لم ألجأ إلى الصحف، فأنشر إعلاناً أطلب فيه عملاً يليق بتاج البياض الذي يُكلل الرأس، ويستجيب للتعب الذي أراه في عيون الآخرين وهو يتهدّل على كتفيّ، ولكنني ذهبتُ إلى الكتب أستنطقها، علّها تدلني على عملٍ يُرضيني.. وأرضيه.
فماذا وجدت؟!
«بيليسا كريبوسكولاريو»، امتهنت بيع الكلمات، بدلاً من اًن تكون مضطرّة لامتهان الدعارة، أو معاناة القهر والعبوديّة في بيوت الأثرياء.
في كلّ صباح تذهب بيليسا إلى الأسواق والمهرجانات، تجلس تحت مظلتها الفقيرة، بأوتادها الأربعة التي تتمدّد عليها أكياس الخيش، فيتقاطر إليها الزبائن، تبيعهم أشعاراً؛ رسائل للعشّاق؛ وصفات لتحسين الأحلام؛ شتائم يوجهونها لمن شاءوا من الأعداء؛ خطباً للانتخابات الرئاسيّة؛ وكلمات سريّة تقضي على الكآبة. وقد آلت المرأة على نفسها أن لا تبيع الكلمة نفسها مرّتين.. أو لزبونين مختلفين.
بيليسا كريبوسكولاريو، هي المرأة الغريبة التي امتهنت بيع الكلمات في قصّة إيزابيل ألليندي «كلمتان»، المنشورة ضمن مجموعتها القصصيّة «حكايات إيفالونا».
أمّا ماذا فعلت الكلمتان السحريتان اللتان باعتهما المرأة للكولونيل قاطع الطريق، الذي رشّح نفسه لرئاسة البلاد في انتخابات ديمقراطيّة، فتلك قصّة أخرى!
***
في رواية «إيفالونا»، للكاتبة التشيليّة نفسها، ثمّة امرأة أخرى تمتهن رواية الحكايات. وهي مثل بيليسا كريبوسكولاريو، تتنقّل من مكان إلى آخر.. تجوب البلاد من أقصاها إلى أقصاها، عارضة بضاعتها على الشّارين: «قصص مغامرات وحرمان ورعب وحبّ، وكلّ واحدة منها لها سعر مناسب»!
ظهيرة يومٍ بالغ الحرارة، في تلك الأجواء المداريّة اللاهبة، وبينما كانت المرأة تروِّج لبضاعتها وهي جالسة في إحدى السّاحات، تقدّم منها رجل ناحل بيده سلاح، وقد تبدّت في ملامحه الشاحبة بقايا مهابة مُندثرة.
بدا متعباً ومعفّراً، وكان حزيناً، يحمل على كاهله غبار أمكنة شتّى بعيدة، وظلال حروب كثيرة. سألها الرجل الغريب أن تبيعه ماضياً، لأن ماضيه صيغ من العنف والدم والحسرات، وكلّ ما من شأنه أن يملأ روحه بشظايا معدنيّة ويجعله عاجزاً حتّى عن تذكُّر اسم والدته، وعن أن يحبّ نفسه.
استجابت المرأة لمطلبه، وسلخت ليلتها تروي للرجل ماضيه الآخر، المفترض، وأصبغت على روايتها من تجربتها الكثير. حكت له عن أحلامه ورغباته وأسراره الحميمة ومشاعره وعلاقاته العائليّة، فتلاشت عنه رائحة الحزن التي اشتمّتها فيه عندما التقته ذلك المساء.
أمّا تلك المرأة، فقد حدث لها أمرٌ آخر. لكن تلك تبقى قصّة أخرى!
***
وأمّا السيِّدة التي اخترعوا لها اسم «فراو فريدا»، في قصّة غابرييل غارسيا ماركيز التي حملت عنوان «أؤجر نفسي لكي أحلم»، فقد امتهنت مهنة أخرى، قد تلتقي وتفترق مع مهنتيّ زميلتيها في قصّة إيزابيل ألليندي وروايتها سالفتيّ الذِّكر، وهي المهنة التي يُفصح عنها عنوان القصّة التي تشكِّل واحدة من مجموعته «اثنتا عشرة قصّة قصيرة مهاجرة»، واختارها ماركيز لتكون منطلقاً لسيناريو في إحدى ورشات العمل للكتابة السينمائيّة التي كان يُشرف عليها، وقد صدرت أعمال الورشة بعد ذلك في كتاب حمل عنوان «بائعة الأحلام».
كان ذلك هو عمل فراو فريدا الوحيد، الذي لا تتقن غيره، وهي تُقر بذلك عندما تُسأل عن ما تجيده من أعمال. كانت تقول العبارة التي حملها عنوان القصّة، كاملة، ودون ارتباك أو تردُّد أو خجل، أو تكتفي بكلمة واحدة: الأحلام.
أمّا ما حققته فراو فريدا من بيع الأحلام، والنهاية المأساويّة التي انتهت إليها تلك المرأة، فتلك قصّة أخرى!
***
لقد اكتشفتُ بعد تأمُّل هذه المهن، أن بيع الكلمات؛ بيع الحكايات؛ وبيع الأحلام (ولعلني أكون قد أفلحتُ في التحريض على قراءة هذه النصوص السّرديّة الجميلة) ربما تكون هي المهن التي مارسناها، دون أن ندري، منذ أن كانت رؤوسنا الفتيّة تتيه بعيداً، ظناً منّا أن الكلمات ستقودنا، إلى تغيير العالم نحو الأفضل، وأن الحكايات التي نكتبها ستُنقش بالإبر على آماق البصر، وأن الذين لا يحلمون سوف يموتون في ليلتهم من شدّة البرد والضجر!؟
ويبدو أنه لم يتبقَّ لنا، بعد هذا العُمر، سوى مواصلة العمل في مثل هذه المهن التي لا تتقبّل التقاعد.. المهن التي ربما نعثر من خلالها على من يحبنا.. حتّى لو بلغنا من العُمر أرذله!؟

نقلا عن الرأي