صُورَة فَقيه ومُثقَّف السُّلْطَة في الثَّقَافَة العَرَبيَّة: مَعَالِمٌ ومَآلات
عرار:
مُحمَّد عبد الفتَّاح حليقاوي
إذا أرْجَعْنَا التَّبَصُّرَ في العَلاقَةِ بَيْنَ السُّلْطَتَيْنِ السياسيَّةِ والثَّقافيَّة في مُجْتَمَعِنَا العَربيِّ والإسلاميِّ وَجَدْنَا أنَّها تتركَّزُ بَيْنَ أطْرَافٍ ثَلاثَة: سُلْطَة الدَّوْلَة، والعُلَمَاء وأهْلُ الفِقْهِ والثَّقافَة، والعَامَّة، وهذا الطَّرَفُ الأخير مُسْتَبْعَدٌ ومَطْلُوبٌ معاً، فهو مُسْتَبْعَدٌ عن أيَّةِ مُشَارَكَة، ولكنَّه مَطْلوبٌ لدَعْمِ كُلِّ سُلْطَة، والعَامَّة أو النَّاس أيضاً مُجرَّد كُسُورٍ عَشْريَّةٍ أسْفَلَ أغلب أقلامِ الكُتَّابِ القُدَمَاءِ والمُحْدَثين الذين يستخدمونَ في بعضِ الأحيانِ مُرَادفاتٍ أكثر وأعظم تحقيراً مثل:»الرُّعَاع» و»الغَوْغَاء»، ولكنَّ هؤلاء المَسَاكين لا بُدَّ مِنْهم للبناءِ والإنتاجِ وعِمَارة الأرض، ومِنْ هُنَا، يغدو النَّاس مادَّةً للسياسة، وبُنَاةً للمُجْتَمع، بِشَرْطِ ألَّا يكون لَهْم وَعْيٌ جَمَاعيٌّ بذلك، وإلَّا طالبوا بحقٍّ مُكَافئٍ للحاجةِ إليهم، إذْ لا يكفي أنْ يَنْعَتَهُم أهْلُ السَّياسَةِ والعِلْمِ والثَّقافَة بـ» الرُّعَاعِ « بَلْ لا بُدَّ مِنْ أنْ يَرْسَخَ في أذهانِ هؤلاء أنَّهم كذلك، ما دامَ المُثقَّف قد سلَّم عَقْلَه ودَوْرَه وريادته للسُلْطَة بأشكالها. والمَلْمَح الآخَر في هذا المِضْمَار، أنَّ وُجودَ الفقيهِ والمُثقَّفِ في كيانِ الثَّقافةِ السُّلطانيَّة أضحى واقعاً جديداً في سياقِ التَعَامُلِ مع المُجْتَمَعِ والسُّلطَان، وسَعَى هؤلاء بكُلِّ ما لديهم مِنْ رَصيدٍ عِلْميٍّ وثقافيٍّ إلى تعميقِ أُطْروحة الطَّاعة، بينما ظلَّ الفَشَلُ حليفهم في معركة الحفاظ على استقلاليتهم وأدوارهم الحقيقيَّة، ولَمْ يَنْعَتِقُوا مِنْ أَسْرِ السُّلطَة السياسيَّة، وقد صَوَّرَ الفقيهُ والمثقَّفُ نفسهُ صَاحِبُ رِسَالةٍ ومَكَانةٍ يُؤطِّرُهَا روح المُخَاطَرَة والتضحية نتيجة الصُّعوبَة الكُبْرَى في مُصَاحَبَةِ السُّلطانِ وعَوَالمهِ التي تتضمَّن العُنْفَ والفِتَنَ والاضطرابات، ولقد عَاشَت النُّخبة المُثقَّفة بكُلِّ أطيافها في المُجْتَمَعِ العربيِّ والإسلاميِّ حالةً مِنَ التشظِّي والتيه التي سَاهَمَتْ هيَ ذاتُها في تكوينها والتماهي معها، فقد ظلَّتْ هذهِ النُّخبة في حَيْرةٍ مِنْ أمرها في الاقترابِ والابتعادِ عن عَالَم السُّلطةِ السياسيَّة، فالسُّلطان إذا جَاءَ وَقْتُ المَوْعِظَةِ بكى، وإذا جَاءَ وقت السِّياسَةِ طَغَى، ولا يُمْكِن مَعْرِفَة أحوال السُّلطانِ وتقلُّباتهِ لأنَّه لا مرجعيَّة تَضْبُطُ تفكيره أو سُلُوكه بعد أنْ تمَّ سَرِقة المَرْجعيَّة المُتَمَثِّلة بالشَّريعة، وتغييب دور الجَامِع وراءَ وظيفة المَسْجِد، واستبدال النُّخْبَة المثقَّفة الحقيقيَّة بمجموعةٍ مِنَ الدُّمَى والأتْبَاع منذ بدايات العَصْرِ الأُمويِّ مع الإقرار بأنَّ بعض هذه الدُّمَى كانَت لديهِ المُؤهِّلات الكامِلَة مِنَ النَّاحية المعرفيَّة، والتاريخيَّة، ولكنَّه ارتبط بالسُّلطَة فألقى بنفسه في تيهِ المصالح والأهواء بعيداً عن الحقيقة والحُريَّة. ولمَّا كانَ الفقيهُ والمُثقَّفُ وأبناء النُّخْبَة هم أبرز أفراد بِطَانة السُّلطَان، فلا جَرَمَ أنْ يكونَ دَوْرُهُ في تسويغِ الاستبدادِ كبيراً، ومُسَاهمتهُ في سَرِقةِ الشَّريعةِ ووأد الحُريَّة والمنهجيَّة مِنْ أجلِ مَصْلَحَة السُّلطَانِ ظاهرة، ذلكم أنَّه وُجِدَ في القَصْرِ كيْ يكونَ صَائغاً فنيَّاً لرغباتِ السُّلطَةِ، وأوامرها، وصولاً إلى تكييفِ إرادةِ السُّلطَانِ ورغباتهِ، وهيَ وظيفةٌ لا تبتعد كثيراً عن وَصْفِ الجَّاحِظ لِمَنْ يَقومُ بها بأنَّه: «لا يتقلَّدُها إلَّا تَابِعٌ، ولا يتولَّاها إلاَّ مَنْ هُوَ في معنى الخَديم»، وهيَ وظيفةٌ: «مُسْتَظِلَّةٌ بِسُلْطَةِ الحَاكِم»، حتَّى أنَّ ابن المُقفَّع وهو أحد رموز السُّلْطَة وضحاياها أيضاً يعترفُ بحَجْمِ تلكم الوظيفة فيقول: «فاعْلَم أنَّك إنَّما تعملُ عَمَلَ السُّخْرَة»، والقِرَاءَةُ العَميقةُ لأفكارِ ابن المُقفَّع تُشيرُ إلى أهدافٍ غيْرَ تلك الظَّاهِرَة في ثنايا كَلامهِ كما يبدو للوَهْلةِ الأُولى، فهو يُقلِّصُ المجال الدينيَّ، واختصاصات سُلْطة الدِّين، لا لِصَالحِ ما هو مَدَنيٌّ، بلْ لإحْكَامِ قَبْضَة الخليفةِ المُطْلَقَة، وعلى الرَّغمِ مِنَ الآراءِ ذاتِ الصِّبْغَة العَقْلانيَّة، إلاَّ أنَّه يَنْقُضُ في نتائجهِ ما يقولهُ في مُقدِّمَاتهِ، ذلكم أنَّ ابن المُقفَّع قد جَعَلَ: «الرأي إلى وُلَاةِ الأمْرِ، ليْسَ للنَّاسِ في ذلك الأمْرِ شيء، إلَّا الإشارة عند المَشُورة، والإجَابَة عند الدَّعْوَة»، وهكذا فإنَّه ليْسَ للنَّاسِ حقُّ التعبيرِ عن آرائهم في شؤونهمِ السياسيَّة، أو الاقتصاديَّة، أو الاجتماعيَّة، بَلْ عليهم الطَّاعَة وَحَسْب، وحتَّى الشُّورَى التي وَرَدَتْ في القرآنِ الكريم يجعلها ابن المُقفَّع غيْرَ مُلْزِمَة ولا مُقنَّنَة، بَلْ هيَ حَالَةٌ اختياريَّةٌ يقومُ بها الخَليفةُ متى شَاء، وتَقَعُ ضِمْنَ أملاكهِ الخاصَّة، في مشروعٍ واضحِ المَعَالمِ غايتهُ إعادة الإنسانِ العربيِّ إلى مَرْحَلةِ عبادةِ السُّلْطَة فقط، وتحويل النَّاس إلى وقود لأيِّ مَعْرَكَةٍ قَادِمَة. وهذا أوَانُ الإشَارَةِ الصَّريحَةِ إلى مُلاحَظَةٍ بالغةِ الدَّلَالة في عَلاقَة الفقيهِ والمُثقَّفِ ممَّن أصبحوا أداةً بِيَدِ السُّلطَةِ السياسيَّةِ معَ النَّاسِ في مجتمعاتهم، وتلكم هيَ سَعْيُ هؤلاء إلى نَقْلِ ذِهْنيَّة الاستبدادِ والعُبوديَّةِ والطَّاعَةِ الكَّامِلَةِ إلى بقيَّة أفرادِ المُجْتَمَع كَيْمَا يُصبحوا مثلهم أو أسوأ، فالتَّمَاهي بَيْنَ النُّخْبَة المُثقَّفةِ والسُّلطَةِ السياسيَّةِ بَلَغَ مَرْحَلةً مُتقدِّمَةً يَصْعُبُ معها التَّمَايُزُ بَيْنهُمَا، وبَيَانُ هذا أنَّ زَمَنَ المُثقَّفِ والفقيهِ المُسْتَبدِّ يَتَوَاتَرُ في لُعْبةٍ مُزْدَوَجَةٍ يُمثِّلُ فيها دَوْرَ السيِّدِ ودَوْرَ العَبْدِ معاً، وعُنْصُرَا اللُّعْبَة المُزْدَوَجَة تجعلُ الفقيه والمثقَّف جزءاً مِنَ السُّلطةِ وجزءاً في السُّلطة، فهو جُزْءٌ مِنَ السُّلطة لأنَّه يُكرِّسُ القَمْعَ ويُؤكِّده، وهو جُزْءٌ في السُّلْطَة لأنَّه يُمَارِسُ امتياز المَرْتَبة، ولذا بَرَزَ في التَّاريخِ العربيِّ والإسلاميِّ فريقٌ مِنْ مثقَّفي وفُقَهَاء السُّلْطَة، وفريقٌ آخَر مِنْ مُثقَّفي وفُقَهَاء النَّاس، وكُلَّما اقترب فريقٌ مِنْ هُمومِ النَّاسِ وحُقوقهم كانَ القَمْعُ، والتكفيرُ، والفَقْرُ، والاسْتِبْعَادُ، بعض وسائلِ السُّلْطَة في التَعَامُلِ معه، بينما يكونُ الجَّاه والنُّفوذ والمَال مِنْ نصيب الفريقِ الذي يَدْعَم توجُّهَات السُّلْطَة ومشاريعها ويُسوِّغ قراراتها، ولذا لَمْ تتوقَّف هذه الحَرْب المُسْتَعِرَة منذ قُرُونٍ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ ممَّا أفْشَلَ الغالبيَّة العُظْمَى مِنْ مُحَاولات التنميَّة، والإصْلَاح، والخُروج إلى مَيْدَانِ الحضارة. كما يَنْتَسِبُ إلى هذا السِّياقِ ضَرُورَة أنْ يَجْمَعَ فقيه ومُثقَّف السُّلْطَة بَيْنَ عدَّة مُؤهِّلات ومواصفات مِنْ أبرزها أنْ يكون: «شَاميّ الطَّاعَة، عِرَاقيّ الخَطِّ، حِجَازيّ الفِقْه، فَارسيَّ الكِتَابة»، وَوفْقَ هذهِ الاستراتيجيَّة كانَ للفقيهِ والمُثقَّف أبْلَغ الأثَرِ في التنظيرِ والفِعْلِ ضِمْنَ حُدُودِ مَهَامهم مِنْ أجلِ مُسَاندة السُّلْطَة السَّائِدَة، وقَمْعِ النَّاس في حَالةِ التفكير بانتقادِ السُّلْطَة، فضلاً عن الثورةِ عليها، لأنَّها سُلْطَة مُقدَّسَة لا يُمْكِن تجاوزها، بَلْ وقاموا بتكوينِ تَحَالفات في جَميعِ الاتِّجَاهاتِ بهدف الحِفَاظِ على النِّظَام، وذلك مِنْ خلال التأكيد على أخلاقِ الطَّاعَة، والصَّبْر، وعَدَم إزْهَاق الأرواح، ولقد جَاءَ هذا التَعَالُقُ والتَّرابُطُ والتَّمَاهي والذَّوَبَان بَيْنَ مُثقَّفي وفُقَهَاءِ السُّلْطَة مع السُّلْطَة مِنَ المَصَالحِ المُتَقَاطِعة، ومِنْ أُصُولِ أولئكَ الفُقَهَاء والمُثقَّفين، الذينَ كانَ أغلبهم تاريخيَّاً مِنْ أبناءِ الثَّقافةِ الفارسيَّة، مع ضَرورةِ الإشَارَة، هُنَا، إلى أنَّ النُّخْبَة المُثقَّفة العربيَّة والإسلاميَّة ما تزال تُرَاوحُ مكانها مُنْذُ العَهْدِ الأُمويِّ حتى الآنَ بذريعةِ ما اقترفهُ البعض منذ ألفِ عام، دونَ أنْ يكون هنالك استراتيجيَّة واضحة المعالمِ للخروجِ مِنْ ذلكم النَّفق المُظْلِم، فالشَّكوى قَرينةُ الضَّعْف، وسواء كانَتْ المسؤوليَّة على غيْرِ العَرَبِ أمْ عليْهم، فالمأمولُ البَدْء مِنْ نُقْطَةٍ ما نحو البِنَاء والتغيير والحُريَّة والمُسَاوَاة. ويَضيقُ مَجَالُ القَوْلِ هُنا عن استيعابِ أمثلة تُؤيِّد هذه الرؤى، لأنَّ المجتمع قد يدفع النَّخبة المُثَقَّفَة نحو مُمَارَسَة رَقَابَة سلبيَّة على أفكارها تكون بمثابةِ «شرطة أفكار»، ولذا تبدأ المواجهةُ بيْنَ الفقيهِ والمُثقَّفِ والمجتمعِ وفقَ عدَّة مجالاتٍ هيَ: أولاً: أنْ يَنْسَلِخَ الفقيه والمُثقَّف عن مُجْتَمَعهِ، ويَستقيلُ مِنْ دَوْرهِ، وريادتهِ، ولا يرى في التَّواصُلِ، والنَّقْدِ، والبناءِ المُجْتَمَعيِّ سوى المزيدِ مِنَ الشُّرورِ، ويَرْتَهِنُ فِكْرُ هذا الفقيه والمُثقَّف لحالة التوتُّر الدائم، والتنصُّل مِنْ كُلِّ مسؤوليَّة تجاه المُجْتمع بذريعةِ عدم جدوى أيّ تغيير، والمُؤْلِمُ في هذا الأمْرِ أنَّ المُجْتَمَعَ ذاته يُقَابِلُ هذهِ النُّخْبَة بِرَفْضٍ ونُكُوصٍ إضافيٍّ يُكرِّسُ ابتعادها بصورةٍ كبيرةٍ جدَّاً. ثانياً: أنْ يَحْيَا الفَقيه والمُثقَّف في حَالةٍ مِنَ العُزْلَةِ عن المُجْتَمَعِ، وقضاياه الأساسيَّة، وقد تكون هذه العُزْلَة مُقَدِّمة للوصولِ إلى حالةِ الانْسِلَاخ سَابقة الذِّكْر، وقد تكون هذه العُزْلَةُ شُعوريَّة، أو حقيقيَّة، وفي الحَالتيْن يَفْقِدُ المُجْتَمعُ العَربيُّ جُهود هذهِ النُّخْبَة في التغيير، والتطوير، وقد يَرْفُضُ هذا المُجْتَمع بعض أبناء النُّخْبَة بصورةٍ قاسيةٍ تدفعهم إلى الهِجْرَة، أو التنازل عن كُلِّ رَصيدهِم، ودَوْرِهم، وطُمُوحهِم، ومَشَاريعهم النقديَّة. ثالثاً: إصْرَارُ الفقيه والمُثقَّف على التَّلاحُمِ مع المُجْتَمَعِ، وقضاياه المصيريَّة، ومُشْكِلَاته اليوميَّة، وأمْرَاضه الاجتماعيَّة، وهو بالتالي مُنْسَجِمٌ مع أفكارهِ، وصَادِقٌ مع نفسهِ، وإذا وَاجَهَ الرَّفض مِنَ المُجْتَمعِ، أو التهميش مِنَ السُّلْطَة السياسيَّة ظلَّ على حالهِ يُدَافِعُ عن مَشروعهِ الفكريِّ، ويُقدِّمُ نموذج المُثقَّفِ الإيجابيِّ، والمُثَابِر مِنْ أجلِ تحقيق الأهداف الكُبْرَى في كُلِّ المجالات لأبناءِ مُجْتمعهِ، ويَعْلَمُ أنَّ النهاية ستكون إلى جانبِ الحَقِّ والحقيقة والحُريَّة والعقلانيَّة. ويَسْتَصْفي مالك بن نبي دور النُّخْبَة المُثقَّفَة ويَنْطَلِقُ مِنْ أزْمَةِ نُموّ تُشْبه الحَالَة المَرَضيَّة، ويُرْجِعُهَا إلى ثلاثةِ عناصر، إمَّا أنْ تنشأ مِنْ خَلَلٍ في عَالَم الأشخاص، أو خَلَل في عَالَم الأفكارِ، أو خَلَل في عَالَم الأشياءِ، وصولاً إلى تَنَاقُضٍ في عَلاقةِ هذه العَوَالِم فيما بينها، وتاريخُ الحُريَّة، والعَدَالَة، والمَنْهَجيَّة، في المُجْتَمَعِ العربيِّ والإسلاميِّ، هو تاريخُ سِيَادة الأفْكَارِ مُقَابِل تبعيَّة الأشياءِ والأشْخَاص بصورةٍ قاطِعَةٍ في إطار الشَّريعة والثقافة العربيَّة، وعلى النَّقيضِ مِنْ هذا ذَهَبَ البعض
إلى أنَّه على النُّخْبَةِ المُثقَّفة إعادة ترتيبِ العَلاقة، وإعادة الدور النخبويِّ الذي مَارَسَهُ المُثقَّفون بوصفهمِ وُكَلاء على القِيَم والحقوق، ولقد ولَّى زَمَنُ المُثقَّف بوصفهِ مِفْتَاح الحَدَاثة، أو مِشْعَل الثَّورة والتغيير، أو عَاشِق الحُريَّة، أو رَمْز القضيَّة المُقدَّسة، إذْ هو أصبح يَحتاجُ إلى التنوير، والمُثقَّف بالتالي هو مَنْ يرتبط بقضيَّة الحقوقِ والحريَّات، أو تَسْكُنُ عقله ومنهجيَّة تفكيرهِ فكرة الحقيقة، وقد يكون طوباويَّاً أو عُضْويَّاً، ثوريَّاً أو إصلاحيَّاً، قوميَّاً أو أُمَمِيَّاً، اختصاصيَّاً أو شُمُوليَّاً، مُتَفَرِّغاً لمهمَّته أو غيْرَ مُتَفَرِّغ، وقد يكون شَاعِرَاً، أو كاتباً، أو عَالِمَاً، أو فَقيهاً، أو مُهَنْدِسَاً، ولكنْ أيَّاً كانَ نموذج المُثقَّف وحَقْله المَعْرِفيّ فهوَ مَنْ يهتمُّ بصياغة الرأي العَام، وهذهِ صِفَةُ المُثقَّف ومهمَّته، بل هيَ مشروعيَّته ومسؤوليَّته. وتُشْبِهُ هذهِ الرُّؤَى أنْ تكون صِنْوَاً عند طه عبد الرَّحمن للحِدَاثَةِ المُؤيَّدَة التي تَنْظُرُ في دَلالةِ الدَّاخِلِ على الخَارِج، وتَقْتَدي بسلوكِ القُدْوَة، والتحقُّقِ بالصِّدْق، فضلاً عن التَكَامُلِ بيْنَ حاجيَّات الجَسَدِ ومستلزماتِ الرُّوح، وهوَ ما لَمْ تأخذ به يوماً الحَدَاثَة الغربيَّة المُجَرَّدَة، لكأنَّ ما قامَ بهِ طه عبد الرَّحمن هوَ ذاتُ ما فَعَلَهُ دُعَاة الحَدَاثة لكنْ بوسائل ومنهاجٍ يُخَالِفُ دُعَاة التقليد وأدعياء التجديد، حيث يقول:» إنَّنا لَمْ نقم في هذا بتقليدِ غَيْرِنَا كما هُمْ يَفْعَلون وبهِ يَنْصَحون، وإنَّما صَادَفْنَا حَدَاثتهُ بِمُوجِبِ شُعُورنا بحاجةِ المُسْلمِ المُعَاصِر إلى فِكْرٍ دينيٍّ مُتميِّزٍ يُنَاسِبُ عَصْرَه، فنكونُ قد أتيْنَا بِحَدَاثةٍ مِنْ إبداعنا، لا مِنْ إبداعِ مَنْ هو أجنبيٌّ عنَّا، تاريخاً وتداولاً «، لأنَّ أيَّ قَطِيعةٍ مَعْرِفيَّة مع التُّرَاثِ العربيّ والإسلاميِّ، وخصوصيَّتهِ الحضاريَّة، سوف تقودنا على الدوام إلى المَزيدِ مِنَ الفَشَلِ المَكْرُور، والاسْتِبْدَادِ المُقيم. وصَارَ لِزَامَاً، في ضَوْءِ هذا المُسْتَجَدّ، أنْ تقومَ النُّخْبَةُ المُثقَّفةُ في مُجْتَمَعِنَا باجْتِرَاحِ رُؤْيتها الخاصَّة في مُواجهةِ التحديَّات، وأنْ يُحلِّقَ الفَقيهُ والمُثقَّفُ العربيُّ خَارِجَ السِّرْبِ المَعْرِفيِّ والفِكْريِّ الذي امتَازَ قُرُونَاً برؤيتهِ الأُحاديَّة التضليليَّة، ويمكن لهُ أنْ يُسَاهِمَ في هذا السياق مِنْ خلال تكريس فِكْرةِ العَقْلِ والعِلْمِ والمنهجيَّة، والإعلان عن ضَرورةِ نَشْرِ الأبعاد النضاليَّة لدى الثَّقافة والمُثقَّفين، ذلكم أنَّ هذه:» الثقافة تُمثِّل أداةً للمُقَاوَمَةِ في مُواجَهَةِ مُحَاوَلاتِ الطَّمْسِ، والإزالةِ، والإقْصَاء، إنَّ المُقَاوَمَة شَكْلٌ مِنْ أشكالِ الذَّاكرةِ في مُقَابِلِ النِّسْيَان «، وغَنيٌّ عن الإفاضَةِ ضرورة استئنافِ مَعْرَكة الفقيهِ والمُثقَّف العربيِّ في للنِّضَالِ ضِدَّ التخلُّف الشَّامِل على المستويين التَّاريخيِّ مِنْ زاوية، والمُقَاوَمَة المُعَقْلَنةِ مِنْ زاويةٍ ثانية، وبدون هذهِ المَعْرَكةِ النَّبيلةِ لَنْ يكونَ مُمْكِناً التقدُّم نحو أيَّة صيغةٍ حضاريَّةٍ ترتقي بالإنسان العربيِّ، قديماً وحديثاً، وترتفعُ معهُ وبهِ نحو آفاقِ الحُريَّة والتجديدِ والوَسَطيَّة والاستقلال والمنهجيَّة النقديَّة. ويتراءَى لنا، أيضاً، أنَّ صُورَة الفقيهِ والمُثقَّفِ أمَامَ مُجْتَمَعِنَا ما تزال مَرْهُونَةً بأولويَّات السُّلْطَان ورَغَبَاتِهِ ومَطَامِحِهِ منذ العَصْرِ الأُمويِّ، ذلكم أنَّ السلطان:» احتَاجَ إلى المُثقَّف دائماً حتى يُؤثِّثَ لهُ مَجَال النُّفوذِ الشَّرْعيِّ لدى الجُمْهُور، فقد ظَلَّ يُدْرِكُ أنَّ وظيفةَ المُثقَّف تلك لا تنتمي إلى الثَّقافة، وأنَّ هذهِ تَقِفُ – في حَقيقةِ أمْرِهَا – على مَسَافَةٍ بعيدةٍ مِنَ السُّلْطَانِ السياسيِّ، وحتَّى حينما كانَ هذا الأخيرُ مُضْطَرَّاً تحتَ وطأةِ ضغوطٍ ما إلى مَنْحِ المُثقَّف أقْسَاطَهُ، أو بَعْضَ أقْسَاطهِ، المُسْتَحقَّة مِنَ الحُريَّة، كانَ يُحيطُ حُقوقهُ بِقَدْرٍ هَائلٍ مِنَ الكَوابحِ القانونيَّة والعُرْفيَّة وغيرها، ويَرْسُمُ له خطوطاً حَمْرَاء يدفعهُ دَفْعَاً إلى احترامها مقابل تمتُّعهِ بذلك النَّزْرِ اليسيرِ مِنَ الحُريَّة، والوَيْلُ كُلَّ الوَيْلِ إنْ هوَ تطلَّعَ إلى مُخَادَعةِ السُّلْطَانِ السِّياسيِّ، وخَرَقَ الثِّقَة مِنْ خلال انتهاك أيٍّ مِنَ الخُطوطِ الحَمْراءِ المَرْسُومَة «، وبهذا تكونُ الاسْتِجَابَةُ لهذا التحدِّي مُرْتَبِطَةٌ بالفَقيهِ والمُثقَّفِ والمُجْتمعِ العربيِّ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْد، وليْسَ حقيقيَّاً ادَّعَاء بعض المُثقَّفين أنَّ الاقترابَ مِنَ السُّلْطَةِ وعَالَمها أمْرٌ حَتْمِيٌّ لا مَناصَ مِنْهُ أبداً، ولكنَّ صَوْت الجَّاه والنُّفوذ والامتيازات أعلى مِنَ الحقيقة. ومُنْتَهى النَّظَر أنَّ الفَقيهَ والمُثقَّفَ مَوْهُومٌ إذا ظَنَّ بأنَّه قَادِرٌ على احتواءِ استبداد السُّلْطَانِ وتوظيفهِ لصالحهِ أولاً، ولِصَالِحِ المُجْتَمَع آخِرَاً، ذلكم أنَّه مُنْخَدِعُ أيضاً إذا اعتَقَدَ أنَّه:» قادِرٌ على تجاوزِ الثَّقافة الأبويَّة إذا تَعَامَلَ معها ضمن حُدودٍ مُعيَّنة، فيَضَعُ لنفسهِ الحُدُودَ التي يعتقدُ أنَّ السُّلْطَة تَقْبَلُ بها، إنَّه لا يُدْرِكُ، أو ربُّما يُدُرِكُ ولكنُّه يُخْفي هذا الإدراك عن نفسهِ دونَ وَعْي، إنَّه بذلك إنَّما يُشَارِكُ في عمليَّة الإخْضَاعِ السياسيِّ والأيديولوجيِّ الذي يُفْرَضُ عليه، وحتَّى حين يرى نفسهُ في موقفِ المُوَاجَهة الخَطَابيَّة إزاء السُّلْطَة، أيْ ضمن الحُدود المُعيَّنة، إنَّما يساهمُ في دعمِ هذهِ السُّلطة وفي تعزيزِ شرعيَّتها «، وكُلُّ نَاظِرٍ فيما تقدَّم يُدْرِكُ تغييبَ النَّاس، قديماً وحديثاً، سَواء أكانتْ دَوْلة الخِّلَافة، أو الدُّوْلَة السُّلطانيَّة، أو الدُّوْلَة القُطْريَّة، فالسُّلْطَةُ مُنْشَغِلَةٌ بالبحثِ عن شرعيَّتها، وعن مصالحها الخاصَّة، مع إهمالٍ مقصودٍ للنَّاس، وقد ظلَّ على الدوام لهذهِ السُّلْطَة أدواتها وأتباعها مِنَ النُّخبة ممَّن ساهموا في فَرْضِ أو تسويغ حُكْمِها وسياساتها، ولا بأس إنْ عاشَ أو ماتَ النَّاس، فإنَّه لا يُؤْبه لهم، ما دامَتْ المرجعيَّة العليا مَسْرُوقَة، والحُريَّة قصيدة جاهليَّة غير موزونة، ولا وجود للتشاركيَّة، وسيادة القانون، والحُريَّات، بصورتها الحقيقيَّة والجوهريَّة.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 24-01-2025 08:38 مساء
الزوار: 30 التعليقات: 0