث عن الله ــــــ ﺃردت ﺃن ﺃفهم لماذا قتلت عائلتي باسم ذلك الدين الذي
يسمى "اﻹسلام"؟ ﺃردت ﺃن ﺃفهم طقس القتل في حد ذاته بذلك الشكل؟ فوجدتني ﺃعثر في رحلة البحث تلك بإياد ثم ببيروت ثم باۤل منصور ثم بالشرق كله ـــــ الله الذي خلق كل هذه الصحاري والبراري والأكوان والبشر تراه بحاجة ٳلى حماية"[68]. لكن فضيلة الفاروق تستلهم فلسفة حب و التعايش في آخر الرواية ٬ بين شرق حاقد و غرب يظل يبحث بكل الوسائل كي يمرغ ٲنفه في التراب ، بما فيها الهوية اﻹسلامية المعتدلة البعيدة عن التطرف و اﻹرهاب ٬ معتمدا على المدجنين بثقافته فاسحا للعولمة بقدم مثل الباحث المسلم إياد ﺃو العرب المسيحيين شوقي ﺃو حتى مارغرين ذاتها.. ، ﺃجل تستلهم ثقافة حب و تعايش و لو بنظرة عولمية تلعب على حبل حق اﻹنسان في الديمقراطية ٬ وحرية التدين ٬ فللتحرر من ﺃسر التخلف الحضاري وجب حسب البطلة الصحفية اﻹنفتاح الثقافي على اﻵخر كما فعلت هي بنفسها وذاقت ذرعا منه : "بمجرد وصولك ٳلى المطار تستقل سيارة يسرقك سائقها ﻷنك ﺃجنبي وفي فقه"المقدس..!؟" تجوز سرقتك ﻷنك لست مسلماً"[69] فتحرر المرﺃة الشرقية من سلطتي الجسد ( السلعة) ٬ و اﻷبوية الذكورية تمرد خطير فالتصور اﻹسلامي المحافظ حسب ماغي يجعل من الجسد عدو النفس، و كأنه لا يوجد بينهما ﺃي ترابط وظيفي٬ تعرف أنه في تصور العلم غير ذلك تماما بل هو قدر اﻹنسان منذ أن خلق الله آدم وحواء : " ﺃكلت الثمار المحرمة ٬ رغبة في إمتلاك الكون في جنتي تلك ٬ ﺃكلتها وﺃقلعت بعورتي المكشوفة نحو الشرق"[70] ٬ لذلك راحت منتقلة من حضن رجل شرقي عربي إلى آخر٬ و هي بعد في ذمة رجل مسلم! و فوق هذا وذاك مكلفة بتنفيذ مهمة خطيرة . تستدعي الحذر.
و الفاروق لم تختر لبنان مسرحا لروايتها اعتباطًاـ ــــ وٳلاﱠ لما هجرت ٳليه ﺃصلاً ــــــ ﻷن لنساء هذا البلد لهن تاريخ في الدفاع عن حقوق اﻹنسان أملا في العيش بعزة و كرامة كالروائية غادة السمان ؛ التي تعتبر ﺃن تمزيق المرﺃة العربية للشعور بالذنب ٳتجاه جسدها جراء التقاليد ماهو إلا تمزيق للوهم الثقافي المتسلط على فكرهن بأن النساء دينهن وعقولهن في فروجهن[71] ٬ ومن ثمة تمزيق الوهم المتربع على ﺃذهان المسلمات بأن قضاء الحاجة الجنسية بحرية أمر عسير و ممقوت ٬ بل هو حاجة مثل حاجات المرﺃة اﻷخرى لا ينبغي ﺃن تشغل تفكيرها به العمر كله ، و إلاّ تحولت مقولة أبو عبد الله محمد النفزاوي السابقة إلى حقيقة . وفي المجتمعات الشرقية الأكثر تخلفاﹰ كمدن
الضواحي في ٳسلاماۤباد التي زارتها ما غي رفقة نوا ليشهدا محاكمة المرﺃة "زاهدة" المقطوعة الحواس و اﻷشفار من قبل بعلها ﻷنه شك يوماً في خيانتها له.
ٳنها التقاليد البالية المضطهدة للمرﺃة التي تحولت ٳلى هاجس مؤرق للفاروق :" ﺃنتمي ٳلى فئة اﻹعلاميين الذين يناظلون من ﺃجل جعل واقع العالم الثالث يتغير نحو اﻷحسن٬ بدعم النساء وتحسين ظروف حياتهن لكن موجة التدين الخاطئ كانت تحركهن نحو جحورهن القديمة.." [72]
وفي اۤخر الرواية ٬ نلمس تصور فلسفي آخر لفضيلة الفاروق مُعلي من شأن الحب ( بين مرﺃة حاملة لثقافة غربية و رجل شرقي ﺃصيل الثقافة اﻹسلامية ) متجاوزة لكل الأعراف الشرقية المحافظة فتجعل جسدها وسيلة لتجاوز الكراهية العمياء :".. و زرعت روحاً جديدة في جسدي و ولدت بعد مخاض عسير من رحم الحب"[73] ٬ التدافع الهمجي بين الشرق و الغرب الذي لايؤدي في نظرها ٳلاﱠ لمزيد من العنف والسيطرة التي لا ترسخ ٳلاﱠ لقيم الضحية و الجلاﱠد. لقد عرفت فضيلة الفاروق كيف تسرد اﻷحداث ممتزجة باﻹيحاءات الجمالية الحسية للجسد بكل عنفوانه٬ عكس تجريد الحب في الموروث السردي العربي و الخطاب الصوفي له باختزاله في التجربة الروحية ٬ فهي
ﺃحالته ٳلى علاقة مادية بين الرجل/ المرﺃة المتعولم ﺃو المتعولمة مع المرﺃة/ الرجل المحافظ ﺃو المحافظة على هويتها مثل ما ﺃحاله غوستاف فلوبيرت مع كشك هانم[74] في رواية مدام بوفاري٬ وذلك نتيجة لثقافتها.
ثانياﹰ ــــــ المبنى الحكائي في رواية أقاليم الخوف
1 ـــــ بنية اللغة :
ﺃ ـــــــ الثورة على اللغة النمطية :
لعلﱠ ﺃول ما يلفت إنتباه المتابع للمشهد الروائي الجزائري هو اﻹختلاف في المستوى اللغوي٬ إذ ﺃن الكتابات الجديدة برمتها تعتمد على مستويات مختلفة تاريخية وعلمية ٬ كما تستعين باللغة الشعرية٬ حيث كسر الجيل الجديد النمط الكلاسيكي في بناء السرد ، جاعلاﹰ أهمية قصوى لشعرية السرد على حساب الموضوع والتفاصيل السردية :" فالرواية الجديدة تهتم بالنص والمضمون الإبداعي اللغوي بشكل كبير٬ وتنظر للواقع بنظرة نقدية ذات بعد٬ مع اﻹهتمام بتقنية السرد واللغة"[75].
لا نجد ﺃفضل من ميخائيل باختين M.Bakhtine في تحديد الطابع اﻹجتماعي للغة في حواريته والتي مازالت تستأثر بإهتمامات الدارسين في مجال اللغة حيث يقول : " إن اللغة لا تكون مجرد علامات رمزية ٬ بل تصبح فضاء يتوفر على مستويات إيديولوجية متنوعة"[76].
لذلك يعد النص الروائي الجديد نص لغوي في المقام الأول ٬ ويتميز بنصه البديع الذي تهيمن عليه الوظيفة الشعرية التي أصبحت بموجبه الرواية الجديدة رواية شعرية اللغة ؛ همها الوظيفة التزينية التنميقية للغة ، فقد سعت مجموعة من النصوص الروائية الجديدة " إلى تجاوز البنية الزمنية وتحطيم الشخصية لتحتفظ فقط بعنصر منحته الأهمية هو اللغة"[77]٬ وفي رواية أقاليم الخوف ما يبعث في ﺃفق انتظارات القارئ الباحث عن الفرادة والتميز البهجة والمتعة ثم الخيبة واﻹنتكاسة في إيحاءات تلك اللغة المتمردة المشاكسة والنابية في ذات الوقت ٬ تحمل مقابلا للرسمي النخبي*سواء ثقافياﹰ ﺃو سردياﹰ ـــــ القالب الشعري و الرومنسي الجاهز الفالت على الطريقة العالمية وكدﺃب الرواية الجديدة العربية أيضا ـــــ فقد جمعت في روايتها بين الشعرية والدلالات الثقافية للخطاب
(موضوعة الجسد/الجنس آلية لنقد المقدس والسلطوي) تحت حتمية اﻹستجابة لجمالية التلقي
asthetic reception ـــــ التوق إلى التأمل المقترن بالمتعة ـــــ فهي تعكس الخضوع لمطالب الشرائح
السوسيو-ثقافية اﻷوسع في بنيتها ٬ ﻷن مطالب هذه الشرائح كما ترى البطلة/ المؤلفة هي جوهر الزلل لدى الشرق المتخلف مقارنة بالغرب :" يرى فرويد باٴن كل المتع الجمالية التي يقدمها المبدع تماثل طبيعة المثل لدينا٬ وينشأ اﻹستمتاع بها ﻷنها تحررنا من التوتر الموجود في عقولنا وتمكننا من اﻹستمتاع بأحلام يقظتنا دون شعور بالندم ﺃو العار"[78] قولها على لسان البطلة مارغريت نصر التي تقوم بوظيفة الراوي المشارك سردا لسيرتها الذاتية : " طوقته ﺃخذته بين يدي وملاٴت ﺃحضاني به و مارست معه أنواع العنف والعشق..كنت اﻷنثى التي نزلت من الجنة إلى اﻷرض. فأكلت الثمار المحرمة رغبة في إمتلاك الكون في جنتي تلك و ﺃقلعت بعورتي المكشوفة نحو الشرق ٬ كنت ﺃظن ﺃن الشرق مجرد جسر للعبور"[79] وطورا تحت ذريعة محاكاة جماليات الرواية العالمية حين تعمد مثلاﹰ إلى شعرية التكرار في اللغة ٬ تلهيفا للقارئ و لعباﹰ على تذوقق جماليات الجسد الذي ظل ينحو منحا استهلاكيا ؛ فاﻷخذ بين اليدين وملئ اﻷحضان هو نفسه التطويق ٬ بيدد ﺃنها تبغي وراء ذلك إبراز وظيفة تزيينبة لجمالية الجسد تضاهي الوظيفة التزيينية البلاغية للغة.
ﺃما اﻹشتغال على شعرية اللغة فهو غير اﻹشتغال على اللغة حسب الروائي الجزائري بشير مفتي ٬ لكن بدعوى التجريب و الثورة على اللغة قد يُتجاوز بها(الشعرية) عن القصور اللغوي في أغلب النصوص الروائية الجديدة ، كقول الساردة :" تذكرت خبث شهد في سنة زواجي اﻷولى٬ حيث ﺃقامت عشاء ودعت ٳليه كل ﺃفراد العائلة لتضمن عدم خروجنا للإحتفال مثل الجميع"[80] ، فالخبث هنا مفردة نابية وهي تعبير مجازي علاقته الجزئية فكل خبيث هو محتال ٬ هذه الكلمة تؤدي المعنى
المناسب و هو اﻹحتيال في سياق تداولي ألسني خاص بالثقافة الشعبية عند المسيحيين اللبنانيين * ﺃو العرب أما المسلمين غير العرب فغير معنيين بهذا التعبير المجازي ٬ بالتالي مارغرين المسيحية تريد النيل من شهد المسلمة دون مبرر، فهي لم تصفها بلغتها لغة الثقافة العالمة ٬ ما من شأنه كشف ثغرة لا إنسجام النص لغويا ناهيك عن لا انسجام التمفصلات الخطابية والايديولوجية ٬ كذلك اﻷمر في اﻷسلبة السردية** التي ميزت أسلوب الكاتبة برغم امتلاكها لناصية
الشعرية :" ﺃصبح يسهرﺃيام السبت مع ﺃصدقائه القدامى٬ تعرفت فقط على ﺃحمد وجاك من بينهم وكلاهما مطلق و يعيش على هواه"[81] وعلى لسان البطلة التي تقول أيام القداديس[82] ، جمع قداس على قداسات أو قداديس أمر مكروه وغير أدبي بالمرة لأن قدﱠاس هي مفرد وجمع في نفس الوقت ٬ كما لا نقول الطبخة في الفصحى وٳنما الطبيخ ٬ ولا نقول السيجار الذي يمصه الرجل بل الذي يدخنه الرجل٬ و المرٲة الحامل لا الحابل لكن نقول حبلى؛ إذا وجدت في العربية كلمة الحبل من الصفة حبلى فإنها غير متداولة ﻓ"الحبل بلا دنس"[83] تعبير مهجور اﻷجدى هوالحمل بلا دنس. وعموماً من دراستي ومطالعتي لعدة روايات جزائرية جديدة توصلت إلى ﺃنه بالرغم من تمرد الكاتبة فضيلة الفاروق النحوي والصرفي هذا ٬ وعدم تحاشي اﻷسلبة السردية و التهجين اللغوي ــــــ تطعيم فصحتها باللهجة اللبنانية ﻛقول " ليش ما شحل عبود الزيتونات بعد"[84] شحّل تعني قلّم ـــــ يعتبرها النقاد ﺃفضل مثلاً من لغة عديد الروائيين الجزائريين الكبار، كرواية ﺃصابع لوليتا لواسيني الأعرج مثلا التي خرجت إلى السوق في وقت واحد وﺃفضل بكثير من لغة موجة الروائيين الشباب.
ب ــــ اللغة وحضور النسق الثقافي:
لعلﱠ مفارقة فضيلة الفاروق هو في توظيف الكتابة النسوية كهوية سردية مقابلة لمركزية الذكر، مُحتفية بالجنس واهبة الحياة لمفردات عامية ﺃو فصحى لا تعيش ٳلاﱠ في مرابض الدعارة وجيوب المهمشين :"وحين رفع رﺃسه و هو ينظر ٳلي؛ ٳنتابتني رغبة عارمة لمص عرق جبينه عرق بارد وحلو"[85] بل ﺃنها تصل ٳلى التخلي عن شعرية اللغة إلاﱠ كي تلج ٳلى لغة الجسد وجمالياته وايحاءاته وطقوسياته بخاصة في نهاية الرواية؛ ٳنه لفظ الشارع الجنسي القاذع نذكر ماهو ﺃقل منه قذاعة :" ﺃلا تريد ﺃن تضاجعني؟ فهز رﺃسه ﺃن لا ثم ٳبتسم وقال: ﺃنا لوطي يا مارغريت وﺃجساد النساء لا تعني لي شيء"[86] في الوقت ذاته توظف تعالي وعنصرية الذات اﻷنثوية اتجاه الذكر الشرقي المحافظ المتوكل ( ﺃستاذ بسيط وليس عالما نوويا ) الذي ٳغتصب شمائل.
كما تحدثت بلغة ﺃخرى غير شبقية لكنها ٳنتقامية شرسة ٬ كأنها لغة شخصية ﺃخرى غيرها ؛ ٳنه ٳنزياح سياقي* للخطاب اللغوي عبر النسوية ٳزاء نسقين ثقافيين ؛ نقد نسق الهوية المحافظ الشرقي وذمه إرتماءًا في خضن الذكر المتماهي مع نسق تمثل الاۤخر الغربي (العالم ٳياد و الصحفي نوا و شوقي ابن مسيحي) ؛ فالنسوية أو الجندر أصبح نسق ثقافي في الرواية الراهنة ٬ و معيار توظيف خطاب تابو الجنس توظيفاً ثقافياً إنتصاراً للجندر وللقيم الثقافية الدينية والسياسية معا ؛ كالديمقراطية مقابل الكبت والردع اﻹجتماعي و التسلط الديني والطبقي كما في قول شمائل :".. عدت ٳلى البيت جريحة ٬ مجردة من العفة والحشمة ٬ وحتى حين ﺃقسم والدي ﺃن يقتلع عينه
ﺃمامي ويقتله"[87] بيد ﺃنها تتمادى في تفكيك التابو بخاصة اﻷخلاقي بدون ﺃن تقف موقفاً عادلاً (ديمقراطياً) من منطلق ﺃنها ﺃنثى متحررة من عقدة الجنس٬ بين إغتصاب شخصية المثقف المدرس المحافظ المتوكل لشمائل ٬ وﺃي شخص اۤخر متعولم الثقافة للمرﺃة المسلمة ، غير ﺃنها تستدرك ذلك في آخر الرواية فتشبق بمحمد المحافظ شبقاﹰ جنونياﹰ لا يضاهيه شبقها بإياد ولا نوا :" لئن رﱠبت المرﺃة ﺃبنائها ليكونوا مثل الحيوانات فإنهم بالغريزة سيعرفون اﻷنثى سيمزقون حجابها٬ سواء كان ﺃزرق ﺃو ﺃسود وسيغتصبونها ولئن ربتهم على اﻷخلاق و العفة فسيرون كل ﺃنثى ﺃنها اﻷم واﻷخت والرفيقة.."[88] ٳنه اﻹدراك في نهاية الرواية ﺃن اﻷنا/الذات بكل عدوانيتها و رفضها للاۤخر٬ هي بحاجة للنزعة اﻹنسانية والتي ﺃسماها الحب مقابل الموت" ـــــــ ولكني لم ﺃبالغ فقد كنت ﺃكره ٬ وكل ما فعلته سابقا كان بحكم الكراهية ٬ و ها ﺃنا ﺃحب اليوم.. "[89] المتحرر من العنصرية و التعالي ، حينها تعرف نفسها من خلال رؤية الاۤخر لها ٬ فتعمل ماغي على تعديل الموقف واﻹرتماء في ﺃحضان محمد وإختيار:
1ــــ ٳسم هذه الشخصية والتي بدت وﺃنها ﺃفضل من ﺃمتعها له دلالة فمحمد رمز الرجولة و التخلق لكن المنطوي على نسق الذات غير المنفتح على اﻵخر، كونه رمز المسلمين الأشداء على الكفار الرحماء بينهم٬ ليس إختيارا إعتباطياﹰ لعل وعسى يغير المسلم من نظرته وموقفه من اﻵخر ؛ وهو ما حدث فعلاً يتغير محمد و يصبح رحيماً مع من يتمثل ثقافة اﻵخر في بيروت ويعيش مع ماغي على طريقة الغربيين(دون زواج)*.
2- لغة الحب في الصفحات اﻷخيرة هي اﻷخرى ليست مجانية الدلالة؛ كونها مقابل الموت كما هو الغرب مقابل الشرق المتخبط في حروبه وغاية اللغة الشعرية :"وكما في كل مرة سيردد : ـــــ اًشكر الله ﺃني وجدتك. وسأردد الشيء نفسه مقتنعة ﺃنه وحده كان خلاصي.
ــــــ ﺃلا تمل من قول ذلك؟(ﺃساٴله).
ـــــ لا لا ﺃمل ٳني ﺃحبك (ﺃجيب). ــــــ ﺃقسم ـــــ و الله."[90]
تحول لغة النص من خطاب عنصرية وتعال ثقافي بين المتمثل للاۤخر الحامل لثقافته العولمية مع المتمثل لهويته الشرقية الإسلامية اﻷصيلة (الذات) على لسان البطلة ( عندما تمارس الجنس مع عشيقها الجديد محمد وتصفه وصفا جنونيا) ٳلى خطاب حب و يتحول هذا اﻷخير "من حالة فردية ٳلى مشروع كلي يضم اﻹنسان والجمادات والفضاء ويتحرك بفاعلية نحو الزمن المطلق حيث الخلود ٬ مما يؤكد ﺃن الحب ليس ٳحساسا يمكن للإنسان ﺃن ينغمر فيه بسهولة بل هو فعالية تطور الشخصية الكلية للإنسان"[91].
2 ــــــ البناء السردي :
ـــالانحرافات السردية : اتسمت الرواية الجزائرية الجديدة بخصائص سردية مختلفة عن القوالب السردية الجاهزة التقليدية كما يظهر في:
ﺃ ــــ سرد السيرة الذاتية والسرد اﻹخباري:
ﺃلفينا غلبة النمط السردي الذاتي؛ تمثيل البطلة/الراوي المشارك مع الشخصيات الثانوية : نورة وسلوى الصديقتين ، و روزين بنت العم ، ونوا العشيق ، وٳياد الزوج ، للأحداث الراهنة المصطدمة بواقع سياسي محتقن بين الغرب والشرق جرﱠاء اﻹرهاب وإنتهاك حقوق اﻹنسان في عديد من بؤر التوتر بأسلوب غير مباشر " و هو اﻷسلوب اﻷمثل للوصول ٳلى دواخل الشخوص٬ وتحريرها من رقابة الوعي والذات والاۤخر"[92] غيرﺃن ذلك لا يشفع في ترابط خيط السرد مع شوق الترقب ومتعته لتتمة اﻷحداث، ٳلاﱠ بنظرة مسبقة يدركها القارئ منذ البداية٬ تلك النظرة المعبرة عن الراوي /المؤلف ؛ فعدم إنحيازية الراوي تحصيل حاصل كون ﺃن التقنية السردية التي تنهض بها هنا الرؤية السردية غير مستقلة عن رؤية الراوي/المؤلف للعالم حسب لوسيان غولدمان٬ فتدخل رؤية الراوي من الخلف والبطلة كراوي مشارك ٬ و هما يعرفا بعمق هاته الشخصية ٬ ويفرقاها عن تلك ثقافياﹰ٬ يحمل دلالات إجتماعية وثقافية فكرية إيديولوجية تدل ﺃن للكاتب رؤية دالة ، و مارغريت تربت في ﺃمريكا تربية غربية براغماتية فاكتسبت ﺃخلاقه وتبنت رؤاه اﻹيديولوجية لذلك لا تتوانى في الهوس بالغرب ؛ هوس اﻷنثى بالرجل المتخم منها الذي يعرف ﺃنها تلك اﻷنثى الشرقية المستلبة الحريات.
لقد جعلت الروائية بطلتها متعددة اﻹنتماءات : ترعرعت في ﺃمريكا ٬ تنحدر من فلسطين٬ و تبنتها عائلة مسيحية لبنانية ٬ وتزوجت من شاب لبناني مسلم ؛ ٳما لكي يأتي السرد موضوعياﹰ صادقاﹰ ﺃو لكي تضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد وتصيب نقد الهويات الثلاث اﻷكثر تجلياً في الثقافة*حاليا : الصراع الطبقي /السلطوية في الشرق والتزمت الديني وتكريس هوية الذات اﻷنثوية مقابل الذكورة باﻷدب النسوي/الجندري ؛ من خلال بطلة ذات تجربة شاملة٬ ورصيد ثقافي ينهل من الصحافة وﺃكاديمية زوجها يؤهلهانها لسرد ﺃحداث من موقع قوة :" و قد سعى السرد النسوي العربي الحديث ٬ ٳلى ٳنتاج شخصيات نسائية مكثفة وجعلها في مركز النص اﻷدبي لتصبح المرﺃة هي المبدعة والبطلة الفاعلة تطبيقاً للفكر اﻹيديولوجي٬ الذي تؤمن به الكتابة النسوية بأنها ﺃضحت في مركز
الكون"[93]. غير ﺃنها لم تحسن اختيار اﻹسم فمارغريت يذكرنا ببطلات روايات القرن العشرين الغربية "المومسات"٬ ﺃما اﻵن فلا نجد لهذا اﻹسم ﺃثر، فهو اسم إنقضى مع القرن العشرين .
عندما ساءت العلاقة بين البطلة وٳياد إثر العودة ٳلى لبنان ، ٳنفتح السرد على التسجيل ﻷحداث الشرق السياسية مع البطلة التي تتوقف عن حكي سيرتها ٳلى مايشبه التصدي لتحول في خطاب الزوج٬ الذي تزوجته زواجاً مدنياً(تسمح به المسيحية) كونه مسلم و هي مسيحية تمقت كل ماله علاقة بالشرق٬ بينما راح يقارن بينها وبين شقيقاته وقريباته٬ راحت البطلة/المؤلفة تبحث عن مسوغ لتشويه صورة الثقافة المشرقية : التقاليد المحتقرة للمرﺃة والتطرف الديني عبر ﺃقاليم مشتعلة ببغداد وﺃفغانستان ودار فور؛ لترسل بتقاريرها الصحفية وباﻷعضاء البشرية ٳلى منظمات ﺃمريكبة خاصة؛ فتتهم بالجاسوسية للغرب :"لم يعرف ٳياد ﺃن نطافه كان يزرعها في ﺃرحام نساء ذوات قدرات خاصة ؟ في مراكز سرية في بيروت. وﺃن له ﺃكثر من عشرين ولداً سيصبحون في المستقبل عقولاً ﺃمريكية ذكية بلا جذور تعثر مسيرتهم المرغوبة .."[94] ؛ وهكذا دواليك يتناوب السرد ضمير المتكلم ــــــ سيرة مارغريت الذاتية في مقاومة ثقافة الشرق المنحازة للرجل ٬ " فهو ضمير للسرد المناجاتي يستطيع التوغل ٳلى ﺃعماق النفس البشرية ٬ فيعريها بصدق ٬ ويكشف عن نواياها بحق ويقدمها ٳلى القارئ كما هي لا كما يجب ﺃن تكون"[95] ـــــ وضمير الغائب في شبه تسجيل ﻷحداث سياسية تدور رحاها في بيروت وفي ﺃقاليم الخوف و الرعب : بغداد وٳسلام اۤباد ودار فور..
ـــــ لعبة الضمائر ٲو الحوارية[96](البوليفونية la polyphonie):
لعله من أحد أبرز تجليات الرواية الجديدة التلاعب بالضمائر، ﺃي تناوب ضمير المخاطب (ﺃنت) مع ضمير المتكلم (ﺃنا) تارة في سرد السيرة الذاتية :" ﺃنا - ﺃنت و من هنا الرواية ذاتية المنحى واﻹتجاه ٬ تجعل الرواية خطابا طبوغرافيا متعدد اﻷصوات ﺃي ﺃنها رواية بوليفونية قائمة على تعدد الرواة"[97] وطوراﹰ تتداخل وتتفاعل كل الضمائر و لا تحتفي كثيراً بسرد ضمير الغائب ٬ وهذا ما يدعى بعدم المباشرة السردية ﺃي ترك الشخصيات تعبر عن ﺃفكارها وٳديولوجيتها بالحوار لكي لا يومئ ذلك إلى رﺃي الراوي/المؤلف خاصة واٴنﱠ تعدد اﻷراء واختلافها سمة تجريبية إنتشرت بانتشار العولمة فهي سمة من سمات التعدد الثقافي في العالم ، إذ : "لم تعد اﻷساليب التقليدية قادرة عن التعبير على هموم و متطلبات الواقع الذي ٳزداد تعقدا متجاوزةً قدرة تعبير الروائي التقليدي"[98] وفي الحوارية يتم السرد بالضميرين (ﺃنا) :" الشرق يعطينا شعوراً بالخوف على ﺃننا غير محصنين" ومع (ﺃنا) و(ﺃنت) :" كنت ستكونين مغطاة بالبوركا .." بين مارغرين و عشيقها "نوا" غير ﺃن الراوي المشارك / مارغرين تتحيّز لخطابها وتعطي ﺃحكام القيمة بالتعميم :" شرق بعقول معطلة!..هذا هو شرق شهد المتعالية المتعجرفة"[99] بدل أن يأتي القول منساب من فم شهد أوشخصية محايدة .
وفي كثير من النصوص الجزائرية الجديدة يسعى أصحابها إلى المتخيل السردي الغير موهم بالواقع لكن على حساب تضارب الأفكار وتصارعها ٬ ممسكين بقبضتهم على الراوي ساردا السيرة الذاتية بالضمير (ﺃنا) الذي بحضوره تتقلص الأصوات السردية ، يكتفي الراوي في سرده باﻹشارة فقط إلى الضمير هو (ضمير الرواية الكلاسيكية) ٬ ثم ما إن يتفطن الراوي/المؤلف لذلك في نهاية النص ٬ حتى يفسح المجال لعدد معتبر من الأصوات ٬ لتعبر عن أفكارها بكل ديمقراطية، ما يكشف عن النسق المضمر ويفضح النسق المسيطر كما في نصوص فضيلة الفاروق بالتحديد في ﺃقاليم الخوف ؛ حيث تجتمع عند عائلة آل منصور: المرﺃة المحافظة ﺃم وهب وشهد ٬ إلى جانب المرﺃة المنافقة شمائل ونورا والمرﺃة المتمدنة المتمثلة لثقافة اﻷروبيين جيلنار، وسلوى وﺃختا ﺃوليفيا العانستين نينا وربيكا و راتشيل زوجة صديق إياد ٬ ناهيك عن عالم الرجال المتعدد هو اﻵخر:"حين قدمني الدكتور محمود لمحمد٬ مددت له يدي٬ فزم يده إلى صدره واعتذر إنه لا يصافح النساء٬ فطفحت ذكرياتي في بيت آل منصور على السطح"[100].
ب-ٳلغاء منطق الحبكة (تفتت البنية السردية وٳنكسار المبنى):
القصة هي المادة الحكائية المشكلة من المكونات السردية المعروفة ( شخصيات ، ﺃحداث ، راوي..) فهي تشكل بنية السرد ( اﻷحداث في ترابطها وتسلسلها في علاقاتها بالشخصيات في فعلها و تفاعلها) في حين تمثل الحبكة "طريقة الحكي واۤلية اﻹشتغال ٬ التي تحقق هيكلية خاصة لتلك المادة التي تنهض عليها الرواية ٬ و من ثم ترتسم خصوصية كل ٳبداع روائي٬ انطلاقا من طبيعة التشكيل ونمط اﻹنتظام الذي يسم الخطاب الروائي"[101] لاغرو ٳذن نتيجة هذا التعالق الذي يكتنف الجوانب الفنية بالخطاب والحكاية وﺃسلوب السرد ٬ من تبدد منطق الحبكة في الرواية الجديدة القائم على نوعين حسب الناقد محمد ﺃيوب الحبكة المتماسكة[102] : التسلسل والترابط فيي البداية ثم الذروة ثم النهاية ٬ فاسحة المجال للحبكة البوليسية (suspense) ميزة الرواية التشويقية القائمة على حضور مكثف للجريمة وﺃلغازها وٳثارة القارئ ﺃكثر من ﺃي شيئ اۤخر كما في نص "ﺃصابع لوليتا" لواسيني الأعرج و نصوص محمد مفلاح الجديدة على سبيل المثال لا الحصر:"ــــــ نحن لانقتل النساء!٬ كنت في حضنه مغمضة العينين .. ــــــ لماذا غيرت رﺃيك؟ (قال) فأجبته هذه المرة صادقة..ﺃطبق محمد ملفي ﺃمامي و كتب عليه العملية رقم 55 و كتب تاريخ ذلك اليوم لعله كان الثامن من ﺃيار/ مايو 2006"[103] . ﺃو اﻹستغناء عن النهاية كتقنية تجريبية جديدة : هذا اﻹستغناء هو الحبكة نفسها ، كما في نص الولي الطاهر يعود ٳلى مقامه الزكي تجعل القارئئ يشارك الكاتب في تصور نهاية و دخوله كطرف منتج للنص الروائي الجديد كما يقول ٳيزر وُلفقانغ wolfgang Iser : " كل عمل ﺃدبي غير تام من حيث المبدﺃ٬ ويحتاج لمن يملاٴ مواقع اللاﱠتحديد ــــ الفراغات ـــ فيه بإستمرار في كل قراءة"[104] ﺃو كسر التوالي بإفتعال الحدث الفاجعة Tragedie منذ البداية ثم محاولة تبريرها عبر مراحل الرواية ﺃي الحبكة المفككة كنص "متاهة ليل الفتنة" ﻷحميدة عياشي ٬ فهو يبدﺃ من حادثة مقتل مجموعة من المعلمات ذبحاً في حافلة بين سيدي بلعباس وسفيزف ليتطرق في المتن لظروف الحدث.
"إن مفهوم الحدث في الرواية الجديدة تغيّر عما كان عليه في الرواية الكلاسيكية شأنه شأن العناصر السردية اﻷخرى ٬ فلا نلفي مراعاةً لذلك التسلسل والتتابع الكرونولوجي المنطقي للأحداث واعتماد مبدﺃ التطور التدريجي٬ فقد تبدﺃ الرواية من النهاية وقد ينطلق السارد من الحاضر ليعود ٳلى الماضي ثم المستقبل وذلك يتبنى تقنيات سردية مدمرة لخطية الزمن "[105] غير ﺃن الغالب السائد اﻵن في الروايات الجديدة هو تركيب الحبكة من التسلسل الطبيعي لنمو اﻷحداث وتطورها ، بيد ﺃن لتعمد ﺃو عدم التحكم الفني في التقنية الحاسمة و المؤثرة ــــــ النمط وزاوية رؤية الراوي السرديين ـــــ في مثل هكذا موقف يؤدي ٳلى الزﱠلل و اﻹنتقاص من قيمة الحبكة الفنية ؛ من شأن ﺃحداث الحرب ﺃن توصل ٳلى العقدة (الصراع[106]) التي تسوغ بعدها للراوي ٳصدار الموقف الذي يرتجيه و هو ذم روحانية الشرق وتخلفه ٬ ومدح مادية الغرب وتقدمه ٬ ﺃي اﻹنتصار لقيم المسيحية والعولمة الثقافية اليوم على حساب قيم تراث الشرق ٬ وللقارئ اﻹستمتاع بالفنيات السردية عن طريق انتظارات توقعاته التي كوّنها حينئذ ٬ بيد ﺃن لا هي تقارير حرب دار فور و حرب سقوط بغداد ﺃو كوسوفو ﺃو غزة استطاعت ذلك ؛ حيث يأتي موقف الراوي من هذه اﻷحداث وتفاعل الشخصيات المحبك معها غير مقنع للقارئ بخاصة في جانب توسل الشرارة التي تصنع التأزم كما في قولها :"كان ينظر ٳلى الكورنيش الذي يعج بالناس ويقول لي : ـــــ يجب ﺃلا يخدعك هذا التعايش ٳنه دوما التعايش الذي يسبق العاصفة"[107] .
يميز توماشفسكي بين نمطين من السرد : " السرد الموضوعي ويكون فيه الكاتب مطلع على كل شيىء ٬ والراوي محايداً لا يتدخل ليفسر اﻷحداث بل يصفها وصفا محايداً يترك الحرية للقارئ ليفسر ما يحكي له ويؤوله٬ والسرد الذاتي تقدم فيه اﻷحداث من زاوية نظر الروائي٬ فهو يخبرنا بها ويعطيها تأويلاً معيناً يفرضه على القارئ ويدعوه ٳلى اﻹعتقاد"[108] ولعل سرد سيرة ماغي الذاتية وهي بين عائلتين مختلفتي الديانة يدخل ضمن نمط السرد الموضوعي حيث لمحنا ﺃثاره في بداية نص ﺃقاليم الخوف و"هو سرد متشكك يعرض العالم ﺃمام ﺃعيننا بغموضه ٬ ومن هنا فإن الراوي كلي العلم يختفي ويحل محله راو ا᷃خر يروي بضمير المتكلم٬ ويعيد علينا ما يترﺃى ﺃمام
عينيه"[109] . ﺃما النمط السردي الذاتي فلمسناه في سرد الحبكة المتماسكة في آخر النص ؛ عندما إقتربت الفاروق من ترك بطلتها الجاسوسة و شأنها تصارع ﺃصوات متعددة على شاكلة الدراما البوليسية المشوقة في الرواية الغربية.
3 ــــــ بنية الزمن :
ـــــ تدمير خطية الزمن : يبدو الكشف عن البنية الزمانية في الرواية الجزائرية الجديدة ﺃمر صعب المنال٬ ﻷن الروائي يعمد ٳلى تبديد اﻷحداث وٳلى كسر الروابط المنطقية بينها٬ اﻹنتقال من زمن القصة ٳلى زمن السرد ؛ فعلى سبيل المثال حوار البطلة مع سلوى ؛ سرد اﻷحداث بضمير المتكلم : "تغمزني سلوى بلؤم..(الحوار)" ثم ٳلى تقنية اﻹسترجاع وسرد السيرة بضمير الغائب :"عشت بين اۤل منصور لمدة سنتيتن قبل ﺃن ﺃعود ٳلى نيويورك .."و في نيويورك تطلق العنان للإسترجاع بسرد ضمير الغائب كما في قولها :"كان الملل قد ٲعياني ..حين بحثت عن جذور ﺃبي في قريته الجبلية المسيحية لم ﺃجد ما توقعته.."[110].
والملاحظ حول تسلسل الحدث في الرواية الجزائرية الجديدة ﺃنه لا يخضع ٳلى ترتيب زمني فإن فهم ترتيبها وانتظامها يعتمد على فهم التسلسل المعنوي ﺃو التسلسل الدلالي ؛ فالساردة توظف المفارقة الزمنية (anachronie) الناتجة عن التنافر بين زمن القصة وزمن الخطاب ؛ وجماليات اﻹسترجاع و اﻹستباق والتسريع واﻹستبطاء عندما تنتقل من سرد السيرة الذاتية المتواشجة مع عائلة زوجها (اۤل منصور) ٳلى تقمص شخصية البطل والدخول في تجاذب ﺃطراف الحديث مع ٳياد وهكذا مع الشخصيات الذكورية اﻷخرى ، التي تحاول بتقنية اﻹسترجاع الزمني ﺃن تفرش لغياب الحقوق المدنية و السياسية في الشرق ٬ وتوظف تقنية اﻹستطراد disgration كاﻹستطراد في حوادث اﻹغتصاب المتكرر: مع المتوكل ثم نوا ثم محمد وشوقي و هي لا تزال تحت حرمة زوج مسلم نسفاً لنسق ثقافي محلي (بلد المؤلفة) سبق وﺃن حطﱠ وٳستعدى المرﺃة المتمدنة المبدعة.
لعلﱠ الأمور مرتبطة ببعضها تبريراﹰ لولوج المسكوت عنه [111] و هو خيانة زوجها وتواطؤ قريبات
زوجها المتظاهرات بالتقوى ، ومحاكاة الاۤخر سردياً : بحكي ليلة دخلتها وﺃدق تفاصيل الجنس مع زوجها والدخول في حالة ارتياب اتجاه التقاليد ؛ كونها تقابل تصرفاتها المتمردة بالتخلف الثفافي و التدين الكاذب واﻹرهاب.. ضمن متخيل سردي جزائري تجريبي ينهل من مستجدات البنى السوسيو- ثقافية لحاضرها المعش ، لعب فيه اﻵخر دورا في صقل الذات الجزائرية :" فالحاج وهب المواظب على الصلاة و الصيام .. يعشق النساء .. و زوجته التي تتخبط كالمعلقة بين علاقاته فبمجرد ﺃن يعود.. تسرع ٳلى ثيابه لترى اۤثار الحمرة وبقايا الماكياج.."[112] ﺃما ماورد من اﻹستباق فكان ﺃقل من تقنية اﻹستطراد كقولها : "ستتخلص مصر وليبيا بالدرجة اﻷولى من اﻹسلاميين المتطرفين ٬ ستحمي دول المغرب العربي (..) ٳسلامها المعتدل بالتخلص بعدد من المتطرفين .."[113] والغاية هي توصيل إختراق اﻷنثى للجنس بكل تفاصيله وقذاعته ٬ تكريسا لهوية ثقافية نسوية تمتح من العولمة وتنقد الهوية الثقافية اﻹسلامية.
4 ـــــ بنية المكان :
ـــ الإنجذاب إلى الفضاء المركزي : المكان يقوم بدور العاكس ﻷحاسيس الشخصية الروائية بل ﺃكثر من ذلك يمكنه القيام بدور الشخصية ذاتها ، و ذلك باعتباره تصويرًا لغوياً حسياﹰ ومعنوياً للمجال الشعوري و الذهني للشخصية ، كما يمكن ﺃن "يمثل المكان رمزاً من رموز اﻹنتماء بالنسبة للشخصية٬ لاسيما ٳذا كان هذا المكان ﺃليفاً في علاقته بالشخصية٬ بحيث لا يعمق لديها ٳحساساً بالغربة "[114] ؛ بل على العكس ينمي فيها اﻹحساس باﻹمتلاك و ذلك حين تمتلك الشخصية بالفعل مكاناً وجدانياً : " تخبرني سلوى ﺃن جيلنار تتحجب في الكويت و تخلع الحجاب في بيروت" [115] وعليه يمكن القول بأن هناك ﺃماكن مرفوضة وﺃماكن مرغوب فيها٬ " فكما ﺃن البيئة تلفظ اﻹنسان ﺃو تحتويه٬ فإن اﻹنسان طبقا لحاجاته ينتعش في بعض اﻷماكن و يذبل في بعضها الاۤخر"[116].
ترمز عودة البطلة ٳلى بيئتها اﻷولى لبنان ٳلى تعايش اﻷديان ؛ و التأكيد على جبال لبنان و الضيعة هو تعلق بمسيحية البطلة التي هي بصدد نقد الشرق ليس من منطلق روحانيته التاريخية مقابل مادية الغرب ٬ بل لتطرفه الديني معاداةً للاۤخرـــ للمسيحية ــــ و إحتقاراً لدور المرﺃة فيه :"حتى حين بحثت عن جذور ﺃبي في قريته الجبلية المسيحية لم ﺃجد ما توقعته٬ فبيت جدي قصفته مدافع لبنانية ﺃيام الحرب(...) ﺃما ﺃبناء عمومتي فقد جرتهم الغربة ٳلى حيث اﻷمان ولقمة العيش٬ بعضهم يعيش في لندن وبعضهم في كندا وبعضهم في باريس.."[117] فبحكم ثقافة البطلة العلمانية تمل بيروت ؛ ﻷنه لم تعد ﺃحيائها المسيحية تفعم بالحرية التى تبحث عنها : في الضيعة ﺃلفة وٳحساس بالحرية ﻷنها مركز قيم ٳنسانية عالمية :" في الضيعة عكس بيروت٬ تخرج الخادمات اﻷسياويات لشراء بعض مستلزمات المطبخ من الدكاكين المنتشرة هنا وهناك٬ ﺃو لتعبئة غالونات الماء من النبع الطبيعي المتواجد في الساحة٬ وهناك يلتقين كما يلتقين في ساحة الكنيسة عند ﺃوقات القداس. في بيروت ﺃخطار خروج الخادمة من البيت لا تعد ولا تحصى٬ لهذا يحرص البعض على التعامل مع الخادمة وكأنها سجينة"[118]. تنجذب البطلة ٳلى المراكز الحضارية اﻷكثر عشقا للحرية كلندن : " إقترحت على ٳياد ﺃن نسافر ٳلى لندن لنهرب من الجميع٬ ونعيد بناء علاقتنا من جديد٬ لكن ٳياد اختار ماليزيا ...فماليزيا جنة من جنان الله على ﺃرضه بالنسبة لقادم من"مملكة الغبار"[119].
يبلغ التقاطب المكاني ﺃوجه ﺃثناء الصراع الثقافي بين الشرق والغرب الذي يكرسه سلوك الشخصيات المتعولمة الثقافة٬ من جهة بين البطلة مارغرين وسلوى ونوا ومحمد وﺃوليفيا٬ التي تعتبر لندن و نيويورك وباريس مراكز جذب ثقافي كوني ٬ و الشخصيات اﻷصيلة الوفية للثقافة الشرقية المحافظة على هويتها ضد الغزو الثقافي الغربي لقيمها على مدار النص. وبين البطلة وشهد وﺃم وهب وشمائل وٳياد (زوجها السابق الذي تخونه بدون ٲن تلتمس الطلاق) الذين يرون في بيروت و القاهرة لا باريس و لندن مراكز جذب حضاري لهم في اﻷطوار اﻷولى للرواية :"بنية الرواية مكون في فضائها الواسع المجسد بطريقة فنية ٬ في جملة من الثنائيات الجمالية المتضادة ﺃو التقاطبات المكانية" [120]٬ بيد ٲن كشف مارغريت/ الساردة عمالتها ﻷمريكا ومظهرية قيم الشرق الروحية (المراء والرياء والميوعة..) ثم عودتها لنيويورك من رحلتها ﻷقاليم الخوف يجعل القارئ ينجذب و يميل ٳلى الفضاء اﻷكثر تمدناً واستقرارا سياسيا ؛ و لا ريب في ذلك من كون ﺃن " نظرية التلقي (ذات المنشأ الغربي) تلقي على الماركسية (المذهب السائد في الشرق الاوسط) تبعة اﻷزمة التي حدثت في اﻷدب"[121]
5 ـــــ بنية الوصف :
ـــــــ جمالية وصف الجسد اۤلية فنية ﻹنتهاك قيم الا᷃خر الدينية والسياسية:
لم يعد الجسد/الجنس مع التحولات الراهنة محضوراﹰ ﺃخلاقياً مع اكتساح جميع ﺃدواته ﻷشد المناطق عزلة بفعل العولمة كالفضائيات و اﻷنترنت والسياحة الجنسية..٬ غير ﺃن لهواجس الشرقي منه رﺃي اۤخر فيحسب له ﺃلف حساب كما يقول جورج طرابيشي :" في مجتمع ﺃبوي شرقي متخلف ومتأخر مشحون حتى النخاع بإديولوجية طهرانية متزمتة ٬ وحنبلية يغدو مفهوم الرجولة واﻷنوثة موجهاً لا للعلاقة بين الرجل والمرﺃة ٬ بل ﺃيضاً للعلاقات بين اﻹنسان والعالم "[122] . و لا يمكن ﺃن يسيطر الكاتب بالتصوير الدقيق لمظهرية التدين في الشرق على القارئ بهذه الكيفية لو لم يكن قد إختبر سياقه (بيئته) ٳختباراً : " في بغداد يعتمد نوا في تنقلاته على سائق ﺃمين يدعى " لؤي"٬ ﺃحضر له حذاء من نوع تيمبرلاند وﺃهداه له بعد ﺃسبوعين عاد لؤي إلى ٳرتداء حذائه المهترئ ٬ وعندما ساٴله نوا ﺃجابه ﺃن ﺃحدهم سرقه من المسجد حينما كان يصلي صلاة
الجمعة"[123].
لكن بالنسبة لتوقعات انتظار القارئ هذا التصوير لا يمكن ﺃن يضاهيه ٳلا ﱠحكي و وصف اﻷنثى التي تنتمي لسياق محافظ مثل فضيلة الفاروق للجنس و بضمير المتكلم ٬ فهو يتذوقه ويقبل عليه ٬ والدليل نفاذ الطبعات الروائية الجنسية في اﻷسواق العربية للكاتبات السعوديات والكويتيات ٬ وثراء مواقع اﻷنترنت النقدية بالتعليقات على الرواية النسوية التي تكتب الجسد ﺃكثر من غيرها ٬ و ﻷمر يجد التفاعل من لدن الروائية فضيلة الفاروق ﻷنها تعرف ﺃنها ملكت جمهور من القراء وتعرفت على رغباته ومثلها في ذلك اﻵخر. فبعد نجاح نص"اكتشاف الشهوة" زادتهم جرعة إضافية من جمالية الجسد الغير مجاني٬ كونه مرتبط بنيويا بجملة من الرموز تفكك المقدس الديني٬ الذي يحول دون ممارسة المرﺃة لحريتها٬ ويخلق علاقة ﺃبوية بينها وبين الرجل٬ ناهيك عن نقد الطبقية و المذهبية في الوطن و الأمة الواحدة لعلها "الجمالية التزيينية واﻷخرى التفسيرية الرمزية الدالة على معنى معين"[124]٬ فالفاروق تصور الثقافة الغربية المتحررة من عقد الشرق الدينية و السياسية رجلاً ، هو الصحفي نوا المتعولم مثلها فتنتقم من عقدة الشرق اتجاه المرﺃة بممارسة طقوس الجنس معه ٬ لكنه يختطف من منظمة ٳرهابية في بغداد ٬ و يكتشف محمد الذي يعمل لصالح مخابرات بغداد ﺃن ماغي تعمل لمنظمة تسمى "منظمة ٳنعاش مشاريع نساء العالم الثالث" تجند نساء من العالم الثالث لمحاربة اﻹسلام فيقوم باغتصابها تقاوم في البداية لكنها تجدها فرصة ﻹشباع حاجة جسدها :" جسدي ملكا له و ذكورته تقصف في ﺃنفاق فرجي وتدمر اﻷسوار التي لم يعرف ﺃن يقتحمها غيره.."[125]. وتحكي العملية الجنسية بكل ﺃوصافها الملتهبة والمجنونة ٬ التي تجمع الشرقي المسلم المحافظ محمد بماغي المسيحية المهوسة بنقد وتفكيك رموز اﻹسلام ٬ ولعل المضمر الثقافي هو إماطة اللثام عن الخصائص والقيم اﻹنسانية المشتركة ٬ كنزعة الحب "الإنسانية" مثلا قد تكون اﻷقدر على التقريب بين الغرب بالشرق.
6 ــــــ ﺃسلوب العبث والسخرية:
لمسنا توظيف المحاكاة الساخرة على المستوى الشعبي٬ ﺃو المستوى الفردي النخبوي في الرواية الجديدة على أكثر من صعيد ؛ يمكن ﺃن تكون سخرية سطحية هي هدف في ذاتها ﺃو عميقة مفادها اﻹزدراء من الاۤخر و قيم الاۤخر الثقافية ، كاﻹستهجان من العنف الديني الذي ينسب للإسلام في نصوص بوجدرة اﻷخيرة ٬ وسلوك المثلية الجنسية عند المسلمين والمسيحيين مع ﺃمين الزاوي ٬ و مع فضيلة الفاروق كما يتجلى في هذا الشاهد ، حيث يضيف"نوا" المعتز بالغرب وثقافته ساخراً :"هذه المرة سنذهب حيث المسيحيون يذبحون المسلمين ثم مرة ﺃخرى يقول : هذه المرة سنذهب حيث المسلمون يذبحون المسيحيين!ثم كثيراً مايردد ساخراً من سذاجة اﻹنسان : لا يوجد مكان يذبح فيه الملحدون مثلاً ﺃو يذبح فيه المجرمون ﺃو يذبح فيه الشواذ(ثم يستطرد) : ﺃوه..الشواذ لطفاء جدًا ٳنهم لايؤذون نملة يضحك ثم يواصل:لكن هذه المرة ساٴذهب حيث اليهود يذبحون المسليمين والمسيحيين معاً! في تلك المرة ذهب ٳلى غزة"[126]. ٳنه الموقف الحضاري لكل طرف من الاۤخر والمتصور مسبقاً ـــــــ صورته/قالبه الجاهز اﻷكثر إستهجانا وسخرية في النصوص الروائية الجديدة هي إيديولوجيا الجسد و هواجسه ، وهو موظف في نص " أفاليم الخوف" حسب فهم فؤاد الخوري التالي:" المني ٳن سال بالطبيعة كاﻹحتلام هو نجس ، وٳن سال بفعل اﻹرادة كاﻹنجاب فهو مبارك ، لذلك يصلي المؤمنون كثيرا قبل ﺃن يأتو نسائهم"[127] ـــــــ لذلك لا تتوانى مارغرين/ الراوية بتصوير الاۤخر بصورة عبثية غير متصورة في ﺃذهان حتى عند اليهود الذين يكنون حقداً للمسلمين :" وذات انفجار عنيف كان ينتقل هو و"نوا" بين الجثث و الجرحى ٬ لمح حذائه بين اﻷشلاء ٬ ٳنتزع الحذاء من الجثة وابتسم : ـــــــ ﺃرﺃيت ٳن الله لا يضيع ﺃجر المحسنين "[128]. في هذه الشواهد نظرة جاهزة لماغي العربية المتمثلة للآخر٬ هو ﺃن كل المسلمين مختصين بالعنف ؛ وﺃن الشرق ﺃصبح يرمز للعنف وتناسل الشواذ و تكاثرهم .
وتستمر سمة العبث بين طرفي الشخوص المحافظة و المنحلة كشوقي ومارغرين/الساردة مجالها الشذوذ والتقزز الديني من اﻵخر كقول ماغي: "وﺃذكرﺃن الشيح حماد الذي لا يصافح النساء٬ يصافح شوقي ويثني على تربيته ﺃمام والده. شوقي بعيدًا عن اﻷعين يهمس لي "لوعلم الشيخ حماد ﺃني لوطي لقطع يده التي صافحتني"[129]. لكن ﺃلم يطرق في بال ماغي ﺃن الشيوخ لهم خبرة من ممارستهم للرقية سرعان ما يتعرفون ٳلى المريض النفسي من سمات الوجه! في هذا الخطاب معنى جلي هو نقد الاۤفات اﻹجتماعية في المجتمعات المحافظة ٬ ﻷن في تفشيها الدليل على مظهرية اﻹسلام مقارنة بالمسيحية ٬ ومعنى مضمر هو الخطاب السردي النسوي الذي إنبثق روائياً فاسحاﹰ ﻹنتاجية الرواية ــــــ ﻷن القارئ يحفز كقطب ثاني القطب اﻷول الذي هو المؤلف باﻹستهلاك الخاص ــــــ التي تلعب على وتر الجنس و حريات العولمة خاصة مع الموجة النسوية الثالثة في الكتابة النسوية ٬ والذي تجاوبت معه الكاتبة العربية و وظفته بتوابله كجمالية السخرية والتهكم ومواجهة المركزية الذكرية :" تسعى الكتابة النسوية ٳلى توظيف لغة السخرية والتهكم كاۤلية لمقاومة اللغة الذكورية التي لم تشارك في نسقها"[130]. مايبرر النسق النسوي المحتقن ٳزاء عالم الرجال ٬ بخاصة ذوو الثقافة المحافظة و الرجعية التي تمنع تبرجهن ٬ هو نزق التجاوز وتجريب في سرد الهوية النسوية الثقافية: سرد التابو وسرد الخطاب المعرفي المرتبط بالخصائص النفسية و البيولوجية للمرﺃة ٬ فماغي من خلال خبرتها في الصحافة "مهنة المتاعب" جعلها تفكك مظهرية اﻹسلام من داخل العوائل اﻷرستقراطية (مع شوقي ابن دبلوماسي مصري) بدل العوائل الكادحة ، فضحاﹰ لي لاَعدالة المجتمعات العربية حتى في مجال الشذوذ.
7 ــــــــ التجريب :
يقصد النقاد عموما بالتجريب تجاوز البنية السردية التقليدية ٬ لما تمنحه الرواية الجديدة من فسحة لنقد ﺃو تجاوز المحظور الديني و السياسي و اﻷخلاقي بعيدا عن اﻹيهام بالواقع ٬ خطاب ولغة جديدين مغلفين باﻹجتماعي و الفكري-الثقافي ودالين بنيوياﹰ على رؤية الكاتب ٬ فحسبب لوسيان جولدمان :"الوعي الممكن الذي يتجلى في اﻷعمال الفنية والفكرية والأدبية يصور رؤيتها على الصعيد الديني والفلسفي في رؤية شمولية عبر بنية النص السردي"[131]، كما يقصدون به ﺃيضا "توظيف اﻷجناسية بما فيها السيرة الذاتية واﻹحتكام للعامية واللغات اﻷجنبية المختلفة٬ فاﻹرتكاز على العامية الجزائرية بإبدالاتها اللغوية٬ لاسيما مع اللهجات المحلية ٳعلالاً ﺃو نسبةً وٳشتقاقاً ﺃو ظواهر نحوية ﺃو صرفية ﺃو تركيبية ومعجمية"[132].
ولعله تأتي العامية كسمة الفنية اﻷبرز للتجريب في الرواية الجزائرية الجديدة بعد وقع سلطة التقاليد على حرية المتخيل ٳلى درجة ﺃنه لا يعد النص الروائي جديداً إذا لم يدرج العامية ٬ كما "إنفتحت ﺃبنيته السردية على اللاﱠنهائي من اﻹستملاكات الجمالية ٬ و اﻷنماط اﻷسلوبية في مرحلة مغايرة تماماً لما سبقتها٬ ليبدع صلات جديدة من"اﻹنتاجية النصية" بتعبير جوليا كريستيفا مع مختلف النصوص اﻷدبية واﻷنواع اﻷدبية السريعة التحول ؛ هي اﻷخرى ضمن "حوارية مثمرة وبناءة في ٳتجاهاتها التجريبية. عبر الشعر والسيرة الذاتية واللغات اﻷجنبية والتشكيل الفني والموسيقى وفن الرسائل اﻷدبية والمقامات والخطاب اﻹعلامي والعوالم اﻹفترا ضية . و حتى للثقافة البصرية لروايات كتبت بمخيال مشهدي بصري هو اﻷقرب ٳلى متخيل السيناريست" [133]. ولعل السمة الأخرى في الرواية الجديدة غير التهجين وتوظيف اللغة اﻷجنبية ٬ هي كتابة المفردة اﻷجنبية باللغة العربية ﻛ :" نو بيبي non bébé" و"بليز دولارplease dollars"[134] واشارة ذلك حسب باختين هو توليد المعاني الجديدة وإشارة ٳلى رؤية الاۤخر للعالم.
ٲما التهجين اللغوي ـــــــ ٳقحام اللغة العامية ٳلى جانب الفصحى ــــــ فقد ﺃصبح مرادفاﹰ للرواية الجديدة لقدرة التهجين على ٳضفاء صدقية المؤلف ٬ و هوية لسان المجتمع الذي ينتمي ٳليه حسب الناقد عبد الحميد عقار:"النص الروائي نص تطوري يملك بعض القيم التي تخص اللغة الروائية٬ والتي تختلف عن اﻷجناس اﻷخرى٬ نظرا لما يلحق لغة الخطاب من تهجين وتنويع وسخري مايجعل الرواية شكلاً يكتب في عدة مستويات"[135].
إذ تعتبر اللغة الملتهبة شهوة و حمولة شبقية سمة خاصة بالرواية الجزائرية الجديدة والنسوية بالخصوص٬ ٳنه تصور جدلي مقابل لنسق ثقافي لا يعترف بالجسد كمكون ﺃساسي في عصر يضفي عليه
المستهلك طابعه ٬ بتوقعات ٳنتظاراته قارئا افتراضيا ﺃوناقدا (حقيقيا). ٳن لغة الجسد تلك في الرواية الجديدة غالبا ما تكون من وحي كتابة الموجة النسوية الثالثة مهمتها مقابلة المركزية الذكورية بالفحولة اﻷنثوية/الجندر والخروج بشخصية/هوية مستقلة : الكتابة النسوية الواعية بأدوات تعبيرها الفنية : "كما ركزت على جسدها ﺃثناء الكتابة باعتباره رمزاً للحرية والتحرر..ٳعتقادا من العديد من الساردات ﺃنه بتحرير الجسد تتحرر المرﺃة ثائرات ومسيئات لمكتسبات الحركة النسوية السابقة وبذلك توفرت المادة اﻹعترافية في النص السردي ٬ واعتبرت من ﺃهم المميزات التي طبعت هذا النوع من السرد٬ حيث عبرت وﺃخرجت كل ما في جوفها معلنة التمرد على كل الحواجز التي وضعت ﺃمامها ضاربة بتلك الثقافة الذكورية عرض الحائط"[136].
ﺃما التجريب الذي يلجه الروائي الجديد من باب عمله بالصحافة ؛ فهو اﻷكثر تجلياﹰ في الرواية الجزائرية الجديدة ٳذ جل اﻷقلام الشبابية الروائية في الساحة اليوم منها فضيلة الفاروق ولجت الكتابة من باب اﻹعلام ٬ فوسمت ﺃسلوب الرواية الجديدة تبعًا لذلك بأسلوبها ٬ الذي ٳذ لم يشهد له بأنه ﺃسلوب تسجيلي تأريخاني ؛ فإنه يفصح عن نفسه بالبيّنة ﺃنه تقريري و مستسهل للغة حيث" تتسم اللغة التقريرية بالوضوح والمباشرة في سرد اﻷحداث٬ وهي لغة ٳخبارية يتم بواسطتها اﻹخبار عن حدث ﺃو شخصية ٳخبارا خاليا من التصوير.."[137] ذلك بأن اﻷسلوب اﻹعلامي ينزع ٳلى التكثيف و اﻹختزال و التقرير ﺃو المباشرة كقولها :" يلتقين في ساحة الكنيسة في ﺃوقات القداديس"[138] ناهيك عن اﻹنزياح الشعري اﻹستبدالي ـــ اﻹستعارة ـــ والتي تظهر ﺃحيانا من العنوان دون ولوج المتن كما في رواية "بخور السراب " فالسراب نفسه هواء مكثف (بخور) تظهره ﺃشعة الشمس وكأنه بُحيرة ٬ من اﻷدعى ﺃن يطلق بشير مفتي على روايته "بخور الخراب" و اﻷمر سيان مع رواية " ﺃجنحة لمزاج الذئب اﻷبيض" [139] لعز الدين بوكبة؛ فهو بشكل ﺃو آخر يحاكي لخوص عمارة (كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك) و نسق مجازي متداول في الغرب ، الذئبة هنا قد تكون امرأة أو دولة متخلفة ؛ لكن جمالية اﻹستعارة العربية في ربطها المجرد بالمحسوس ضمن نسق ثقافي عربي ، وبوكبة يعيش في الجزائر بينما لخوص يعيش مهاجرا في ايطاليا ، عن ذلك يقول بن جمعة بوشوشة : "اﻹشتغال على اللغة بهدف البحث ﻹغنائها و تطويعها مع حضور لمكونات السير الذاتية (..) عمل على اﻹبتعاد عن للغة الوصفية للحدث ٳلاﱠ في القليل النادر(..) فكانت علامة تتقاطع معها جميع التجارب"[140]. بيد ﺃن الناقد المغربي عبد الحميد عقار يرى في التهجين مسألة تجنيسية واعية أحيانا :" إتسع اهتمام الروايات بتهجين جسمها النصي بمقامات تلفظية متباينة و متعارضة أحيانا ٬ هذا التهجين (..) يفرض مسألة التجنيس و ما يرتبط بها من وعي الكاتب (…) المندرج في صميم الفعل الثقافي"[141].
ـــــ ٳثارة اﻷسئلة الفنية الصادمة للقارئ:
الميل ٳلى الواقع المأساوي و النهاية المفتوحة ٬ لتتعدد الدلالات ورؤى القارئ المحتملة ويزيده ارتباطا تجارياً بالمؤلف ٬ كأني به يقول له إنتظرني فى اﻹنتاج المقبل على غرار المسلسلات اﻹستهلاكية (الحلقة المقبلة( ٬ بذلك كرست الرواية الجديدة لدخول القراء طرف منتج للنص كما بشر به رولان بارث Barth Roland ٬ و دخول اﻷدب سوق المثيرات اﻹستهلاكية وﺃوفر هذه المثيرات الجنس بخاصة الذي تكسره المرﺃة وتتفنن فيه في مجتمع معروف بمحافظته. ولقد ﺃصبحت فضيلة الفاروق بعد صدور نص"اكتشاف الشهوة" المروية هي اﻷخرى بضمير المتكلم (ﺃنا) على غرار ﺃقاليم الخوف ﺃنموذج التمرد النسوي مغاربياً على التقاليد ؛ فهي تلعب على عواطف قرائها بمجرد ﺃن تحكي بطلتها مارغرين الجنس بضمير المتكلم ، دون اﻷخذ في الحسبان ٳمكانية التطابق مع سيرة الكاتبة الحقيقية في خصائص عدة ؛ لا يكاد ٳثرها القارئ يميز بين مارغرين نصر ﺃو سهى البسطانجي وفضيلة الفاروق ٬ فهي تستحضر حرية شخصية ريكا الخادمة في بيت العمة روزين و طوني ابن عم مارغرين في بيت عمومتها (جدها) في الضيعة باﻹعتقاد بالبوذية بدل المسيحية ٬ و الزواج بالروسيات الشيوعيات على التوالي ٬ لتبين ﺃن الحرية مكون متجذﱠر في الحياة السوسيو-ثقافية لعائلة البطلة ٬ من ثمة يكون ذلك مسوغاً لها لرواية الجنس بضمير اﻷنا من جهة ، ونقد الطائفية التي جرﱠت البلاد لحرب مدمرة ٬ وهجرت للبنانيين عن بلادهم من جهة ﺃخرى :"تتعب ﺃوليفيا في جعل العمة روزين تستوعب ﺃن البنت (ريكا) حرة في معتقدها الديني.."[142] "ﺃخوهم طوني تزوج شابة روسية اسمها "ﺃولغا".. فتاة مريحة.. فهي بلا دين وبلا طائفة و بلا سياسة.. للأسف سمعة البلغاريات و اﻷكرانيات سيئة في لبنان.. جُلبن ٳلى بيروت للعمل في الكباريات والدعارة المشروعة"[143].
و الكاتبة فضيلة الفاروق بنفسها تؤكد مجال الحرية المتسع في بيتها والدها بالشاوية (اۤريس) مقارنة بالعوائل العربية الجزائرية المحافظة ، فهي" نفت في مقابلات صحفية منشورة ﺃن عائلتها تبرﺃت منها ﺃو ﺃن تكون كاتبة جنس٬ وﺃنها بصدد التوبة عن الكتابة عن مسقط رﺃسها ٬ لكنها لن تتوب عن الدعوة لحرية الثقافة"[144]. بذلك تقر بتطابق الهوية Identification لحياة بطلاتها مارغريت نصر وسهى البسطانجي خصوصاً فيما تعلق بتمثل حريات اﻵخر٬ في الحياة المادية و العزوف عن المقدسات مع ﺃسلوب حياتها في الواقع ــــــ مقارنة مع مستغانمي و روائيين اۤخرين ؛ لا يخلقون الشخصية الحوارية و المتعددة اﻷصوات ٳلاﱠ ﻹختيار واحدة منها كي تطابق المؤلف ـــــ كيف لا و هي تحمل فكر تحرري ثائر على ما تسميه التقاليد العمياء و القيود الظالمة، لذا خلقت فضيلة الفاروق صدمة بالنسة لروايتها الأخيرة هاته بالنسبة للكثيرين : " عددا مهماً مما صدر في العالم العربي في السنوات اﻷخيرة ٳستفاد من الحياة كأسلوب ٬ و الحياة تصدم ﺃفق التوقع لذا فإن الروايات الجديدة تصدم ﺃفق توقع المتلقي ٬ وفي كثير من اﻷحيان تكون قاسية على قارئ كلاسيكي .."[145]٬ بذلك كيف لا تكون الرواية الجزائرية لم تقفز إلى الرواية الما بعد حداثية المقرونة بالمتعة الظرفية واﻹستهلاكية ؟!
زياد بوزيان ـــ الجزائر