حَمل المطلق على الموثق» للشاعر عيسى أبو جودة.. اللغة والوطن
عرار:
«الأبيض تربية العصي القصي، تأنيث الزمن بالإشارة
كل ما هنالك تحت طائلة المتاح
النهر في متناول الفكرة، الفكرة في متناول الحياة
في منأى عن شؤون المبنى الزائد عن حاجة الحصاة»
***
الرحلة التي أخذني إليها الشاعر الأردني عيسى أبو جودة في مجموعته «حَمل المطلق على الموثق» (صدرت في عمان عن دار المعتز للنشر والتوزيع 2017 )، كانت مفاجأة رائعة ومدهشة، متعبة وجميلة، لقد كنت وأنا أمضي مع النصوص أقف أحيانا لأعيد قراءة الجملة مرة أو مرتين وأهتف دهشة «يا الله كم هذا جميل!».. ولكن في ذات اللحظة كنت أجد نفسي مع كل فكرة أمام قوة جذب عميقة تدفعني للتفكير الكثيف بما يتجاوز جمال اللغة ودهشتها لكي لا أفقد الدينامية الهائلة التي تطلقها النصوص في حركة المعنى الشاسعة.
حَمل «المطلق» لغتي و»الموثّق» وطني، هذا هو عنوان المجموعة، وهو عنوان لم يأت اعتباطا، بل إنه بمثابة مركز الدائرة الذي يحدد ويحكم ومنذ اللحظة الأولى وبصرامة حركة شعاعات النصوص، فاللغة بما هي حركة فكر ووعي بمقدورها أن تعبر عن نفسها بصورة مطلقة، بمقدورها أن تصعد وأن تدور في أفلاك المطلق وأن تقول ما تريد بلا قيود.. غير أن الحضور الحاسم للوجه الآخر أو توأم المطلق اي «الموثّق» الوطن.. يعيد حركة ذلك المطلق إلى مرجعيته الناظمة، الوطن/الواقع، أي أنه هو المحدد لمدى اقتراب المطلق وابتعاده، عمقه وسطحيته، جديته وعبثه، الممكن والمستحيل، الهبوط والصعود، النذالة والكرامة.. الاستسلام والمقاومة، الجرأة والجبن، الحرية والقيد، الوطن ونقيضه... هذه الحقيقة، أي العلاقة ما بين المطلق والنسبي هي خيط البناء الذي بقي يحكم حركة المجموعة بكاملها.
بقليل أو كثير من التأمل والتفكير نكتشف أن عيسى أبو جودة لا يكتب كترف أو كتمرين ذهني، كما لا يكتب نصوصا افتراضية هلامية، فنحن لسنا أمام عمل عبثي أو سريالي أو مجرد بوح أو تفريغ نفسي.. بل نحن أمام مشروع يعبر عن توتر وقلق وجودي عميق، ولهذا فهو بقدر ما يعبر عن الغضب فإنه في ذات الوقت لا ينسى بأن مهمته العميقة ليس فقط التعبير عن الغضب، أو نقد الواقع أو تفسيره بل الأهم إعادة بناء الوعي وصياغته.. لهذا فإن النصوص كانت تشبه إشارات ضوئية تجبر القارئ على التوقف قبل أن يواصل الحركة.. فهي تحاول بصورة ما إعادة بناء وعي وتنظيم مقارباتنا للواقع تجاه قضايا ومسائل في غاية الخطورة.. الأمر الذي لا يحتمل العبث أو الخفة.
«للحقيقة وجهان» هذا ما يقوله محمود درويش كتعبير عن إشكالية العلاقة ما بين الوعي والواقع والممارسة، أو لنقل جدلية العلاقة بين هذه المفاهيم والأبعاد.
هذه المعادلة بالضبط شكلت ركيزة منهجية في تفاعل المبدع عيسى أبو جودة مع الأسئلة والفرضيات والحقائق والتناقضات التي يعصف بها الواقع، حتى أصبح الأمساك ببديهة الحقيقة عمل شاق ومرهق.
غير أن أبو جودة نجح ببراعة وذكاء في دفعنا للمرور في حقل الألغام الشاسع هذا دون أن ينفجر بنا.. بل ومع الوصول إلى خط النهاية.. نقف لنتنفس بعمق مع إحساس غامر بجمال الرحلة وجدواها.. والأهم كم أنها كانت ضرورية في سياق محاولاتنا لإعادة وعي ذاتنا وصياغة مصائرنا بصورة أكثر وضوحا.
لا أدري لم ذكرتني مجموعة عيسى أبو جودة هذه بقصيدة درويش الرائعة «خطبة الهندي الأحمر الأخيرة» التي يحاكم فيها ضمير وأخلاقيات الرجل الأبيض الذي أباد ملايين الهنود الحمر بلا رحمة.
في مجموعة «حمل المطلق على الموثق» أيضا نحن أمام محاكمة ضارية وشاملة لكل ثقافة وممارسة الهبوط في واقعنا المشبع بالألم والقهر والخيبات والمقاومات المحبطة أيضا.
يواصل عيسى أبو جودة ملاحقة حركة الأبيض في جميع حالاته والتباساته مراوغاته، في حريته وعبوديته أيضا، إنه هنا يقدم لنا تفكيكا مدهشا للتناقض.. ففي الأبيض نقيضه.. والأهم هنا هو أنه يجبرنا على تحديد عن أي أبيض نتحدث وأي أبيض نختار.. فكرة غاية في الأهمية.. ففي كل لون الشئ ونقيضه، فالأصفر مثلا قد يكون حقل أقحوان أو برتقال.. وقد يكون تعبيرا عن الشحوب.. والأحمر قد يكون حقل حنون أو حبة كرز أو شفاه امرأة تضج بالإثارة.. والأسود قد يحمل بهاء الليل وفي ذات اللحظة قد يكون ظلام قبر موحش..
إذن ما يريدنا عيسى أبو جودة أن نعيه هو أن نتحرك وأن نتجاوز عقلية التعميم.. وأن نذهب للتحديد، فبدون ذلك سيبقى العقل العربي مقيدا وخاضعا للثنائيات القطعية ولغة الخطاب العام ، الذي يقول كل شئ لكنه في الحقيقة لا يقول شيئا...
هذه العملية الدقيقة تستدعي بالضرورة إخضاع كل شئ للتشريح المعرفي... بمعنى إعادة توليد المعنى من حركة الحالة والواقع... فكل هذه الهزائم والخيبات والعجز والبؤس والانحطاط والجهل ليست نبتا شيطانيا... بل هي نتاج وعي وثقافة وبنى وممارسة.. وبالتالي فان تجاوز هذا الواقع المثقل بالألم والعجز مشروط بتوفر الارادة لوعي الذات والواقع أولا.. ومن ثم تجاوز ثقافة وخطاب التبرير.
بهذا المعنى يمكن فهم ما يريد عيسى أبو جودة حين يقول «الأبيض موتي وحيدا فوق أجمل شراع من فرط ما هو أبيض وحر كالمشاع».
هذا ما حاول عيسى تجاوزه بإعادة لفت نظرنا إلى ضرورة وعي وتحديد ماذا نقصد بالضبط في كل ما نقوله ونتخذه من مواقف... هذا وفق رايي المتواضع جوهر فكرة عنوان المجموعة «المطلق لغتي والموثق وطني»، بمعنى أن اللغة إذا لم تكن تعني الوطن وتحرسه وتحميه على كل المستويات فالنتيجة المؤكدة هي ضياع الوطن والأنسان معا... فكم أسأنا رؤية الحياة حين رأينا القاتل يفتش العراة وغضضنا النظر».
في هذا السياق يأتي إلحاح عيسى على ضرورة إعادة وعي مفهوم الوطن «وطني أيا فتنة الحظ الشريد واللحن الطريد... وطني أيا دليلي البري... الفائض عن حاجة الهامش الردي...كلما ضاقت الأرض بالسماء كلما ازداد الطلب على الأحذية.. هذا ما تقوله الجغرافيا... جغرافيا هانوي المرحلة»، بمعنى أن الوطن الذي لا يجد فيه أبناؤه خبزهم وكرامتهم... فإنه لا يعود وطنا بالمعنى المباشر أو بالمعنى المجازي الجميل.... في هذه الحالة فإن من واجب الأبيض أن يعود ليمارس ثورته وتمرده على شكل «رسالة عاجلة.. لحن أغنية وطلقة حاسمة»... وغير ذلك سنواصل الدوران في حلقات مفرغة حيث «في اللاحرب واللاسلم وفي حضور الرب... يصيبنا تناقض في الألفاظ» بمعنى تناقض ما بين المطلق والموثّق، ما بين الواقع والمتخيل، ما بين القول والممارسة.. حينها ومرة أخرى يستدعي عيسى الأبيض في ذروة بهائه «الأبيض طلقة حاسمة.. خيمة على قارعة النسيان وطني هو أو هي لغتي».. هكذا يتماهى الوطن واللغة.
في سياق تدفق النصوص والأفكار واندفاعها كنهر هادر يقطع السهول حينا ويصعد المنحدرات حينا ليسقط على شكل شلال هادر من ارتفاع شاهق، ولكي تترسخ الفكرة فإن عيسى أبو جودة يعيد بإلحاح وعناد لازمة تحمل فكرة حاسمة.. فكرة تخترق النص من البداية حتى النهاية وكأنه بذلك يريد أن ينقشها في الوعي نقشا كي لا تضيع في غمرة الانفعال، هذه الفكرة متحركة، حيوية ، متغيرة ولكنها لا تغادر ولا تقطع مع خافية النصوص
النهر في متناول الفكرة، الفكرة في متناول الحياة
الصفة في متناول الفكرة،الفكرة في متناول الحياة
موتي في متناول الفكرة، الفكرة في متناول الحياة
الهوية في متناول الفكرة، الفكرة في متناول الحياة
الأغنيات في متناول الفكرة، الفكرة في متناول الحياة
... في منأى عن شؤون المبنى الزائد عن حاجة الغزاة.
هذا التكثيف والعناد الجميل يقيم معادلة شاهقة ما بين الواقع والمباشر (النهر، الصفة، الموت، الهوية، الأغنيات) أي الواقع الذي يعبر جسر الفكرة/ الوعي.. ليذهب من هناك إلى الحياة بما هي انفتاح على احتمالات وخيارات لا حصر لها... بدون ذلك سيبقى الأنسان يدور في دوائر الاحباط والخيبة...
هكذا يكثف عيسى وبمهارة مثيرة حركة المعنى العالية في الأبيض ليجعل منها نقطة ارتكاز.. يذهب منها نحو آفاق بعيدة.. تتجاوز ضيق الأفق وبؤس اللحظة «الأبيض نقطة الارتكاز... بالتأكيد هناك الكثير مما يمكن الوقوف أمامه في هذه المجموعة سواء على صعيد الأفكار أو اللغة أو جماليات النص.. وبالتالي فإن هذه القراءة العاجلة ليست سوى محاولة للتفاعل مع أبعاد هذه النصوص وإلقاء الضوء على عمل رائع وكاتب يستحق الاحتراموالاحتفاء.
مصدر / جريدة الراي
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 25-08-2017 08:31 مساء
الزوار: 1595 التعليقات: 0