عرار:

يمثل الشاعر الرّاحل عاطف الفراية (1964- 2013) أحد رجالات الثقافة في الأردن، وقد أبانت تجربته الشعرية عن تفوّق مبكّر ومقدرة فائقة، في الإبداع الأدبي. إنه - بدون أدنى شك - وجه طبع بحضوره المتميز النشاط الثقافي والأدبي لسنوات خلت في بلدنا. وهو يشكّل - برأيي - اسماً أدبيا مهماً في تاريخ الإبداع في الأردن.
إنه شاعرٌ يشبه شعاع الشمس الذي يخترق الزجاج دون أن يلطخه أو يخدشه، وموجة عابرة على سطح المحيط الإبداعي الأردني، ونسمةٌ دافئة، وبسمةٌ حزينةٌ، وفي شعره عبق التاريخ والملح والماء والرعاة، وروائح أعشاب برية عانقت الشمس والهواء.
ويعلّمنا تاريخ الإبداع البشري أن الكتابة الحقيقية لا تنبجس من فراغ، ولا تنسلخ من الجاهز ومن رماد السائد وإنّما تقف على أرضية المشكلات الكبرى التي تطرحها الثقافة وهي تستقبل فجر المعنى المرتبط بتاريخيتها الخاصة، في محاولة لتجاوز مآزقها الخاصة واحتضان زمنها وإيقاع لحظتها. وبمناسبة اليوم العالمي للشعر، فإنّني أقدم اليوم شهادة للتاريخ لا تستند إلا إلى معايير الإبداع والإضافة والانخراط في فضاءات الأسئلة المرتبطة   - ضرورة - بكل مغامرة إبداعية كبرى.
وعاطف الفراية – عليه رحمة الله- واحدٌ من ألمع شعراء القصيدة الجديدة في الأردن. فقد كانت بداياته الأولى مبهرة سواءٌ في مضامينها أو في اكتمال بنيتها الفنية. وليس غريباً أو مفارقةً أن يعمد الشاعر إلى تسمية مجموعته الشعرية الأولى – حنجرة غير مستعارة – وما تحمله هذه التسمية من رمزية خفية يكشف معناها عن حقيقة مستوى العمل الإبداعي الذي يتباهى باكتمال نصوصه وتميزها وقدرتها على التجاوز والتأسيس.
لقد جاءت قصائد عاطفٍ الأولى منذ البداية مكتملةً ناضجة، سليمة النطق مستوية البناء مغلفة بغيوم شفافة من الرمز اللغوي والفني، ففي هذا الديوان نجد في شعر الفراية غير قليل من الحقائق التاريخية والجغرافية، فضلاً عن الغوص في سديم الطقوس وفي ثبج الأساطير القديمة، وقد ظلّ عاطف – عليه رحمة الله- طوال عمره  القصير وفيّاً لهذه التجربة البكر، ولم يتبرأ منها أبداً، بل إنه أعاد نشر قصائدها في جميع أعماله الشعرية اللاحقة، فقد أعاد نشر قصائدها في ديوان «حالات الراعي» والصادر عن دار أزمنة في عام 2011م، وأعاد نشرها أيضاً في ديوانه الأخير»أنثى الفواكه الغامضة» والصادر عن دار فضاءات في عام 2013م، ومن قصيدة «حنجرة غير مستعارة» التي أخذت المجموعة الأولى عنوانها نبدأ مقاربتنا لهذا المبدع التسعيني:-
«أنا يا صديقة من طلح هذي الصحارى
ومن ملح هذي البلاد
ومن صمت كل الجياع
فحين تزاوج دمع الندى
بالأقاح الحزين
ومالت سنابل أرضي حبلى...
وعند امتزاج دموع الثكالى
بريش الطيور التي سرق
الخائنون فضاءاتها...
افرز القمح نطفة بؤس
رماها على بيدر هذا الضياع
فألقت بها الذاريات على جبل الملح
 فامتزج الجوع بالحزن
حتى غدت مضغةً
ثم عظما...
ولم ينبت الحلم بين نيوب السباع
وغطى الزمان العظام من العري بالرمل
حتى ولدت ككل الرعاع
كبرت على صمت هذي الصحارى
شربت عصارة حنظل أرض الحيارى
فافرز طعم المرار بحنجرتي لحنها
وتوالت علي الحناجر
لكنني...
رغم هذا المرار
زجرت الحناجر عني
وصرت أغني
وما كنت صوتاً لغيري
وما كنتُ يوماً صدىً مستعارا....حنجرة غير مستعارة، ص13- 15».
ويلاحظ أنّ هذا الشاعر قد فاجأ الأوساط الأدبية في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وهو بعد شاعر مبتدئ خاصة فيما يتعلّق بالمواضيع التي كان يختارها لشعره، وتعريته لحقائق الحياة، فضلاً عن جمالية صورته الشعرية، وأخيلته الخصبة، فأعماله الشعرية مكتوبة بلغةٍ نابضةٍ وعاطفةٍ متأججة، وعمق كبير. وفي شعره أبيات تعتبر علامات ثابتة، وصور مرصوصة في طريق الزّمن، في حين أنّ له أشعاراً أخرى تنمو وتتحرّك وتتغيّر من قارئ إلى قارئ، ومن زمن إلى زمن آخر:-
«لإيلافك الرمل...
رملك سجادة للصلاة
وحر هوائك برد سلام
وموتك يستأنس الغور منه حياة الأبد
فها أنت ميت...
ولكنك السرمدي المدد
غريب ولست ككل البحار
فلا «الهيلا هيلا»
ولا مركب الصائدين
ولا شاطئ يحضن الزائرين
هو الملح يصطاد كل الجياع
وملحك في زمن الحر ثلج جمد.
هو البحر ميت...
وفي الغور يتمٌ طويل الأمد...حنجرة غير مستعارة، قصيدة: حوارية الملح، ص17- 18».
وتظهر تجلّيات الفراية الشعرية في شكل تعامله مع اللغة حيث نجدها عنده لغة هادئة واضحة، إلاّ أنها في نفس الآن لغة موفية صاخبة. وفي ديوانه الثاني «حالات الراعي» بدأ الشاعرُ مرحلة جديدة في شعره تتّسم بالسخرية والتهكّم، وبصراحة وجرأة في نقده ورؤيته للمجتمع، وكانت قصائده بمثابة مفاتيح سحرية لعالمه الشعري، ورؤاه البعيدة الغور. يقول الشاعر في قصيدة «جوع»:-
«عطشَتْ...فأجريت دموعي
في ثراها منهلاً عذباً/ وأعلنتُ حدادي..
نادت...فألقيت الوريد بارضها دهرا..
وأظمأت فؤادي../ وأتي زمان الجوع..
...ما جاعت..
ولكن- بعد أن شربت دمي-
 أكلت بثدييها بلادي...حالات الراعي، قصيدة: جوع، ص11».
وللشاعر في مجموعته الثالثة «محاريب الأنثى» عدد من النصوص القصيرة الفاتنة، وكل نص فيها على شكل لوحة من القطع الصغير، تضيءُ فيها اللغة وتنداح تراكمات المعنى في مزيج من الخيالي والواقعي، الوجودي والإنساني. وليس المهم المساحة التي تأخذها اللوحة– القصيدة-، بقدر ما تبعثه صورها الفريدة المغايرة في النفس من أحاسيس وخلجات:-
«لماذا على الشُّعَراءِ
إذا جاعَ نصفُ الرّغيف إليهم
 أو اشتاقت الأغنياتُ لأصواتِهمْ
 أن يمدّوا الصّهيلَ
 غناءً لمن يملِكُ القمحَ
 والأغنياتْ؟
نأكلُ الخبزَ حتى يعيشَ
ونلهثُ خلفَ الغناءِ
لنحميَهُ من جنونِ
 البغاةْ.
....
لماذا إذن
نحن من يرحلونَ سريعاً
ويَكْبُرُ بُنْيانُ من يَسْرِقونَ
الحياةْ ؟....أنثى الفواكه الغامضة، قصيدة: شُعَراء، ص23-24».
لقد كتب عاطف الفراية قصائده الأولى في مرحلة عاصفة بالأحداث والمتغيرات السياسية ومنها:- «معاهدة السلام واحتلال العراق والعولمة وتداعيات الربيع العربي». كما أن غالبية قصائده قد كتبت تحت تأثير غربة المثقف المكانية والزمانية. والأمثلة في شعره على ذلك كثيرة ولعلَّ قصيدته الملحمية «بركان الحمام» التي كتبها عام 1994م خير شاهدٍ على ذلك. والتي يقول في مطلعها:-
«تعبٌ تناثر في شظايا النهر، لملمت السراب وصحت بالعطشى
أنا الجريان والأسماك نائمةٌ بجوفي، والهواء معلق بين الأصابع
والهوى نحلٌ يفر غلى البياض جناحه وجع التذكر في الخريف
كأنه رقص الغمام
تعبٌ تناثر في ثنايا الرمل...ها قدحي على نار الهواجس في
فمي جمر، وكفي قشرة البلح المعتق في فم التنين، حمى
التوت شهقات على جمر الوحام...حالات الراعي، قصيدة: بركان الحمام، ص44».
ولم يكن عاطف الفراية – عليه رحمة الله - يتعاطى مع الشعر بوصفه الوسيلة الوحيدة للتعبير وهندسة التلقي، وبوتقةً لاختبار إمكانيات اللغة، ومنصةً لجدل الأفكار، ووعاءً لتأمل الوجود، بل يتعامل مع النص بوصفه غاية في ذاته وليس جسراً هشّاً يقود إلى الارتماء في أحضان الجاهز المؤسّسي. بل إنني أجزم من خلال معرفتي الوثيقة الصلة به وبتجربته الشعرية أنه كان يؤمن أن للإبداع قيمة في ذاته بوصفه كشفاً وفتحاً لأقاليم جديدة تثري رصيد الحساسية الإنسانية وتغني مغامرة الإنسان الباحث دوماً عن ألفةٍ مع العالم والأشياء خارج نظام القمع والرقابة؛ وكان يدرك، أيضاً، بحسه الشاعري المرهف، أن الإبداع ليس تاريخ المباركة وإنما هو تاريخ التجاوز والانعتاق من المعنى الذي تفرضه القوة إلى قوة المعنى المنبثق بفعل الكتابة بوصفها عيداً لا يتوقف عن اقتراف البدايات.
لقد كان عاطف مثقفاً استثنائياً لا يبارك العالم كما ورثه في صيغته السياسية والإيديولوجية. هذا ما يفسّر، ربما، عدم ركون كتاباته الشعرية إلى القول المباشر الذي لا ينفذ إلى جوهر العالم ولا يسافر إليه عبر اختراق القراءات المطروحة عنه ومساءلتها، وإنما كان يرفض أيضاً قراءات العالم التي تحددها الجهات المأذونة وتصادق عليها عائلة الثقافة المقدّسة. وعليه، فإن قراءة التجربة الشعرية عند الراحل عاطف الفراية تتطلب الذهاب الى منهج متوازي يقارب بين المناخات الفنية للقصيدة والمناخات الثقافية والفكرية المحيطة.
ويجد  المتأمل لأعمال عاطف الفراية نفسه أمام تجربة شعرية جديدة، مملوءة بالتميز والفرادة...وهذا يدلُّ دلالة واضحةً وقاطعةً على أَّن الشاعر يمتلك ثقافةً متنوعةً.. ورصيداً فكرياً وأنثروبولوجياً واسعاً.. مما أفرز لنا تجربة شعرية متراكمة عبر مراحل عدة من حياة ومواقف الشاعر الثقافية والفكرية..
كل هذا الكم المعرفي والثقافي والأدبي ساعده أن يخطو بالقصيدة خطوات متسارعة ومتطورة الى الأمام.. فجاءت قصائده ذات مسافات متوترة.. وفجوات متباينة.. وفضاءات متعددة.. مرةً صاخبة.. ومرةً هادئة.. حتى وصل بالقصيدة الى مرحلة النضج... وتفكيك العبارات.. وتأجيج الالفاظ.. وتفجير المعاني.
أردت أن أقول من خلال هذا إن الشاعر الراحل عاطف الفراية شاعر وطني أقام في فضاءات الكتابة بوصفها وطناً لازوردياً ينفخ في قصب الكلمات أسرار الخلق والمعنى الذي يعتق فينيق الذات المبدعة من رماد المؤسسة الثقافية، ومارس الصعلكة الثقافية ورفض طوال عمره القصير أن يكون مثقفاً يفكّر من داخل المؤسسة الرسمية، ولهذا ظلّ أدبه منخرطاً في الهم العام بوصفه همّاً مقدّساً. وكان الفراية مثقفاً ثورياً نقدياً، سمح لنفسه بأن يعيد النظر في كل شيء.
الشعر، بهذا المعنى، لغة مغايرة ومناهضة للثقافة التي هيمن عليها الخطاب الإيديولوجي الأحادي. ومن هنا، فإنني أعتقد أن المتأمل الحصيف في ما تركه الفراية من آثار أدبية يستطيع - دون كبير عناء - أن يقف بنفسه على ما أقوله الآن.
أردت أن أقول كل ذلك كي تكون دراستي عن الشاعر الرّحل عاطف الفراية شهادةً للتاريخ ومدخلاً إلى قراءة ظاهرة المثقف الاستثنائي في الأردن المعاصرة، مشيراً إلى أن الفراية قد أدرك مبكراً أن جوهر الإبداع يكمن في الانحياز إلى الكتابة الصادقة الجريئة بوصفها سؤالاً وبحثاً ووعداً بإنتاج معادل موضوعي للعالم في أفق الكشف المضيء من أجل قول الإنسان والأشياء.
نخلص مما سبق إلى ما أكدناه أكثر من مرة في هذه الدراسة وهو أن «عاطف الفراية» يمتلك رؤية واضحة تجاه العالم والأشياء، ويغلب على شعره الطابع الرومانسي الملحمي الواقعي، وهو يمتلك مميزات وخصائص تجعل له ملامح مختلفة وتكسب صوته نكهة مميزة بالنسبة إلى الآخرين. وأختم دراستي بقصيدة «موت» والتي يقول فيها:-
«عندما مت
صارت الأرض باردةً تحت
أوزارها
ثلجها يحرق الشمس
يا حسرة الكون ما ظل شعرٌ
يضيء الوجود
لأني أنا خاتم الشعراء....حالات الراعي، قصيدة: موت، ص30».