ثمّة فرق كبير بين أن تكون وطنيّاً وأن تكون سياسيّاً، فالوطني هو الذي يجعل مصلحة وطنه وقومه وأمّته فوق كلّ المصالح بل فوق مصلحته الشخصيّة، ولا يقبل بأيّ شيء يلحق الضرر بوطنه وقومه وأمّته، وهو الذي يرى أن مصلحته الشخصيّة تتحقق من خلال مصلحة وطنه، وأنّ مصلحة وطنه تتحقق من خلال مصلحة وطنه الأكبر، وأن مصلحة الوطن الأكبر تتحقق من خلال مصلحة الأمّة والمحافظة على ثوابتها الثقافيّة والفكرية وعدم المهادنة إزاء أي مساس بها.
أمّا السياسي فهو صاحب المواقف المتغيّرة والمتقلّبة وفق المتغيّرات العالمية ومتغيّرات المحيط، وكثيراً ما تتصادم مواقف السياسيّين مع الثوابت الوطنيّة.
والدكتور الشاعر ربحي حلّوم، وإن كان خاض العمل السياسيّ والدبلوماسيّ كثيراً وطويلاً، إلاّ أنّه حافظ على مواقفه الوطنيّة وضحّى بمكتسبات السياسيّ من أجل الحفاظ على التزامه الوطنيّ،  وهذا ما يتجلّى في سيرته الحافلة، وفي شعره الذي يعبّر في كلّ كلمة منه عن التزامه بدوره الوطنيّ.
ومتى كان الشخص الذي يعمل في السياسة مثقفاً وأديباً ومفكّراً وشاعراً، كما هو حال الدكتور ربحي حلّوم، فإنّه ينحاز إلى صف الوطنيين، لأنّ الشاعر يتعامل مع نبض وجدانه وإحساسه، ويكون أقرب إلى الصدق من أيّ سياسيّ، فشعره هو وجهه الحقيقيّ والمعبّر الأصدق عن حقيقة مواقفه ومشاعره وأحاسيسه، لأنّ الروح الوطنيّة تنبع من أعماق الوجدان والضمير كما الشعر تماماً، ولا يغرنّك قول النقاد القدماء إنّ أعْذَبَ الشعر أكذبه، وذلك أن المقصود بالكذب ها هنا هو استخدام الخيال والمجاز والاستعارات والصور الفنيّة، وليس المقصود عدم صدق المشاعر والأحاسيس والحقائق.
إنّ الدكتور ربحي حلّوم في أعماله الشعرية الكاملة هو شاعرٌ وطنيّ ملتزمٌ صادق الإحساس والمشاعر ويغرف من أعماق ضميره ووجدانه، ولم تستطع السياسة أن تغيّر من مواقفه أو جوهر رؤيته.
إنّ رؤية الشاعر السياسيّ هي أعمق وأبعد نظراً من رؤية السياسي المحض (البحت)، لأنّ الشاعر السياسيّ يضيف إلى معايير قراءته للأحداث معيار الحَدْسِ وشفافية الرؤية إلى جانب النظريات السياسيّة والتجارب التاريخية.
ولذلك نرى الشعراء الذين تشغلهم قضايا أوطانهم وأمتهم يكثرون من تسليط الأضواء على الأسباب التي تؤدي إلى اختلال أحوال الأوطان، وينبهون إلى الأخطار القادمة، وبذلك فإن الشاعر الوطنيّ هو زرقاء يمامة وطنه وقومه، ولا يحقّ له أن يتخلّى أو يتنازل عن هذا الدور.
ومن خلال النظر في الأعمال الشعرية الكاملة للدكتور ربحي حلّوم فإننا نجد هذا الملمح بارزاً، ونجد الشاعر يؤدي رسالته الوطنيّة التي لا تكتفي بإظهار تعاطفه مع البلدان العربيّة التي تعرضت للعدوان الخارجي والظلم الداخلي، بل يضيف إلى ذلك تسليط الضوء على الأسباب التي أدّت إلى ذلك، والتنبيه على الأخطار التي تهدّد الأمّة، وكيفية مواجهة هذه الأخطار والتحدّيات.
لقد كرّس الدكتور الشاعر ربحي حلّوم أعماله الشعرية الكاملة لتناول قضايا الأمّة العربيّة وأوجاعها بدءاً بمعاناة الشعب الفلسطينيّ من الاحتلال الصهيوني مع وقفات طويلة عند القدس وغزّة، ومروراً بمعاناة الدول العربيّة التي شهدت وتشهد احتلالاً وحروباً وفتناً ونزاعات كما في الشام وبغداد، ولم يكن وجع الشاعر ممّا حلّ بفلسطين أكثر من وجعه لما حلّ ببلدان عربيّة أخرى من تدمير واحتلال وإراقة دماء، وذلك إدراكاً منه بوصفه وطنيّاً وقوميّاً بأنّ الأمّة العربيّة واحدة، والوطن العربيّ واحد وإن توزّع إلى اقطار عديدة متناحرة ومتباغضة.
إنّ الحلّ في نظر الشاعر ربحي حلّوم هو باستحضار النماذج المشرقة في تاريخنا المعاصر من الزعماء والمناضلين أمثال جمال عبدالناصر وصدّام حسين، وشهداء الثورة الفلسطينيّة مثل عز الدين القسام وأبي جهاد والشيخ أحمد ياسين وشهداء فردان وغيرهم. وهو يرى في جمال عبدالناصر سيّد كلّ السّادة.
وتكفي نظرة واحدةٌ إلى عناوين قصائد هذه المجموعة كي يتبين للقارئ مدى انغماس الشاعر في هموم وطنه الفلسطينيّ وأوجاع أمّته العربيّة، وإحساسه هو شخصيّاً بهذه الهموم والمواجع والآلام.
فأوّل كلمة في هذه المجموعة هي كلمة (فلسطين) وأوّل قصيدة عنوانها «فلسطين يا جنّة الله في الأرض» وآخر كلمة في الديوان هي (صفد) في القصيدة التي عنوانها (عذرًا صفد)، ولست أدري إن كان ذلك من باب المصادفة أم أنّ الشاعر تعمّد ذلك لكي يوصل رسالة لقارئي ديوانه فحواها: أنّ القضيّة الفلسطينيّة هي قضية الأمّة المركزيّة، وأنّ كلّ ما لحق بالأمّة من عدوان واحتلال وسواه فهو نتيجة عدم الاهتمام الكافي بالقضية المركزيّة.
وعندما يخاطب فلسطين في الصفحة الأولى من الديوان بقوله:
من البحر للنهر أنتِ
فإنّه بذلك يمثل موقف الشاعر، لأنّ الشاعر لا يمكن أن يرضى أن يتنازل عن ذرّةٍ من وطنه أو أن يُبْتَرَ عضوٌ من أرض فلسطين كي يمنح لعدوٍّ غادر.
ولأنّه شاعرٌ ومثقفٌ جذريّ، فإنّ ربحي حلّوم لم يستطع أن يمرّ على مواقف التخاذل العربيّ ومواقف القيادات التي رضيت بالتنازل عن جزء من فلسطين، مرور الرياح، فكان لا بدّ أن يتوقف وينتقد ويَقْسُوَ ويشتم أحياناً، وأحياناً أخرى يقتبس ما قاله مظفر النوّاب فيهم، ففي قصيدته التي عنوانها: لن أفقد بوصلتي، وهي من أطول قصائده، يبدأ بالاعتذار من مظفر النوّاب ويطلب منه أن يعيره قافيته:
عُذراً يا نَوّاب
أعِرْني بَعْضَ قوافيك
فقد جَفَّت كلُّ جداول حِبْري في أقلامي... الخ
إلى أن يقول:
عُذْراً يا نوّاب
فَمَنْ سمَّيْتَ من الأحياءِ الأمْواتِ مجازاً:
أولادَ الفِعْلَةِ
رَوْثُ حظيرةِ خنزيرٍ أطهر من أطهركم
... الخ.
وفي أكثر من قصيدة يتحدّى الاحتلال الصهيوني، ويقول لهم إنّنا على صدورهم باقون، وذلك في القصيدة التي عنوانها: (وهمس فجر عاصف يشي بالانفجار)، والقصيدة التي عنوانها: (على صدورهم باقون). والشاعر رغم كلّ ألمه ومرارته إلاّ أنه يتسلّح بالأمل ويدعو دائماً إلى التفاؤل ويردّ على المتشائمين.
يقع هذا الديوان في خمسمائة وستٍّ وأربعين صفحة وفيه تسعٌ وخمسون قصيدة، وأكثر القصائد مطوّلات قد يبلغ عدد صفحات بعضها عشرين صفحة، ولا يمكن تفسير طول النفس في هذه القصائد إلاّ بعمق مشاعر الشاعر ومبلغ آلامه وما يصفه من آلام وطنه وأمّته. وقد نوّع الشاعر بين البحور الشعرية التقليدية وشعر التفعيلة، مع غلبة الغنائية في بعض القصائد وكأنّها أناشيد للوطن كتبت لتغنّى.
وقد أكثر الشاعر حلّوم من استخدام البحور ذات التفعيلات الكثيرة كالطويل والبسيط والكامل، وذلك لأنها لطولها تتسع للهموم العريضة التي يعبر عنها في قصائده، ولأنها كذلك أكثر رصانةً وملائمةً لطبيعة الموضوعات التي تعالجها.
وقد تركت سيرة الشاعر وارتحالاته بين بلدان كثيرة أثرها الجليّ على الصور الشعرية وموضوعاته، كما تعكس هذه القصائد علاقاته مع رموز ثقافية وأدبيّة عربيّة مثل محمود درويش وعبدالعزيز بلخوجة وجاسر العموري، وعلاقاته مع شخصيات نضالية عربيّة كثيرة أهنئ الدكتور الشاعر ربحي حلّوم على هذا المنجز الأدبيّ الجديد وأتمنى له دوام الإبداع والعطاء.

* أكاديمي وشاعر من الأردن