القبض على الهوية في «أوراق من المنفى» للكاتب محمد حسين
عرار:
بديعة النعيمي الحنين مقطوعة تعزفها نوارس القلب عند كل سفر نحو الغروب.. معزوفة مكررة لا يمل العاشق من عزفها على نشيد العودة. الهوية ليست ابنة اللحظة بل هي نتاج تفاعل مع التاريخ، وهي ملازمة للسياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يمر به المجتمع. لم تتعرض أي هوية قومية في العالم لمثل ما تعرضت له الهوية الفلسطينية. ولو تتبعنا تبلور هذه الهوية منذ الانتداب البريطاني لوجدنا أنه قطع تبلورها الطبيعي الذي كان قد بدأ منذ قرون ثم بدأت تواجه الحركة الصهيونية وما رافقه من مجازر واقتلاع واحتلال وإحلال عمل بكل طاقاته ليستلب ثقافة وإرث الشعب الفلسطيني، ومن هنا بدأت الهوية الفلسطينية المعاصرة بالتبلور كردة فعل في مواجهة خطر الطمس من أجل تأكيد الذات. ومن الطبيعي أن يصبح البعد الوجداني والذاكرة الجمعية والرموز كالمخيم والمفتاح بمثابة الهوية ومجال تبلورها في خضم غياب الأرض والنفي والتشري،د ثم بعد ولادة التنظيمات الفلسطينية أضيفت رموز جديدة مثل الفدائي والبندقية. لكن بعد اتفاقيات أوسلو والتي قطعت ذلك التبلور كان من الطبيعي أن تصبح الهوية الشغل الشاغل، وخصوصاً في الأعمال الأدبية، حيث سعى الأدباء من خلال هذه الأعمال إلى إعادة صنعها. فمن الأدوار التي لعبها الأدب الفلسطيني على اختلاف أنواعه تعزيز الانتماء الوطني، وإثبات الهوية الفلسطينية عن طريق إبراز مكوناتها الثقافية والأدبية والحضارية والتراثية، والتي تعد جزءا من بناء الهوية. وقد سعى الكاتب الفلسطيني محمد حسين في أوراق المنفى إلى إثبات هذه الهوية، من انتفاضة خاصة هي انتفاضة الحروف التي قامت لتصنع رصاصا يوجهه إلى العدو بنادق ورشاشات لا تهدأ ما دام الحنين إلى فلسطينه لا يفتأ من قرع طبوله المليون وحنينه لن يهدأ إلا باللقاء. ركز محمد حسين في نصوصه على المكانة الدينية والتاريخية والقومية التي تمثل الهوية الفلسطينية وإثباتها أمام محاولات الطمس والتحريف والتشويه التي يقوم بها العدو بحق الإرث التاريخي الفلسطيني؛ ما يهدد الوجود والهوية العربية في فلسطين، فنجده في النص الموسوم بـ «الفتى» يقول: «أطلق رصاص يديك يا فتى التاريخ أنشد قداديس الفدائي الأول كبر في الأقصى ليبتهل الأموي لينهض الكنعاني ملكي صادق عن كرسيه» فالكاتب هنا يستنهض الفدائي الأول الصادق مع فلسطين قبل الانقسامات، عندما كان الشعب على قلب رجل واحد ولم تفرقه المعاهدات بعد. ثم في النص نفسه يذكر الفتى وهو الذي يمثل جيل الشباب ويستنفر همته من خلال تذكيره بقدسية أرضه بأنبيائها وتاريخها وأبطالها المسلمين فيقول: «يسأل عن مغارة المهد وسيف صلاح الدين ومفتاح عمر لا ترتعد أيها الفتى أطلق ما تبقى من صوتك للمدى فأنت مثقل بالتاريخ والأنبياء» ويؤكد في النص نفسه على دولة المحتل وأنها ومضة ستنطفئ. ومن التجليات التي يلمسها المتلقي لأوراق المنفى التجلي الوطني، فقد وظف الكاتب القيمة الوطنية في أوراق المنفى عندما استدعى قيامة الفدائي الأول الصادق مع فلسطين قبل الانقسامات عندما كان الشعب الفلسطيني على قلب رجل واحد ولم تفرقه المعاهدات بعد. ففي النص الذي سبق ذكره والموسوم بـ «الفتى» نجده يقول: «أطلق رصاص يديك يا فتى التاريخ انشد قداديس الفدائي الأول» فوجود الروح الوطنية تسهم في المحافظة على الوطن من كل اعتداء وكثافة العقل الوطني تدل على التضحية والفداء في سبيل تحرير الوطن، فذوبان الروح واختلاط الجسد بالأرض والوطن يجسد حالة العشق لدى الفلسطيني، وقد اتضح هذا في أكثر من نص؛ ففي النص الموسوم بـ «همسات» يقول الكاتب: «وأنت تجدلين أنفاسك من صلصال الأرض» فهذا الالتصاق لا يدل إلا على حالة العشق لفلسطين. والأرض تمثل النواة الحقيقية له على ثرى فلسطين، فهي أصل الهوية الفلسطينية. ثم نجد الكاتب يتحدث عن الهوية الفلسطينية ويربطها بالهوية العربية الشاملة؛ ففي النص الموسوم بـ «أحلام» ولعله الحلم العربي الذي يتمناه، نجده يقول: «يقبض التاريخ على التاريخ قرب التاريخ ويصرخ (سوريانا) أعيدي أصابعك المقطوعة لينام وجه الغروب على وسادة دمشق لتشرق شمس الصباح على جبين القيامة والأقصى وتبلل بيروت جدائلها بالمطر وينبلج الفجر على كتف عمان» فالكاتب هنا ينظر إلى الهوية الفلسطينية ضمن إطار عربي أوسع وأكثر شمولية. كما قام الكاتب بالتأكيد على الهوية الفلسطينية من خلال الإتيان على ذكر التراث الفلسطيني، وقد استعان بالذاكرة الفطرية من أجل إعادة بناء الوطن المفقود. ففي النص الموسوم بـ»وجع» يقول: «فأنت تشبهين تنور أمي وقبضة المفتاح دثريني بثوبك المطرز بالوجع» فالثوب والمفتاح أصبحت رموزا كما الزعتر الذي أتى على ذكره في أكثر من نص مثل «لمن سأقول». وقد وظف محمد حسين تقنية التغريب فوظفها توظيفا جيدا لطرح مسألة الهوية في أكثر من نص ففي النص الموسوم بـ «ليس لي» يقول: «فأنا غيمة تركض في سماء ليست لي» فالكاتب يشعر بالاغتراب وهو خارج فلسطين فحتى السماء التي لا تغطي أرضه ليست له.. وفي نص آخر بعنوان «رؤية» يقول «فمدي يدك على زنار غربتنا». وفي «بيت» يشعر بالاغتراب بسبب المعاناة التي سببتها بيوت المخيمات من حيث هي بيئة غير صالحة للعيش فيقول: «بيت الطين يئن تحت رشقات المطر تتسلل نقاطه في غفلة الليل لتشكل دوائر الحيرة والصمت... صحن هنا وآخر هناك» أما في نص «لا تعبر» فيرفض سلام الاستسلام الذي تسبب في تفكك الهوية الوطنية الفلسطينية وسط الانقسامات، فنجده يعبر عن مشاعر الرفض فيقول: «إن هذا السلام سيحولنا إلى حفنة من التراب يا ملك الانتظار. لا تعبر» فالبحث عن الهوية والقبض عليها هو نوع من الصراع الغريزي على البقاء. والوطن عند الكاتب حلم ولاد لا يعتريه العقم ولو طال عليه الزمن.. ففي «أعطني حلما» يقول...يا امرأة الحروف المزنرة بالنار والثلج أعطني حبة من رمالك لأبني منها بيتا فوق ظلالي أعطني حلما بطعم الحياة لأمسح عن جبينك رقصات الخوف».... وبقي أن نقول إن كلمات محمد حسين انبثقت من قلب المأساة، كلمات تمس شغاف القلب وتشعل بداخله ثورة لا تنطفئ من حب حد العشق لفلسطين وكره لعدو اغتصب الأرض والأحلام. كلمات تخاطب أعماق الضمائر الحرة في زمن عزت فيه.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 26-01-2024 10:13 مساء
الزوار: 279 التعليقات: 0