|
عرار:
عمان - د. أحمد زهير الرحاحلة/ جامعة البلقاء التطبيقية لن يبدو الحديث عن فيضان الكتابة الروائية الذي نعيشه شيئا جديدا، غير أن الأمر يستوجب محاولة الإسهام على نحو يحفظ حق الجميع في الكتابة من جهة، وحق القارئ في اختيار ما يريد أن يقرأ من جهة أخرى، ومن هذا المنطلق نقول للروائي -وهو مسكون بهاجس البحث عن الحيل السردية المثلى لكتابة عمله الروائي- إن الحيل السردية تشبه المجاز، فالمجاز إذا كثر استعماله أُلحق بالحقيقة، وفقد جماله، واستنفد طاقته، ولا ينبغي على الروائي الذي عاين نجاح غيره في حيل سردية ما أن يعمد إلى اجترارها أو استنساخها إن لم يكن قادرا على أن يأتي بخير منها، والمشهد الروائي العربي يعج بمئات الروايات التي تتشابه في هيكلها، وتتطابق في حيلها على نحو يتطلب الدعوة إلى التوقف عن كتابة هذا اللون من الروايات، بعد أن أصابها الجفاف، وفقدت قدرتها على العطاء. ثلاث حيل سردية ينبغي التوقف عن الكتابة في تكنيكها، وإلا على القارئ أن يتوقف هو عن قراءة رواياتها، بعد أن وظفتها مئات الروايات، بمستويات إبداعية متباينة، ولم تعد قادرة على جذب القارئ، أو تمييز الروائي، إلا إن كان بالإمكان فعلا الإبداع والتجديد في توظيفها، ولن نذكر اسم أي رواية أو روائي عربي، ونترك للقارئ الحصيف أن يستدعي الأمثلة على ما نقول من ذاكرته التي لن تخلو من ذلك. الحيلة السردية الأولى هي ما يمكن تسميته "رواية الرسائل"، ونعني بها تلك الروايات التي تعتمد في بناء حبكتها الفنية على حيلة الرسائل وتبادلها، فتأتي الأحداث، وتوصف الشخوص، وتسرد الوقائع والتوصيفات عبر رسائل متبادلة، تمتد هذه الرسائل على مساحات مختلفة من الرواية قد تستغرق الرسالة كلها أو جزءا منها. يمكن القول إن دخول هذه الحيلة السردية إلى عالم الرواية العربية كان عبر بوابة الأعمال الروائية الغربية التي تميزت في توظيف هذه الحيلة في وقت مبكرا، ونذكر من نماذجها الدالة: رواية باميلا أو جزاء الفضيلة لـ"صمويل ريتشاردسون"، ورواية"رسالة من مجهولة لـ"شتيفان تسفايغ"، ورواية جولي أو إلواز الجديدة لـ"جان جاك روسو"، ورواية كتاب الرسائل لـ"ميخائيل شيشكين"، ومن أكثر الروايات التي اعتمدت حيلة رسائل البريد الإلكتروني شهرة وانتشارا رواية حين تصفر ريح الشمال لـ"دانيال غلاتاور"، والقائمة تطول. يقول د.محمد القواسمة في مقال له: "هذا النوع من الرواية قليل في الرواية العربية والعالمية، ربما يعود هذا ـ كما أرى ـ إلى أنها تقوم على خطاب بين اثنين، والرواية عامة تميل غالبًا إلى تقديم شخصيات كثيرة، وتتوسع في استخدام الزمان والمكان، وتتعدى تناول قضايا العلاقات العاطفية إلى تناول قضايا كثيرة في المجتمع"، ومع تقديرنا لرأيه الكريم إلا أننا نرى خلاف ذلك، فرواية الرسائل منتشرة بكثرة في الأدب، وليس بالضرورة أن يقتصر تبادلها على طرفين بل يمكن أن يكتبها شخص واحد فقط دون مرسل إليه، ويمكن أن يتبادلها عدة أشخاص، وقد أسهم التطور التكنولوجي، أجهزة الاتصال، ووسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها في تقنيات السرد الروائي الحديثة، شكلا ومضمونا، في زيادة مطردة في الروايات التي تتكئ على هذه الحيلة السردية. إن الجماليات التي ترتبط بمضمون الرسائل، وعنصر التشويق الذي تحمله كلمة "رسالة" وتحديدا إذا كانت رسالة خاصة أو شخصية تشكل عنصر تشويق وإغراء للقارئ الذي يجد في داخله دائما رغبة عارمة في قراءة رسائل الآخرين، والاطلاع على محتواها، غير أن الإسراف في توظيف هذه الحيلة قد أفقدها قدرا كبيرا من جمالياتها، وطاقاتها التعبيرية، ولم يعد القارئ يجد في كثير من روايات هذا الشكل ما يكسر أفق توقعه، أو يزيد من المسافة الجمالية عند تلقيها. أما الحيلة السردية الثانية فهي ما نتجاوز ونسميه "رواية المخطوط"، ونعني بذلك تلك الروايات التي تقوم حيلتها على العثور بطريقة أو بأخرى على مخطوط قديم، يروي وقائع متخيلة من حقبة ماضية، وتتوالى الأحداث في مسارات مختلفة، وقد أشار إلى هذه الظاهرة نخب متخصصة يضيق المقام عن ذكرهم، بعد أن لجأ كثير من الروائيين إلى هذه الحيلة. وعلى الرغم من الجماليات والعناصر التشويقية التي تكتنزها هذه الحيلة إلا أنها بدأت تفقد بريقها وتوهجها أيضا، فهذه الحيلة تعد من أقدم الحيل السردية، ذلك أنها ظهرت أول مرة في رواية دون كيشوت لـ "ميجل دي سيرفانتس" التي يذهب بعض النقاد الغربيين إلى عدها أول عمل روائي فني غربي، وشدت هذه اللعبة عددا كبيرا من الكتاب الروائيين الغربيين قبل العرب من مثل: "خورخي بورخيس" في الدنو من المعتصم، و"امبرتو إيكو" في اسم الوردة، و"أنطونيو جالا" في المخطوط القرمزي، ورواية مخطوط عثر عليه في سرقسطة "لجون بوتوشكين" ورواية مخطوط عثر عليه في سيرايفو "لجيرالدين بوكس". أما الحيلة السردية الثالثة فهي "تسريد التاريخ"، وهو الاشتغال الذي ينتج عنه ما يصطلح عليه "الرواية التاريخية"، ومع أن قوة التعالق بين السرد والتاريخ تعطي "الرواية التاريخية" الشرعنة اللازمة للتجنيس الروائي إلا أن الإشكالية في هذا الضرب من الروايات تكمن في اقتدار الروائي على اختيار الحدث التاريخي وتسريده فنيا، وفي هذا المقام يعد "بول ريكور" من أبرز المدافعين عن الرواية التاريخية، وتحديدا في مفهوم "تقاطع الإحالة" الذي فصله في كتابه (الزمان والسرد: الزمن المروري) غير أن ذلك قد وقع في سياق مناهضته الكلاسيكيات التي سادت حقبة في الأدب، ويغلب على جمهور النقاد إحلال الرواية التاريخية في منزلة دنيا، ومن ذلك مثلا عبد الله إبراهيم في كتابه (التخيل التاريخي: السرد، والإمبراطورية، والتجربة الاستعمارية، ص 13) يذهب إلى أن "الرواية التاريخية استنفدت طاقتها الوصفية،...،والدراسات النقدية أصبحت غير قادرة على الوفاء بتحليل موضوعها، ..، ناهيك عن العثرات التي لازمت هذا الضرب من الكتابة مدة طويلة". لا يبدو البحث عن نشأة هذه النوع من الروايات أمرا يسيرا وإن كنا نجد من يعد "والتر سكوت" هو مؤسس "الرواية التاريخية" وتحديدا في رواية "ويفرلي"، وكذلك في بعض أعمال تولستوي، وألكسندر دوما الأب، وغيرهم، ومنذ ذلك الوقت ما زال الروائيون –للآن- ينقبون في التاريخ عن أحداث ووقائع تصلح لتسريدها وتحويلها إلى روايات. إن وجه اعتراضنا الأبرز على توظيف التاريخ حيلة سردية في الروايات العربية يكمن في فنية "التخيل التاريخي" وبراعته، وهنا يتداخل لدى كثير من الروائيين مطلب "التخييل" الذي هو عماد الرواية الفنية الحديثة، مع عملية "التخييل" الفيزيائية التي يجريها العقل في أثناء قراءة الحدث التاريخي، ومن جانب آخر لا يمكن للروائي أن يتحرر تماما من مركزية التاريخ بوصفه سلطة راسخة، وسيبقى هامش التحرر من هذه السلطة محدودا جدا، وهنا يقع الروائي بين مطرقة التقيد القسري بالحقائق وسندان الخروج عليها، وخلاصة القول في هذه الحيلة أنها تحتمل أحد وجهين: الوجه الأول: أن تكون الرواية "رواية تاريخية" يغلب عليها في عموم خطابها الالتزام التام أو شبه التام بالمسار التاريخي كما وقع، ويراهن الروائي على جماليات أخرى في عمله كاللغة، أو بعض التقنيات والعناصر التشيويقية، وحتى بعض الإضافات المتخيلة التي لن تستطيع تحرير الرواية من سطوة البعد التاريخي، وهذا هو النوع الغالب على ما نقرأ من أعمال روائية عربية اليوم، وهذا هو النوع الذي نرى أنه قد استنفد طاقته، وينبغي التوقف عن كتابته. وأما الوجه الثاني فهو "رواية التاريخ"، ونعني هنا أن يعيد الروائي كتابة التاريخ وروايته من منظور خاص أو مختلف عن المنظور المركزي المألوف، ومع أن هذا العمل هو الأصل الذي ينبغي أن تكون عليه "الرواية التاريخية" إلا قلة قليلة من الروائيين الذين يستندون إلى التاريخ في بناء أعمالهم الروائية يلتزمون بهذا الأصل، أو يستطيعون النجاح فيه، وليس معنى هذا الكلام الدعوة لتغيير التاريخ والحقائق عبر الروايات، وإنما لإعادة رواية التاريخ من جانب مختلف ومؤتلف معا. إن "رواية التاريخ" عبر بوابة السرد الروائي عملية محفوفة بمصاعب جسام أهمها قدرة الكاتب على تخيل الرؤية الجديدة للحدث التاريخي وإبرازها ضمن الرؤية التاريخية التقليدية، وكذلك صهر التعارض بين الوقائع التاريخية والوقائع المتخيلة بصورة فنية، دون أن يغيب عن ذهن الروائي توقع الاتهام بتزوير التاريخ والحقائق، وتحمل تبعات مواقفه من التاريخ، والأهم من ذلك كله: التأمل إن كان حقا ما يزال القارئ راغبا في قراءة التاريخ عبر الروايات؟ ما سبق عرضه لا يمثل دعوة للروائي لقطيعة هذه الحيل السردية، وإنما تنبيه إلى أنها قد أصبحت حيلا تقليدية مستهلكة، وعلى الروائي أن يراعي في توظيفها التجديد والمغايرة، أو أن يبحث عن غيرها، فالرواية المتميزة عمل مرهق وعسير، ولا تتأتى للروائي بيسر وسهولة، ولا شك أن الغثاثة والفوضى التي بدأت مخايلها تلوح في أفق المشهد الروائي العربي هي مما يؤرق الروائي الجاد أكثر من غيره، خشية أن يجرفنا ذلك إلى قطيعة مع الرواية التي نعيش في زمنها. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 29-05-2020 01:11 صباحا
الزوار: 500 التعليقات: 0
|