انتصار عباس تتكئ رواية «كنوز قارون» الصادرة عن مؤسسة الرسالة - بيروت، للأديب والروائي فوزي صالح، على الموروث الديني و القص القرآني، لتأطير ما يسمى بالأدب الإسلامي للتعريف بأحداث وشخصيات مرت عبر التاريخ، وتصوير النفس الإنسانية بكل حالاتها والتي تشبه البحر في مده وجزره، صعودها وهبوطها، مكامن الضعف والقوة، كما تصور الرواية إرهاصات حياتية من إحباط، وجرائم في حق الأفراد، إضافة إلى تعرية الشخصيات ودورها السلبي الهدام في المجتمع، فكانت قصة «قارون « وكنوزه، والمعجزات التي صنعها الله ليرينا من آياته لتكون لنا دروسا وعبرا نستفيد منها، وقد انقلبت النعمة إلى نقمة حيث ابتلى الله قارون في ماله وذلك لتكبره ونكرانه الحق، وكذلك فرعون الذي تكبر على الحق، فكان من فرعون الجحود والنكران، والإدعاء أنه هو الله وهو الذي يحيي ويميت فكلاهما سار على نفس الدرب من كفر، وعصيان، وتجبر فكانت نهايتهما العقاب، وقد لجأ الراوي إلى التناص، وإسقاط الواقع على هذا الحدث وقد بدأت بعثة البحث والتنقيب بحثها عن كنوز قارون الغارقة في بحيرة قارون، وتقع بحيرة قارون في مدينة الفيوم بصعيد مصر، كذلك قصر قارون وتعتبر البحيرة من أكبر البحيرات الطبيعية في مصر،ويقال أن سبب التسمية البحيرة بقارون، هو قصة قارون التي وردت في القرآن الكريم، ولربما كان سبب التسمية الحقيقي إلى أن البحيرة كانت مليئة بالخلجان والبروز، ويقال أن المنطقة تحوي كنوزا أثرية كبيرة لم يتم اكتشافها بعد». واستطاع الأديب بأسلوبه السري الجاذب والممتع في سبر المحظور مستعرضا جوانب متعددة للواقع العربي في فترة ساد فيها الظلم، في ظل غياب الديمقراطية وحرية التعبير عن النفس، كما وثقت الرواية جلسات البرلمان، وما تنشره الصحف حيث قام الراوي بأرشفة حقبة معينة من الزمن عبر ولوج عوالم بعيدة، والنبش فيها ليصل الحاضر بالماضي، بالاستناد على النص القرآني، فكانت قصة فرعون، وكنوز قارون، وتستهل الرواية بوصف دقيق وجميل لغرفة الشخصية الأساسية المحورية في الرواية والتي تسرد على لسانها كل التفاصيل الحياتية وتحركات الناس، وكان تصويرا بليغا لحجم لبذخ والجمال الذي اتصفت به الغرفة، وقد شكل هذا الوصف بعدا باطنيا يستعرض زمانين، ومكانين، زمن ماضي قصر قارون وزمن حاضر غرفة زجاجية باذخة جهزت بأحدث التقنيات ثم الانتقال للحديث عن عملية التنقيب وبعثة البحث عن تلك الكنوز المفقودة وما يطرأ من مفاجآت وأحداث أنية بين الحين والآخر فتقلب الأحداث وتغييرها رأسا على عقب، وتتجلى مهارة الأديب وقدرته على الإسهاب في السرد عبر لغة قوية مكثفة، قادرة على الوصول إلى القارئ بعبقرية، وحبكة محكمة، كأنما عرض اسكتشات لفيلم سينمائي « يبدأ من الـ flash back « وينتهي بلحظة الانتهاء من البحث والتنقيب والفشل حيث تنسل الأحداث من الزمن الماضي لتصل زمن حاضر قائم، عالمين مختلفين تماما، بعيدين كل البعد عن بعضهما، وتدور الكاميرا تصور عملية البحث والتنقيب وردة فعل الناس، وحركاتهم وأفعالهم، وما تطالعه جلسات النواب من قرارات وبيانات، وما تنشره الصحف من أخبار وأحداث، فالمشاهد حية جمعت الدهشة والمفاجأة، وما يستجد كل يوم من حدث، وتناقل أخبار الصحف وبين ماض تمثل في خروج للناس قارون وتفاخره بنفسه وماله وقد ارتدى تاجا كما الملوك، وحوله حاشيته الذين حملوا مفاتيح الكنوز والتي كانت من الذهب الخالص، وقد احتاجت لمجموعة من الرجال لحملها، وكثرة المال الذي تحول من نعمة إلى نقمة هو من أفسد قارون فهو لم يكن فاسدا لهذه الدرجة فكثرة المال حمله ليكون على هذه الصورة القميئة، وقد انقسم الناس لفئتين فئة تمنت لو كانت مثله « ليت لنا «، وفئة أخذت تذكره بأن الدنيا زائلة، وعليه أن يذكر الله ويحمده على نعمه، فكان رده النكران حيث قَالَ» إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي، ونتيجة تعنته وغروره جاءه رد الله، بالعقاب ?فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ? وهنا ذروة الحدث، وقد ابتلعت الأرض قارون و داره. و ذهب ضعيفا مجردا من كل شيء، وقد كان قارون أغنى رجل عرفه التاريخ، وبهذا التصاعد المونودرامي للحدث كان لقاء الغنى والفجور، وزوال كنوز قارون وقصره، وقد تغير خطاب كل الذين تمنوا لو كانوا مكانه، كذلك كان زوال الطاغية فرعون بأن أغرقه الله، ثم يعود الحدث بالهبوط من الذروة إلى البداية حيث غرفة زجاجية غاية في البذخ والجمال في زمن آخر حيث تتناسل قصص أخرى وتبدأ عمليات البحث والتنقيب عن كنوز قارون، ويقوم الراوي بتصوير الحالة بكل ملابساتها،وما واكب تلك الحقبة من أحداث سياسية واجتماعية، واقتصادية، فصور حال الناس وأحلامهم، وفقرهم عبر الإشارات والرموز الدالة والتي أفضت إلى تصوير واقع حال الشارع العربي، والأنظمة الفاسدة، ويتصاعد الحدث ليصل إلى ثم الذروة فشل عمليات البحث والتنقيب فلم يحدد مكان الكنوز تماما، وقد تكون هذه الكنوز قد طمست وتحولت إلى حجارة وقد دعا موسى على فرعون « ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، ربنا ليضلوا عن سبيلك، ربنا اطمس على أموالهم « وتفشل محاولات البحث، وهنا تظهر براعة الأديب وقدرته على تمثيل هذه المفارقات الزمكانية والربط بين زمنين مختلفين تماما، زمن ماض مس هذه الأحداث وواكبها، وزمن حاضر يبحث في الماضي وينبش فيه بغية استخراج كنوزه الضائعة، مستعرضا حال الإنسان بشقيه الصادق المحب والمنتمي لوطنه، والمرائي الموالي للأنظمة الفاسدة، المنافق، والنفاق الاجتماعي، واستطاع الأديب فوزي تصوير المشاهد الحية بقالب درامي جميل تسلسلت فيه الأحداث بصورة منطقية مقنعة عرفت القارئ بعوالم تاريخية ودينية، وفتحت عينيه على واقعه المعاش وما يعتريه من أحداث، مما أضفى الخصوبة والحيوية على المشهد الروائي وجعله مشهد حسي واقعي، ذا شفافية ومصداقية، وأمانة في نقل الحدث وتصويره والمعالجة بكل صدق ووضوح.