لا شك في أنّ الرواية من الفنون اللغوية التي تسعى إلى أن ترتقي بلغتها إلى الشعر، ولا يعني هذا أن تغادر بنيتها، أو تهدم بعض عناصرها الرئيسة في سبيل ذلك، فالرواية فن سردي بالدرجة الأولى له لغته، التي تتكون من أساليب، وحوارات، وخطابات مختلفة سردية ووصفية وشعرية، تحاول الإيهام بما هو واقع في الحياة، والمجتمع، والنفس البشرية. ومن المعروف أن الرواية لطبيعتها المرنة توظف الأجناس الكتابية المختلفة بما فيها الشعر في بناء عالمها. ويأتي استخدامها الشعر كي تكتسب بعض صفات لغته الجمالية، التي هي لغة الذات والعاطفة والوجدان، تلجأ إلى تقنيات كثيرة، منها: التكرار، والتقديم والتأخير، والإيجاز، والتصوير، واستخدام الأساليب البلاغية، والاعتماد على الإيقاع في حين أن لغة الرواية لغة الموضوع، والمرجع، والحياة بأبعادها المختلفة الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها، وتمتاز بالتفاصيل والتماسك المنطقي، وتجنب التكرار، والتفكك، والاعتماد الكلي على الصور والرموز. لقد اتفق النقاد على مبدأ الفصل بين الشعر والسرد أو النثر، ويؤكد أبو حيان التوحيدي أنّ الشعر ممَّا تتقبّله النفس أكثر ممّا تتقبل النثر؛ لأنّه أدلُّ على الطبيعة، ومن حيّز التركيب، أما النثر فأدلُّ على العقل، لأنّه من حيّز البساطة.ولا يخلو الشعر من النثر ولا يخلو النثر من الشعر. ويتجه استخدام الشعر في النسيج الروائي اتجاهات مختلفة؛ كأن يأتي على لسان الشخصيات في حوار داخلي أو خارجي، أو في ثنايا الوصف والسرد من خلال الصور والرموز مع تحقق الوزن والايقاع؛ لكن لا يجب أن يكون هذا الاستخدام على حساب بناء الرواية؛ لتغدو المقاطع والمشاهد شعرية غير مندمجة في السياق الروائي، فيما يسميه الناقد الفرنسي جان إيف تادييه المحكي الشعري. لقد رأينا بعض النقاد يمجدون العمل السردي الذي يتمتع بتلك الصفات الشعرية، ويطلقون عليه الرواية الشعرية، ويعتبرونه متفوقًا على أنواع الرواية الأخرى، مثل أعمال إدوار الخراط:»رامة والتنين»، و»الزمن الآخر»، وأعمال وأحلام مستغانمي:»ذاكرة الجسد»، و»فوضى الحواس». وأرى أن مثل هذه الأعمال بعيدة عن الرواية، ولا تحمل صفات الرواية الناجحة؛ فالرواية وإن استفادت من الشعر ليست شعراً،وإن غلب عليها الشعر خرجت من عالم الرواية لتقترب من النصوص الشعرية النثرية. وفي رأيي أن من الصعوبة أن يبدع روائي رواية شعرية خالصة، أي لها خصائص الشعر وخصائص الرواية، لأن طبيعة الرواية التي نجد أصولها في «ألف ليلة وليلة»، و»دون كيشوت»تختلف عن الشعر، حتى ولو توفر لها مبدع بارع في الشعر وبارع في السرد. فكيف يعبر مبدعٌ شعرًا عن شخصية ما في أوضاع مختلفة، وفي حالات نفسية متعددة، وفي ظروف متنوعة؛ لهذا نجزم بعدم وجود رواية شعرية بالمفهوم الذي بيناه سابقًاً. لعلّ القول بأن الرواية الناجحة هي التي تتميز بطابعها الشعري قد أضر بالرواية، وأضر بالذائقة الجمعية حتى رأينا في هذه الأيام أعمالاً قد حازت جوائز عربية مرموقة مع أنها بعيدة عن النوع الروائي؛ فما هي إلّا خطابات إنشائية مفعمة بالعاطفة والصور والرموز، التي تحلق بعيداً عن الحياة والمجتمع، ولا تتحقق فيها تحققًا فنيًّا عناصر الرواية من أحداث وشخصيات وأزمنة وأمكنة ووجهات نظر وغيرها، فضلًا عن توافر شروط حيوتها التي من أهمها الإيهام بالواقع، أو بإمكان الحدوث، أو ما يسمى الصدق الفني والواقعي؛ لهذا فإن من الضرورة أنّ ينتبه نقادنا إلى أنّ الرواية وإن استفادت من لغة الشعر فإن لها لغتها الخاصة التي تبني عالمها السردي؛ ذلك العالم الذي تتشابك فيه العلاقات، وتتداخل فيه الأجناس الكتابية.
الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 08-02-2019 09:59 مساء
الزوار: 864 التعليقات: 0