|
عرار:
غابة النخيل كان التحدي، أن نستحضر الوحشة من بين ركام الضوء المنسرب، تحت ركام السعف النوعي في الواحة، وأن نجمع ما تساقط من هامة الصخب البعيدة في وعاء. كل هذا لنأتي بجنيّ بهلواني، وهزيل، بقصد التسلية، ومن بطاقة ائتمان ضئيلة بلاسقف يعول عليه، ووحيدة في جيب صديقي. عرض سخي ومحدود، يقضي بخصم الفائدة، عثرنا عليه صدفة، ونحن نستقل الطريق الرملي سيراً، نحو غابة السّهر، ونقرأ النجوم. فانوس الزيت النحاسي، والذي جلبناه معنا عن أرفف الحكايا العتيقة مخادع كبير، وأول خيبات السّهر. راح يمد ذبالته الشحيحة لجذع النخلة الفرعاء ويسخر منّا. عن عمد، كان يبدد العتمة الشائكة، الموحشة، وينحني لهالة الضوء والصخب. الجنيّ حضر ناقصاً على هالة الضوء، كالخداج. لكنه تأملنا باستخفاف كبير، وهز رأسه وهو يجول بيننا، ثم مط شفتيه ونفخ صدره كعفريت قمقم حقيقي، مغرور، وقال: قلبي معكم، فللسّهر الحقيقي يا سادة.. شكل آخر، مثل أصل وحكاية! خلف الستائر الرملية في الواحة الصحراوية تعلو الستائر من جديد، كلما اقترب الصباح. الآن نحن في المنتصف، فضاء كثيف، أصفر، يمرّ بيننا، ثم خيال جامح يحلُّ في العينين. خلف هذه الستائر الرملية العالية، حارات شاسعة، يتقاطع الفراغ على أبوابها مع الليل، حين يسوقه الوقت مبكرا في غيابنا. كل الطرقات هناك ستغدو مقفرة، أو شبه مهجورة، الا من بعض الوجوه المسرفة بالغموض، أغلبها ترتجف لأجساد تقشعر تحت آخر الملابس الصيفية، وعتمة مبكرة تهبط فوق برندات منهكة وموصدة، خالية، إلا من حبال غسيل فارغة. برودة ذائبة في رياح الأزقة ورذاذ خفيف على نخيل الشوارع. هذا كلُّ ما تخيلناه ولاح لنا قبيل الثالثة ليلا. فخ الساعة الثالثة كانت الساعة تجرف الوقت نحو الثالثة..! ككل ليلة. الوقت، ذلك الكائن الجامح منزوع الارادة، البغيض في طيشه، متى ينضج ليستكين، أو يقف عند حده؟ الثالثة هو سراب المسافة، ربما لا يعرف. والوقت أحصنة حافية، لا تقف. جسد الواحة الصحراوية كان شفافا وغامضا، وموسوما بالغواية، يثير شهية الكائنات بالركض، والرمل فتنة ذكية مذابة في الهواء. كل شيء في الصحاري وقف عند حدود الثالثة، تلك الليلة، الا الوقت. جرفته الساعة الرملية، ووحيدا رأيناه هناك، ككهل طائش، يعبر نحونا ويسقط في الفخ. أسطورة الليل هنا، في هذه الواحة، تخرج الصحارى عن جغرافية الرمل والمدى، تماما، لتغدو ثنائية السحر في المعنى، بذلك التناسل المبهر وتلك التعددية في الجهات حول أفق فسيح يطارد أفقا آخر، ولا يستقر على حال. حيث يبدأ المطاف من شق خيمة نحو سلّم الخفاء، ولا ينتهي ابداً. المدى الفسيح المغبّر، الموشى بالسراب، ينقلب إلى طير يحكي، وقد يبوح لنا بالنبوءة. رياح المواسم تقارع الغيم وقد تعيق هجرة المطر، أو تغزو الكهوف الصخرية وتنبش تحت أشجار الطلح، كل هذا في البحث عن أسطورة، عن ناموس جديد، عن فيض نور أعمق، من شأنه أن يوثّق للسّهر. في الليل، السّحر ليس مبتذلا هنا، لكنه يطفو بواقعية غريبة، فيه سرّ، ربما سرّ الخروج إلى المتاهة، حيث المتاهات أكثر جمالا، ودهشة، لكن كيف ذلك؟ يسأل صديقي. الواحات زوايا مهجورة يفرّ منها الليل، فيما يأوي إليها المسافر، ذلك التائه البغيض.. أمثالكم. يخرق سمعنا صوت ذلك الجنيّ الهزيل حول موقد الجمر الليليّ، وهو يردّ ساخرا بتلك العبارة، ويهزأ بنا. يردّ صديقي حانقا: هذا انحياز واضح لعتمة الليل، دون سهر، أليس النهار أجمل في حالة كهذه؟ ينبش الجنيّ كومة الجمر، ثم يجيبه في هدوء: الليل، هو كائن بسيط وساذج، بل ومرعوب، سواده الحصري محض ذريعة صبيانية، للنوم في حضن أحد، لذا فهو لا يضنّ عليكم بالسّهر، أو على غيركم، بل هو يبحث عنه. أما النهار، فهو كائن خبيث، يتطفل على الشمس وهو يلوذ بالضوء، أعرف بأن هذا بديهي، لكنه يسيء استخدامه عن عمد، وهنا تكمن المشكلة. النهار كائن عبثي، يغار من الليل، ويحتال عليه، وعلينا. دقائق الصباح الأولى دقائق الصباح الأولى جميلة. والتي تسبق شروق الشمس بقليل، حيث العتمة تتسحب كلص، تاركة وراءها لونا فضيا باهتا وسط الأثير وكثبان الرمل، وفوق قرميد البيوت على الجانب الآخر، سرعان ما يتكاثف اللون في انسحابها التدريجي في كل الأماكن ويصبغ الطريق. عند تراجع العتمة أكثر فأكثر، تخلف وراءها ما يشبه الظلال، من حولنا. سرعان ما تستفيق الأشياء لتبدأ البحث عن مخبأ. نبحث عن الجنيّ ونحن نغادر فلا نجد له أثراً. يدّعي صديقي بأنه قد عاد إلى بطاقته الإئتمانية الفقيرة، والوحيدة في جيبه. عند أول انعطافة مسفلتة، تنحني صفوف الأشجار الواقفة وتميل رغم سكون الصباح، وتتفرق في تدرجات مائية باردة، تراوح بين الفضة والأزرق. ومع لهاث الصباح، وتلاحق أنفاسه في وجوه الكائنات، تبدأ جميعها بالبحث عن ظل مماثل لتستر نفسها فيه. ثم لا تلبث أن تختفي أمامنا على الدرب، قبل أن تدوسها الشمس وهي تترجل نحونا حافية. هو قاص اردني مقيم بالسعودية جريبدة الدستور الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 30-06-2017 10:58 مساء
الزوار: 703 التعليقات: 0
|