|
عرار:
محمد أبو حمد ما من شك في أن القضية الفلسطينية هي إحدى أكثر القضايا التي تناولها الشعراء العرب في نصوصهم، ورسّخوها مفهومًا ومضمونًا ورمزًا ودلالة، وبأبعادها التاريخية والاجتماعية والسياسية، لأسباب عديدة، أهمها: أنها كانت وما زات وستظلُّ قضية قومية وطنية عربية، يُعدُّها شعراء العرب الملتزمون - على اختلاف مشاربهم ومنابتهم – قضيتهم المقدسة العادلة، فيطوِّعون كلماتهم وإبداعاتهم لخدمتها، بوصف الكلمة أحد أشكال الثقافة المقاومة، فضلًا عن كون القضية مصدر إلهام لهم، بحيث تنجب شعرًا وتنتج أدبًا. وبطبيعة الحال، فإن مهمة الشاعر الأولى هي محاكاة الواقع وتصويره بآلته الإبداعية، لأن الشعر منذ نشأته لم يكن بمعزل عن الواقع التاريخي والسياسي والاجتماعي والثقافي، ما يدفع الشاعر إلى جعله آلة رصد ترصد الأحداث التي يعيشها ويواكبها، فيتفاعل معها ويبيّن وقائعها في نصه الشعري. وفي سياق الحديث حول القضية الفلسطينية في الشعر العربي، نجد أن فلسطين قد حظيت باهتمام واسع من الشعراء العرب، فاحتلت موقعًا ومكانة مرموقة في نصوصهم، وشكّلت دافعًا قويًّا في تجاربهم الشعرية؛ فمنهم مَن أفرد لها القصائد الطوال في دواوينه، ومنهم الآخر مَن صيَّرته الأحداث والمناسبات للكتابة والدفاع عنها. لقد اتجهت أنظار الشعراء العرب إلى القضية الفلسطينية قبل نكبة عام 1948، فتتالت محاولاتهم الشعرية المشحونة بالتمرُّد ورفض تهويد فلسطين وتهجير سكَّانها، معتقدين أن الأمة العربية التي امتازت بالأصالة باتت تتعرض إلى محاولات مكثَّفة لطمس الهوية القومية، واتخذوا في نصوصهم الشعرية مواقف مبنية على الوضوح والصدق، فلم تكن غايتهم الأولى استعراض المَلَكات الإبداعية والفنية والجمالية، وإنما النضال من أجل الوطن الفلسطيني المهدد بالسلب، والنماذج زاخرة في التاريخ الشعري العربي؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، يرفض الشاعرالقروي رشيد سليم الخوري – أحد شعراء المهجر الأمريكي – وعد بلفور عام 1917، ويناشد العرب ليتَّحدوا، فيقول: «الحقُّ منكَ ومن وعودِكَ أكبرُ احسبْ حسابَ الحقِّ يا مُتجبِّرُ يَعِدُ الوعودَ وتقتضي إنجازَها مُهَجَ العبادِ خَسِئتَ يا مُستعمِرُ لو كنتَ من أهلِ المكارمِ لم تَكُنْ من جَيْبِ غيركَ مُحسِنًا بُلْفُر»ُ وعلى نحو مغاير للشعر التقليدي، يعبِّر الشاعر المصري صلاح عبد الصبور بقصيدة على شعر التفعيلة عن تعلُّق الشعب الفلسطيني بأمل العودة وصموده، فيقول: «كانتْ لهُ أرضٌ وزيتونةٌ وكَرمَةٌ وساحةُ دار وعندما أوْفتْ بهِ سفائنُ العُمُرِ إلى شواطئ السَّكينة وخطَّ قبرهُ على ذرى التِّلال انطلقتْ كتائبُ التتار تذروهُ عن أرضهِ الحزينة لكنه، خلف سياجِ الشوكِ والصبَّارِ ظلَّ واقفًا بلا مَلالْ يرفضُ أن يموتَ قبلَ الثَّار يا حلمَ يومِ الثَّار» وها هو الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي يصوّر واقع اللاجئ الفلسطيني وقد أصبحت الخِيام موطنه الجديد، لكنه يرى في الوقت ذاته أنها اللافتات التي تشير إلى قرب يوم العودة إلى الموطن الأصيل، فيقول: «أنا لن أموت ما دام في مِصباحِ ليلِ اللاجئين زيتٌ ونارٌ عبر مَقبرةِ الحدود حيثُ الخِيامُ الباليات كأنها في الريحِ تُشيرُ إلى طريقِ العودةِ الدامي القريب» وعلى امتداد تاريخ القضية الفلسطينية، ظلَّت القصيدة الفلسطينية حُبلى، وظلَّ الشعراء العرب يتعاقبون، يحملون الرسالة نفسها، وكلما ازداد الجرح عمقًا، ازدادت تطلّعات الشعراء نحو القدس، وذلك ما نلحظه عند الشاعر السوري نزار قباني، الذي - ليس سرًّا - لم يكن شاعر المرأة فقط، بل شاعرًا قوميًّا عروبيًّا، ينتصر لقضايا أمته، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، إذ يقول في قصيدة (القدس): «قدسُ يا مدينةَ الأحزان يا دمعةً كبيرةً تجولُ في الأجفان مَن يوقفُ العدوان؟ عليكِ، يا لؤلؤةَ الأديان؟ مَن يغسلُ الدماءَ عن حجارةِ الجدران؟ مَن يُنقذُ الإنجيل؟ مَن يُنقذُ القرآن؟ مَن يُنقذُ الإنسان؟». يدرك الشاعر العربي وزن كلمته وأثرها في ميدان المعركة ومواجهة العدو، ولذلك نجده حينما يُقوَّض يصيح من منبره رافضًا العدو ومعاونيه، وإذا تطوّر الأمر يلجأ إلى وسائل وحِيَل إبداعية للتعبيرعن موقفه، وهذا ما فعله الشاعر العربي المصري أمل دنقل؛ إذ اتخذ من حرب البسوس وحادثة قتل كُليب وسيلة للتعبير عن رفضه مساومة الاحتلال، فيقول في قصيدة (لا تصالح): «إنها الحرب قد تُثقل القلب! لكن خلفكَ عارُ العرب لا تصالح ولا تتوخَ الهرب لا تصالح ولو وقفتْ ضدَّ سيفكَ كلُّ الشيوخ والرجالُ التي ملأتها الشروخ لا تصالح فليسَ سوى أن تُريد أنتَ فارسُ هذا الزمانِ الوحيد وسواكَ المُسوخ لا تصالح.. لا تصالح» وتمتدّ ولادة الشعراء العرب المعاصرين، ويستمر النضال، فيلتحق بالمضمار شاعر مقاومة فلسطين الأول بلا منازع: محمود درويش، الذي قاوم الاحتلال بشاعريته الثورية الفذَّة، حيث كانت قصائده وقودًا للعديد من الانتفاضات الفلسطينية؛ ففي ديوانه «زهرة الميادين» دوّن مئات القصائد التي تصدَّت لموجات تصعيد الاحتلال، ولعلَّ ما يميِّزه عن غيره من الشعراء، إدراكه بأن المقاومة بصيغة المفرد لا وجود لها، وأن مَن يعيش التجربة الفلسطينية يُدرك تمام الإدراك أن لكل سياق شكلًا من المقاومة خاصًّا به. لقد نادى درويش بالعيش من أجل الأرض وحبِّها، فوضع قصيدة «عاشق من أجل فلسطين»، وقصيدة «يوميات جرح فلسطيني»، وقصيدة «على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة»، يقول في الأخيرة: «على هذهِ الأرضِ ما يستحقُّ الحياةْ على هذهِ الأرضِ سيدةُ الأرض، أمُّ البداياتْ أمُّ النهاياتْ كانتْ تسمى فلسطين صارتْ تسمى فلسطين سيدتي، أستحقُّ، لأنكِ سيدتي، أستحقُّ الحياةْ» يناشد درويش بالهوية العربية في قصيدته الشهيرة «سجِّل أنا عربيّ»، التي جسَّدت حوارًا له مع أحد جنود الاحتلال، بعدما تجاهل هويته العربية، فكانت القصيدة صرخة جماعية للأمة العربية والضمير الإنساني. وبالتزامن مع ظهور درويش في الوسط الشعري العربي المقاوم، سطع نجم الشاعر المقاوم عزّ الدين المناصرة، واشتهر بقصائده الثورية الحادة، فوضع قصيدة «يا عنب الخليل»، وقصيدة «بالأخضر كفَّنَّاه»، وقصيدة «جفرا»، وقصيدة «القدس عاصمة الجذور»، التي ينقل فيها الأحداث التي يبصرها في فضاء القدس، فيُقدِّم شهادته التاريخية على بشاعة انتهاكات الاحتلال للحقِّ الفلسطيني، ويتحدَّث عن المجد الضائع في غياب المقاومة الفلسطينية آنذك، ويصوِّر حجم الأضرار البشرية التي أحلقت بمواطنين عُزَّل، وتتسع دائرة المأساة، فينقل القدس من مجد تاريخها الأصيل وقداسة فضائها إلى فضاء صورة بشرية تشكو حالها وتصرخ، إذ يقول: «ما للجحافلِ كُلَّما نادتْ عليهمْ... تضْمحلُّ القدس عاصمة الجذور القُدسُ عاصمةُ السماءِ وأرضُها، رُعْبٌ، وقَتلُ القدسُ عاصمةُ الجُذورِ، يسوقُها وَغْدٌ، ونَذْلُ جاءوا إليها من صقيع الأرضِ، فاقتلعوا صنوبَرَها وزيتوناتِها احتلّوا البيوتَ وسمّموا الماءَ الزُلالَ وفي رغيف الخبز حَلَّوا القدسُ حارسةُ الثُغورِ وأرضُها، رُعبٌ، وقَتْلُ جاءوا إليها كالجراد، فأقفرتْ خُضْرُ المراعي، والسواقي جُفّفتْ، ثمّ استغلّوا ماءَ العيونِ الدافقاتِ من الصخورِ المُورِقات، وغابَ ظِلُّ...» إن المتأمل في النصوص الشعرية العربية التي تناولت القضية الفلسطينية ليجدها ثمثِّل نموذجًا حيًّا للأدب الملتزم؛ لأن هدف هذا الفن العظيم هو تقديم صورة للواقع، إلى حدِّ إنكار الذات في سبيل هذا الالتزام. ولا يلزم الشاعر العربي أن يتبنى القضية بما يتوافق مع معتقده الديني، بل إنه يتبناها بقوميته العربية، فها هو الشاعر العربي المسيحي أدمون شحادة يتحدث في قصيدة «مدينة السلام والآلام» عن الرموز الإسلامية في القدس، فيقول: «يا بهجةَ المساجدِ العاليةِ الأعناق ويا امتدادَ ومضةِ الإيمان في القلبِ والشِّفاه ووحدة الرحمن» وها هي الشاعرة العربية المسلمة فدوى طوقان تخطو خطوه، فتستحضر الرموز المسيحية في قصيدة «إلى السيد المسيح في عيد ميلاده»، إذ تقول: «يا سيدَ مجدِ الأكوان في عيدكَ تُصلبُ هذا العام أفراحُ القدس صمتتْ في عيدكَ يا سيدَ كلِّ الأجراس القدسُ على دربُ الآلام تُجلدُ تحتَ صليبِ المحنة تنزفُ تحتَ يدِ الجلاد والعالمُ قلبٌ منغلقٌ دونَ المأساة يا سيدَ مجدِ القدس يرتفعُ إليكَ أنينُ القدس». المصدر: جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 18-06-2021 11:45 مساء
الزوار: 662 التعليقات: 0
|