شـعـراء: ربما يتخذ الشعر استراحة المحـارب في هذا الظرف لكنه سيعود أكثر ألقا
عرار:
عمر أبو الهيجاء
بقي الشعر، الذي يحتفل العالم أجمع بيومه العالمي في الحادي والعشرين من آذار من كل عام، على مدى القرون السابقة الحاضن الأكبر للتاريخ الإنساني والمؤرخ لحركة الحياة الإنسانية على كافة الصعد، فكان الملجأ الوحيد المعبر عن شجونهم وشؤونهم الداخلية، والمعبر أيضا عن الأزمات والكوارث التي بها العالم وما يمر به في اللحظة الراهنة من جائحة كورونا وتداعيات هذا الفيروس المستجد الذي فرض أجنحة الموت على الجميع. «الدستور» استطلعت آراء الشعراء وسألتهم كيف ينظر الشاعر إلى الشعر في يومه العالمي، في زمن كورونا وتداعياتها؟
1- الشاعر والناقد د. إبراهيم السعافين
يأتي اليوم العالمي للشعر في ظل الأجواء الحزينة التي تخيّم على العالم بسبب جائحة كورونا، فلا مهرجانات ولا احتفالات ولا منصات ولا لقاءات، وبات كثير من الناس يشعرون بالقلق والغربة والاغتراب بل الاكتئاب، بيد أنّ هذه الجائحة على الرغم من نتائجها القاسية كان لها أثر إيجابي من الناحية الثقافية؛ فقد استجاب الأدباء والفنانون لآثار هذه الجائحة وعبروا بأدواتهم المختلفة عنها. وهذا الأمر ليس غريبًا، فطاعون ألبير كامو كان صدى لاستجابته لطاعون الكوليرا في مدينة وهران الجزائرية. أمّا فيما يتّصل بفن الشعر فكانت الجائحة عاملًا قويًّا في استجابة الشعراء لهذه الفاجعة الكونيّة التي خنقت حريّات الناس وباعدت بينهم وتسببت في فقد كثير من الأحبة والأصدقاء وحالت بينهم وبين إلقاء نظرة الوداع عليهم، وجعلتهم يتأملون فعل المأساة من الناحية العاطفية والفلسفيّة. تجعل الكوارث المفكرين والأدباء والفنانين والمثقفين يتأمّلون الحياة الإنسانيّة من خلال رؤية خاصة، وليس غريبًا أن نراهم يقفون أمام غطرسة القوة وصلف الشر والأشرار متسائلين عن جوهر الفعل السلبي في تراكم عناصر القوة العدوانية بدءًا من سباق التسلّح لإخضاع الآخر ونهب ثرواته ومحو ثقافته دون سند قانوني أو أخلاقي إلى اختراع ما هو مهدد بفناء البشرية مثل الأسلحة النووية والهيدروجينية والبيولوجية دون وازع من خلق أو ضمير، فأيّ علم أو تقدم مرهون بسيادة الشرّ والموت والقتل، وكأن العالم في مباريات: أيّهما أقدر على شنّ الحروب واستعباد البشر ثم إفنائهم عن بكرة أبيهم؟
2- الشاعر أكرم الزعبي رئيس رابطة الكتاب للشعر بريقه وألقه الخاص، وله ذلك الإيقاع الذي يتميز به، خاصة إذا ما كنت تستمع للشعر من شاعره وجاهيا في أمسية أو جلسة بين الأصدقاء، هنالك إحساس في كل قصيدة لا يصلك إلا من شاعر هذه القصيدة. ها هو العالم يكمل عامه الأول مع جائحة كورونا التي أصبحت هاجس سكان هذا الكوكب كله، بكل ما فرضته هذه الجائحة من ثقافة خاصة بها، ومن أنماط سلوكية صرنا مجبرين على الالتزام بها، بعضها طوعًا وبعضها الآخر جبرًا، ومن قيم اجتماعية جديدة بعضها كنا نتمناه ونرغب بتغييره من سنوات، وبعضها نمارسه ونحن مثخنون بالأسى، لكننا لا نملك لتغييره سبيلا. لقد ساهم التباعد الاجتماعي كثيرًا في الحد من الأمسيات الشعرية، وبالرغم من محاولة تعويض ذلك عبر المنصات الإلكترونية إلا أن الواقع العملي أثبت فشل هذه التجربة، لأن التفاعل المباشر ما بين الشاعر والمتلقي مفقود، وبالتالي فإن الأمسيات الإلكترونية جامدة لا روح فيها ولا يعيش الشعر في البيئات الجليدية ابدأ، ومع ذلك فإنني أعتقد شخصيًا أن الشعر ذاته يتقدم بالاعتذار من كل محبيه في يومه العالمي، ويحمل باقات الورد الخجولة من دون كلمات للأم في عيدها وللكرامة التي نستعيد ذكراها في هذا الوقت العصيب الذي نتمنى أن ننتصر فيه كما انتصرنا في الكرامة في معركتنا الحالية مع فيروس كورونا. الشعر هو الشعر، وستظل أيامنا هي أيامنا، وربما يتخذ الشعر استراحة المحارب في هذا الظرف، لكنه سيعود وستعود أيامه أقوى وأكثر ألقًا وإشراقًا من ذي قبل، لأننا جميعًا متعطشون لاستعادة ما فقدناه خلال عام كامل من الخوف والحذر والترقّب.
3- الشاعرة رانة نزّال
هي سنة تفصلنا عن تلك اللحظة التي انكفأ فيها العالم على نفسه، وأغلق أبوابه على من فيها، وحدّقنا كلنا بكلِّ ألواننا وأطيافنا وعقائدنا ومناهجنا في الدّاخل، في تلك اللحظة تجلّت لنا جميعاً حقيقة الذّات في مواجهة الآخر الغريب، وحاجة الذّات لمن يشبهها في مواجهة الجرثومي الفيروسي الذي يتسلّل عبر الأنفاس، ليهدّد الأرواح والأنفس وليشق علينا في مجابهة غير مسبوقة صار فيها لكلّ شيء بعد آخر، بعد ثالث وصار للشعر طعم آخر أعمق، صار عندي أيقونة الحياة بعيداً عن بهرجها وزيفها، والبعد النّوارني وسط هذا الانقطاع هو حديث الذّات مع الآخر في أرقى صورها وأنبلها. لكم نحن محظوظون بالعوالم الافتراضيّة التي فتحت الأبواب على غاربها ـ إن جاز القول ـ للقول وكُلّ قال، وكُل أدلى بدلوه، ولك أن تختار ولك أن تميّز، وأن تفصل بين ما يرقى ويبقى وبين الزّبد، ومع كُلّ المناسبات وفي كُلّ المناسبات التي مرّت علينا عن بعد شعرنا بالفجيعة، فجيعة الحرمان من الحضن والدفء، والسّلام بالعين واليد، وتوحّدنا نعم هي درجة من درجات التوحّد مع الذّات كُلّ ما عايشناه يدخل في هذا الباب، ويُلقي بظلاله عليه. في يوم الشعر العالمي أقول لهذا الكائن الخرافي، من نحن لولاك؟ أنّى للكلمات أن تحكي كُلّ هذا الخراب الذي يردم المعمورة، كُلّ هذا الخواء الذي يملأ الكيانات والحيوات والذوات، من نحن لولاك لُغزاً وفُلّاً؟! في يوم الشّعر العالمي أقول مرحى بالكثافة، وطوبى لها من حيث هي نسغ الشِّعر وترياقه. حيث الكلمات ربّات السّحرِ الصاعدات من الغُدران، والمهلِّلات الموقداتِ الكلام المشعلات مجامره والنيران، وبجائحة وبدون جائحة يظل الشّعر سيد القول الذي يفيض عن الذّوات لواعجها والتّحنان، ويخطّ وبكلّ المناسبات حضوراً واقعياً أو غياباً قصرياً أو حتّى فقداً بالكلمات كُلّ ما يمور في الأرواح أو كُلّ ما به ترقى وتخلّد، وفقط نقول في الشعر في يومه بالشعر أن: «قد هزمت الفنون يا موت.. هزمتك الفنون!».
3- الشاعر مهدي نصير
العالم ذاهبٌ إلى عزلته، والشعر ذاهبٌ إلى عزلته، والحياة تدخل إلى كهفها العتيق خائفةً وترتجف، الأصدقاء يرحلون سريعاً، البهجة تضيق وتضيق و تضيق، العالم أصبح زنزانةً كبيرةً بسجّانين لا يمكن قهرهم ومراوغتهم والإفلات من قبضتهم، الهشاشة تطب العالم بهشاشتها وتعمل دائبةً على تهشيمه وبناء هشاشةٍ جديدةٍ تتغذى من الشاشات والحواسيب والكذب. ربما تكشف الجائحة عن زيفنا وزيف حياتنا وابتعادنا عن الطين والطبيعة والأرض والحلم والبساطة التي عاشها أجدادنا، وربما يعمل هذا الفايروس على تعرية هذا العالم ونظامه البشع والجشع وغير القادر مع كل هذا التراكم الأسطوري للثروة بيد فئةٍ فاشلةٍ تقود العالم إلى خرابه. لقد عرت الجائحة أنظمة العالم وخصوصاً أنظمة دول العالم الثالث الصحية والتربوية والتعليمية والاقتصادية والأخلاقية... الخ، هذه الجائحة ربما تكون جرسَ الإنذار الأكبر لهذا العالم ونظامه الشرس الفاقد لأخلاقياته المنفلت والقاتل لكل ما هو جميل في حياتنا. ربما يكون الشعر والأمهات الصامدات الصابرات الباكيات والقيم النبيلة للشعوب والإنسان للدفاع عن كينونته وحياته وحياة أبنائه وكرامتهم، ربما هؤلاء هم حِصننا الأخير لإعادة الرشد والأخلاق لهذا العالم المتوحش والذي يقود الكوكب كاملاً إلى الخراب، في هذه الجائحة الكونية أقول سلاماً لأمهاتنا النبيلات ولكرامتنا الإنسانية والقومية، وسلاماً لشهدائنا النبلاء، وسلاماً للشِّعر هذا الكائن القادر على إنقاذنا من هذا الخراب القادم بخطى سريعةٍ وهمجية.