للمدينة حضورها في الشعر العربي القديم، وذلك من بروزها كمركز ثقل وجذب مادي واجتماعي وسياسي، وقد ظهر هذا الحضور بصورة ما أثناء الحكم الأموي، وتكرّس ذلك الحضور بصورة أقوى في العصور العباسية وإبّان حكم الأمويين للأندلس على أن حضور المدينة هذا لم يكن يتجاوز حدود الوصف الجمالي والمادي لمظاهر تلك الحضارة، وقد برع في هذا المجال الوصفي شعراء مثل (البحتري) و(ابن الرومي) وقد كان للشاعر الأندلسي (أبو البقاء الرندي) رثائياته لمدن الأندلس. إلا أن صورة المدينة ومنذ سنوات قليلة بدأت تأخذ أبعادا عميقة الغور في وجدان شاعرنا العربي، كحالة إنسانية مؤثرة تحتل الكثير من صور الإيماءات والرموز، حيث أصبح للفظ المدينة دلالات متعددة الزوايا والأبعاد، وأصبحت تشكل حالات شعرية رامزة، يعكس الشاعر من خلالها أحاسيسه ورؤيته، مسقطا عليها من نفسه وخيالاته الشيء الكثير أو القليل. فهي، في حين صورة للظلم الاجتماعي والإنساني وتسلط قوى المادة على القيم الإنسانية المطلقة، وفي أحيان أخرى صورة لمقبرة كبيرة تلتهم الآلاف البشر، وفي أحيان أخرى مظهر من مظاهر الانحلال والسقوط، وفي غيرها صورة تقدّم وازدهار كانب، وهي في أغلب الأحيان مظهرا اجتماعيا سالبا يتسع بمقدار ما يلتهم من أحاسيس الإنسان وقيمه الطيبة. إنها صورة لأدوات القهر والاستبداد، أنها الحلوى المسمومة التي نتناولها بينهم من كف الاستعمار. وقد كان للشاعر العربي الكبير (بدر شاكر السياب) شعر كثير يدور حول المدنية رمزا لكل أو بعض ما ذهبنا إليه: «عمياء كالخفاش في وضح النهار/ هي المدينة/ والليل زاد لها عماها/ الأضلع المتقوسات على المخاوف والظنون/ والأعين التعبى عن خيال في سواها/ وتعد آنية تتلألأ في حوانيت الخمور/ موتى تخاف من النشور/ قالوا سنهرب ثم لاذوا بالقبور من القبور...!». وللمدينة صورتها التي تبعث الشاعر إبراهيم نصرالله إلى الدعوة الملحة للبحث عن عالم أجمل، عالم يكون فيه شيء ما، شيء ذو قيمة، إنه يدعونا أن نبحث عن زاوية نسلكها نحقق فيها أحلامنا أو بعض لمخيلنا حتى يكون لنا بأحزاننا وحرقتنا وعذابنا بارقة أمل ببقاء: (وماذا لنا من شموس المينة/ عتمة أحزاننا في المصانع/ وماذا لنا من فضاء المدينة/ حرقتنا وعذاب الشوارع/ وماذا لنا من صروح المدينة/ مقبرة... ورحيل ومرفأ/ لنبدأ.../ لنبدأ...). والمدينة في شعر (جميل أبو صبيح) صورة غانية لعوب، مختالة ناكرة، لا تخرج من رحمها إلا رائحة الإثم والآلام والعفن والموت، وكأني بالشاعر يرى نفسه وقد حمل صليبه وفي جبينه وتحت رجليه أشواك العذاب في رحلة (جلجلة) حيث النهاية الأبدية: (حملتني المدائن أبوابها ورمتني/ ليتني ما نشرت نجومي عليها/ ولا أرضها ولدتني/ أورثتني بوائقها/ وبها أورق الصدر من آثامها ومحتني/ سكبت لي عصير مفاتنها وسقتني/ ليتني ما نثرت نجومي عليها/ ولا شمسها غزلتني/ حملتني على الشوك أسرارها ورمتني...!). ومدينة الشاعر يوسف عبد العزيز صورة للموت، الذي لا ينتهي والذي لا يغتال إلا البؤساء والكادحين والمتطلعين نحو الشمس، إنها صورة الواقع المأساوي: (تحب؟/ يديك حالتي الجميلة/ أين نذهب؟/ للمخيم والبيوت الضيقة/ وحديقة التذكار؟/ نخلقها/ المدينة مشنقة...). وتبدو المدينة في شعر (محمد عرموش) عالم من المفاجآت والكوارث، إنها تخفي وراء وتيرة الحركة والنشاط وجهها الرمادي الكالح الذي لا يحمل إلا الموت المفاجئ، إنها عالم من المباغتة حيث يسلمنا الكمين الى الكمين وفي لحظة ما يبدأ مهرجان الدم: (هذي المدائن/ لا فرق يمكن إن يكون/ بين ارتفاع ضجيجها اليومي/ أو صمت الكمائن...). وللمدينة في شعر حبيب الزيودي ظلالها القاتمة التي تحمل البؤس وخيبة الأمل، إنها حالة من السحر الخادع الذي لا يقاوم، وما هو إلا أن نسقط في حبائله حتى نفقد كل شيء حيث نفيق والتيه يمضغ الحس والوجدان وروح الأمل: (ظلام المدينة يغتال كل عصافير روحي/ وكل النوافذ مغلقة والظلام يفح/ فيفتح للعابثين جروحي/ تلوح لي من بعيد فأدخلها عاشقا/ فتجمد قلبي النساء/ وأدخلها فاتحا فيسرق سيفي اللصوص/ ويخذلني الجبناء/ أدخلها شاعرا/ فتبعثر شعري شوارعها الصامتة/ ولا شيء يفرح/ فالتيه يمضغ دربي). المدينة وانكسار اللحن... هي المدينة في بال شاعرنا «مؤمن حسن» بينه وبينها ثأر قديم، وهوة وجدار، حجبت عنه الأغاني، كسرت لحنه، هي يبغي ذليلة بين يدي الصياد، قاسية مريرة في فم الشعراء: (بين قلبي وهاذي المدينة/ ثأر قديم/ بين قلبي وآمالها هوة/ وجدار/ وأغنية أخرست/ أطلقت شرها/ وقطعت الوتر المفرد/ رأيت المدينة يا ويحها/ تتثنى على فخذ الخصم/ ثم يدخلها تحت بردته/ ثم يأخذها صوب بيت الإماء/ وابدأ درب الشدائد/ فقد ضيعتني المدينة/ وكنت هواها/ هي المدينة ضدان/ ضد معي/ وضد علي». ولعمان المدينة القريبة من أحساس شاعرنا (حيدر محمود) مكانها الخاص، إنها صورة للحياة المرجوة الحبيبة والقريبة من الوجدان، أنها كل شيء الألم والقوة والجمال والخير والحب: (وعدت إليك يا عمان/ يا جرحي ويا رمحي/ ويا ليلي ويا صبحي/ يا خبزي ويا ملحي/ فمدي لي يديك ومرغي وجهك/ بتربتك السماوية/ وردي لي ولو بعض الهوى/ فأنا وقفت عليك كل هواي/ أرفض أن نكون اثنين/ نموت إذا غدونا اثنين/ لا تقبل التجزيء روحانا). عجوز شمطاء قبيحة، تتراكم على صدرها كتل من الإسمنت الكالح الذي لا حياة وإنسانية فيه، إنها أقرب إلى المقبرة منها إلى المدينة الحقيقية، وهكذا نظر صاحب (النجديات) الشاعر (عبد الفتاح الكواملة) إلى مدينته: (هذي مدينتنا الكئيبة في/ أسمالها يرثى لها النور/ درداء لا الخدان زانهما نهض/ ولا في ثغرها درر/ شوهاء لا عشق به جيد/ يصبي ولا في طرفها حور/ كتل من الإسمنت كالحة/ تكتظ في أحشائها البشر). هذه بعض من النماذج الشعرية التي تصور المدينة الرمز، المدينة الحالة، كما يحسها وينظر إليها الشاعر في هذا الزمن المعقد الكئيب المتفجر. وهي بمجملها صورة مأساوية يكاد يجمع على تكريسها أغلب الشعراء. إن هذا الالتفات الذي يسجله الشعراء لقيم المدينة الرامزة منح القصيدة الحديثة مزيدا من القدرة على النمو والتحليق والتواصل.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 15-11-2024 06:50 مساء
الزوار: 32 التعليقات: 0