|
عرار:
قلت لكم وأقول اليوم أيضاً: من الصعب جداً أن نقرأ ما في فكر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم سياسياً أو اقتصادياً أو أدبياً، فإذا كان الدارج بين الناس أن المعنى في قلب الشاعر، فإن الأمر يختلف مع سموه، فهو كلما خطر من التكهنات ببالك، فما في ذهنه وفكره غير ذلك. نعم.. أجزم يقيناً بأني أعرف ما في قلبه ولا أعرف ما في ذهنه، أعرف أن قلبه مليء بحب الخير للناس ولا يكره أحداً ولا يفرق بين بني البشر، ولكني لا أجزم على سبيل المثال بأن هذا العتاب موجه إلى فلان أو فلانة، فكلمة عتاب جاءت من غير أل التعريف، والمعتوب لم يحدد، وكلمة يا شاغلة ــ ولاتضيعي ـــ وونتي ــ قد يكون المراد بها النفس وقد يكون الأمة أو الدولة أو الهيئة أو الشرق أو الغرب. كما لفت نظري في هذه القصيدة عنوانها قبل كل شيء (عتاب) والعتاب أصبح اليوم من أغراض الشعر، أما في الجاهلية فكانت أغراض الشعر تقتصر على المديح والغزل والفخر والرثاء والهجاء. ولما جاء العصر العباسي ظهر العتاب كغرض جديد بجانب الأغراض الأخرى التي ذكرناها، ودوافع العتاب كثيرة، وهو مثلما يكون نثراً يكون نظماً، ومرتبته بين بين، كأن يلوم العاتب المعتوب من غير أن يوجعه، لأنه إذا زاد على هذا الحد انقلب إلى هجاء. فالذي تحبه أنت لا تريد أن تقطع حبل الود بينك وبينه، ولا تريد أن ينظر إليه الناس بعين النقص، لذلك ترشده إلى عيبه بطريقة غير مباشرة والمؤمن مرآة أخيه المؤمن، والشاعر يقول: أعاتب ذا المودة من صديق إذا مارا بني منه اجتنـــاب إذا ذهب العتــاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتـــاب ورحم الله شيخنا الشيخ محمد نور بن سيف بن هلال من دبي ثم صار من المدرسين في المسجد الحرام بمكة المكرمة، كان يدرسني ويقسو عليّ أحياناً، فإذا شعر بذلك قال: ما ناصحَتك خبايا الود من رجل ما لم ينلك بمكروه من العــــذل محبتي فيك تأبى عن مسامحتي بأن أراك على شيء من الزلل بلاغة الصمت ويذكر ابن رشيق القيرواني في كتاب العمدة أن قواعد الشعر أربع: الرغبة والرهبة والطرب والغضب، فمع الرغبة يكون المدح والشكر، ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف، ومع الطرب يكون الشوق ورقّة النسيب، ومع الغضب يكون الهجاء والتوعد والعتاب الموجع. وعندما نقرأ للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم قصيدته بعنوان عتاب، نستحضر ما قاله أهل الاختصاص، فشاعرنا الكبير يتفنن في قرض الشعر، وهو متمكن من أغراضه، وهو إن صنفناه ضمن الشعراء فهو الأول عليهم وهو الذي يسمي في عرفهم بالخِنذيذ أي الذي يجمع إلى جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره. نعم.. وفي قصيدة شاعرنا اليوم نلمس النضج الفكري لدى الشاعر، ورقي التعبير ووفرة المعاني، وبلوغ الغاية، وتراكم الخبرة والعلم بطبائع الناس، والتروي في الحكم عليهم، وإعذارهم قبل إنذارهم، ولا يصدر مثل هذا الحكم المتأني إلا من حكيم خبر الناس وخالطهم وتعرّف إليهم من كثب. ونرى بأن الشاعر ليس قصده العتاب واللوم فقط، بل في الوقت نفسه يريد أن يوجه الناس إلى ما ينفعهم إلى الاستفادة من الوقت والابتعاد عن الغوغائية، والنطق بالحكمة، ففي الحديث الشريف: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت. والشعراء الحكماء عادة لا يحبذون الثرثرة في القول نظماً أو نثراً، لأن الكلام إن لم يكن مفيداً ويقال في المكان المناسب والزمان المناسب فإن الصمت أبلغ والشاعر العربي يقول: ما إن ندمتُ على سكوتي مرة ولقد ندمت على الكلام مرارا عيوب النفس والناس وفي هذه الأبيات كأنه يريد أن يقول لنا: إن الله خلق الناس قسمين: منهم السعيد ومنهم الشقي، فيا من تراقب الناس راقب نفسك أولاً، ويا من تشتغل بتغيير طبائع الناس خير لك لو اشتغلت بالتكيف مع الواقع، والاستفادة من الزمن المتاح والفرص المتاحة، ثم النظر إلى الناس بعين الرضا لا بعين السخط ففي ذلك يقول: يا شاغله نفسك على غيـر طايـــل لا تضيعي وقتي وأنا عنك مشغول عندي على ما كـــان منك دلايــــل وكل حد عن شي يسويه مســـؤول وكثــــــر الكلام بين قلت وقـــــايل ما يفيد لأن الطبع في الضلع مشكـول هل يستقيم الظل والعـــــود مايــــل والناس دوم أجناس عالي ومجهول نعم، صدقت يا صاحب السمو، أولى بنا أن ننشغل بأنفسنا وفينا من العيوب ما يشغلنا، ولا نكون كما قال المثل: عيوبي ما أراها وعيوب الناس أجري وراها. وإن من ينظر إلى الناس بعين النقص ينظر إليه الناس من غير شك بعين النقص، وقد قال الشاعر قديماً: مثل الجـــاهل في إعجابـــه مثل الناظر من أعلى الجبل ينظر الناس صغارا وهو في أعين الناس صغيرا لم يــزل إنجاز وإعجاز فالمطلوب إذن أن نعمل فننجز ونقول فنوجز، ونبدع فنُعجز، لا أن نملأ الدنيا بالجعجعة من غير أن نرى طِحنا، وها هو رجل مثل الحكيم الرازي يقول بعد كل أبحاثه: نهاية إقدام العقــــــول عقـــــال وغاية سعي العالميــن ضـــلال فلم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقـــال ثم يوجه الشاعر الأمة إلى التفاؤل كعادته، إذ ربما فهم بعضهم مما سبق من الأبيات بأن الإصلاح ميؤوس منه وأنه ليس بالإمكان أصلح مما كان، كلا فهو لا يدعو إلى اليأس ولا يصنع الإحباط، لكنه رجل يعيش الواقع وينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق، فيقرأ ما بين السطور، ويدعو إلى الاحتكام إلى العقل والمنطق والحكمة لا الاعتداد بالنفس والغرور. كما يعــِد شاعرنا الحكيم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الأمة بإيجاد حلول مناسبة لمشاكل العصر، إذ لا يوجد داء من غير دواء، وفي الحديث الشريف ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء إلا السام أي الموت. إذن.. فإن مشاكلنا وإن استعصى علاجها في زمن فإن زمناً آخر كفيل بعلاجها، المهم أنك لا تعيش متواكلا بل متوكلا على الله وآخذاً بالأسباب، والأولى أن نتحد لنستفيد من خبرة الجميع، فهموم الأمة لا يستبد بها فرد إذ ربما هو لا يكون صاحب الرأي الحكيم ويوجد في الأمة من هو حكيم، فلماذا لا نقف خلفه، وقد قال أحد الشعراء: دع المقادير تجــري في أعنتهــــا ولا تبيــــتن إلا خــــــالي البـــــال ما بين طرفة عيــــن وانتباهتهــــا يغيــــر الله من حــــال إلى حـــال فكن مع الناس كالميزان معتـــــدلا ولا تقولنّ ذا عمـــي وذا خالـــــي فالعم مَن أنت مغمــــور بنعمتـــــه والخال مَن أنت من أضراره خال أخلاق المسؤولية أجل، مهم جداً أن يعيش الإنسان يومه ولا يعيش يوم غيره، فالله خلق الناس أطواراً، وخلق القرون المتعاقبة بأشكال مختلفة، ولكل عصر ما يناسبه من العقول والهمم، ومن يناسبه من الرجال والقيم، لذلك قال الإمام علي رضي الله عنه لا تجبروا أولادكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم، والشيخ محمد بن راشد يلخص لنا هذه الفلسفة في أبياته الأخيرة من قصيدة عتاب فيقول: ونحنا اكتفينا وما تفيــد الرسايـــــل وما عندنا مشكل له تدور حلــــول وكل وقت له ناسه وعندي بدايـــل ونتي زمانك مر بالعرض والطول حدّ عتابه يكون ضرب المثــــــايل وحدّ عتابه إنتبا ذكـــره يـــــــزول و بعد هذا فإن ما يريد أن يصل إليه سموه أن كل إنسان مسؤول عن تصرفاته، ولا تزر وازرة وزر أخرى، فإذا تولى القيادة من لا يتقن الأمور فلا يلومنّ إلا نفسه، واليوم نحن نعيش عصر الثورة المعلوماتية والفكرية والصناعاتية، ووصلنا في دولة الإمارات إلى حد اختفت الأمية بنسبة 98 % تقريباً، ومن ثم فإننا بلغنا مبلغاً نستطيع أن نعرف العدو من الصديق، ونفرق بين من يعلم ومن لا يعلم، بل وأصبحنا نصدر الأفكار الرائدة إلى دول العالم. ومن ثم من قال في الأمة لا أدري لا نعذره، ومن قال لا أفهم لا نعذره أيضاً، وإذا كان هناك من يقول لا أدري ولا أفهم فليترك المجال لمن يفهم، ليعالج مشاكل العصر بما يلائمها من الحلول، ولا يجوز أن نعيش في القرن الحادي والعشرين حياة ما قبل الميلاد، ونجد أمامنا كل هذه الفرص والتقنيات والوسائل، ولا نستفيد منها في حلول مشاكلنا لماذا؟ لأننا عقول متحجرة منغلقة أمام تقلبات الحياة. مع العلم بأن القرآن الكريم خاطبنا بقوله: أفلا تعقلون - أفلا تبصرون - قل سيروا في الأرض فانظروا، وصدق الفيلسوف الذي قال: أسوأ الناس حالاً من بعدت همته واتسعت معرفته وضاقت مقدرته. فلنحلّق مع شاعرنا المتفائل بالحياة في سماء العلم والعمل، ولنقلل من عتب الآخرين والتغلغل في الجدل، ولنعذر الناس أهل الخبرة والحكمة والمثل، ولا نقف في طريقهم حجر عثرة كالعلل، فإن أعقل الناس أعذرهم للناس، ولنعط القوس باريها، والشاعر يقول: إذا كنت في حاجة مُرسِلا فأرسِل حكيما ولا توصِه وإن بابُ أمر عليك التَوى فشاورْ لبيبا ولا تعصِه المصدر : البيان الامارات الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الإثنين 08-05-2017 10:15 مساء
الزوار: 1258 التعليقات: 0
|