ثم توالت طبعاتها عقب ذاك، وتحكي عن بطلها «سويلم الترابين»؛ الذي ينشأ نشأة بدويةً خالصةً في بئر السبع؛ فيعمل دليلاً سياحيّاً، على جملٍ؛ يقود سيّاح العوجا حفير، إحدى قرى بئر السبع، إلى الخرائب القديمة، ويعينهم على مدلولات ما فيها؛ وإذ تجمعه بـ» عبدالله الألماني» المجامعُ، كون الأخير مندوباً ألمانياً في إحدى بعثات التنقيب عن الآثار هناك؛ فإنّ صداقةً كبيرةً تُمتَحن بينهما، ولا يفتُّ من عضدها أنّ هذا عربيٌّ وذلك ألماني؛ بل لا تُفرّق بينهما غير نُذر الحرب الأولى، والأطماع في فلسطين؛ فيعود الألمانيُّ إلى دياره، ويلجأ سويلم الترابين يوم نكبة ثمانية وأربعين إلى شرق الأردنّ، في البتراء، على مهنته: دليلاً يكتسب المهارة، وتمضي به السنون؛ فيتزوّج ويصبح ذا عيال.
وإذ تمرّ بسويلم الترابين بعثات، وبعثات؛ فإنه لا ينسى الألمانيّ، الذي كان يعاونه في ربط» الشداد» على ظهر جمله، وكان يتقاسم معه الحلوة والمرّة، طيلة عامٍ ونصف، وكانا كثيراً ما يتأملان العوجا حفير من فوق تلّةٍ رابية.
ولكنّ عام 1953 يمنح سويلماً سعادةً ما مثلها سعادة؛ إنّه هو، وبعد طول نظر، يعانق عبد الله الألمانيّ من بينهم، وقد جاءوا إلى البتراء؛ فتُجدد القهوة، ويُدقّ المهباش، وتتداول الأيدي الفرحة «كاسات» الشاي؛ ريثما يُجهّز الخروف!.. وإذ يتبيّن الألمانيُّ حال صديقه الترابين، يدعوه لزيارة ألمانيا؛ بل وإرسال ولديه يتعلمان في مدارسها؛ علّهما يحققان ما لم يحققه أبوهما من قبل، طبيبين، أو مهندسين.
ثمّ.. يكون السفر؛ فيُحسن الألمانيّ وفادة الترابين، الذي يقطع الزيارة بقوله:» البلاد طلبت أهلها!!».

الصورة المرسومة ولبّ الصراع
في» بدوي في أوروبا»؛ تبرز» الذّات»؛ غير القابلة للانصهار، الذات التي تعي نفسها، وتدرك ما لها من مقوّمات، وفي القصّة؛ فإنّ بطلها لا تسكنه عقدة الأجنبيّ أو» الخواجا»، ولا تنال منه؛ بل إنّ العلاقة التي يرسمها جمعة حمّاد بين الشرق والغرب، من خلال سالم الترابين وعبد الله الألماني، هي علاقة متميّزة، وعلى ما يرى المفكّر الأردني إبراهيم العجلوني، فإنّ بطل» عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم كان مبهوراً بثقافة باريس وبألوان العلاقات الإنسانية فيها، بل إنّ بطل الهجرة إلى الشمال للطيب صالح كانت لديه وقائع غريبة في عاصمة الضباب، كما أنّ» أديب» طه حسين، كانت له صدمته الحضارية، ومأساته المحزنة... ومن ذلك يظفر العجلوني بالسماحة الروحية التي تتجلى من خلال» بدوي في أوروبا»؛ والتي هي أنموذجٌ ومثالٌ على» البساطة العبقرية»، أو» عبقرية البساطة» عند الراحل حمّاد.
وعلى هذا فإنّ البطل يبدو ناقداً اجتماعياً؛ يتساءل بشكلٍ دائمٍ، لا بالشكل المجرد؛ بل ليقرر شيئاً يستشعره هو في داخله، وليرجع بقارئه وبنفسه إلى الثابت المستقرّ من تكوينه إزاء هذه الأحوال المستجدة التي يبتلى بها.
وما يزيدنا تأكيداً على ما سبق أنّ طقوس الطائرة، والبقاء على الإيمان الذي يأسر الألمانيّ، وانتقاد الترابين للراقصة التي تتعرّى قطعةً قطعةً في مربعٍ ليليٍّ أوروبي؛ ومن ذلك قوله:».. فهذا الشيء الذي يُعرضُ قطعةً قطعةً، على عباد الله من دون حياءٍ أو خسارة، وهذا العواء المنطلق، وهذه التي تقفز كالسعادين، ولا نعلم من أمرها أهي امراةٌ أم فتاةٌ عذراء، والتي تمشي على أربع ولا ينقصها إلا الذّيل!!».
يقول العجلوني: وتتضح لنا قوّة هذا الثابت المستقرّ في التكوين، حين نمضي مع سويلم في مواجهته للصدمة الحضارية التي صرعت كثيراً من العرب والمسلمين، وجعلتهم عن أنفسهم قبل غيرهم ذاهلين.
وفي» بدوي في أوروبا» فإن» التحقق من القبلة»، و» الرطن»، و» التفرنج»، و» أصحاب هذه الأسماء» تؤكّد ما لا يتزحزح في النفس الثابتة تجاه المتحوّل. وفي» الطائرة» يحمد سويلم الترابين ربّه كثيراً، وهو يحس بالموت يحيط به من كل جانبٍ، على أن جريمته لم تتعدّ الجلوس والنظر فقط؛ والآخرون يجالسون بنات الهوى، ويشربون الخمر، فتصغر الدنيا في عينه، حتى يظنها ساعة الحساب،» لا إله إلا الله».
وهو، سويلم، لم يحسن التصرف مع الراقصة التي أجبروه أن يراقصها، وظلّ يتمتم بكلماتٍ حتى انفلت منها، بل وكان إجباره أشبه بمعجزة كبيرة، بعد أن تعلق بالكرسيّ يتعوّذ، ويتحجج بعدم المعرفة.
في» بدوي في أوروبا»: رؤية تنبني على الثقة بالنفس، غير المستلبة، ويقينٌ بأن لدينا من براءة الروح، وثبوت العقيدة، وكلّ ذلك يؤدي بجمعة حماد إلى أن يجعل من نهاية القصة مخالفاً لما كان مألوفاً؛ فلم ينته البطل بالخذلان، أو الهزيمة؛ بل عاد مفعم الروح، لا يسعه المكان من الفرح، وكأنه انتصر.
ولعلّ في قوله:» الحضارة!!.. الحضارة... يا حضرها البين!!»، ما يؤيد ذلك.
وكما يرى د. عمر الساريسي فإن الرواية تعدّ عملاً أدبياً متميزاً، يصدر عن وجهة النظر الإسلامية، في محاكمة العادات والتقاليد الغربية، وقياسها بمقياس الشرع الإسلامي، وتصوّر الإسلام لهذا الوجود.».
• الذات المستقرّة؛ الواثقة.. في « بدوي في أوروبا».
يمكن القول إنّ الكاتب الأردني إبراهيم العجلوني استأثر كثيراً بجمعة حماد؛ إلى جانب غيره؛ فكتب:» في عبقرية البساطة: جولات في فكر وأدب جمعة حماد»، واختصّ برواية» بدوي في أوروبا»، في فصلٍ كاملٍ من الكتاب، أورد فيه قيم بطل الرواية» سويلم»، وما بقي ثابتاً في صدره لا يتزحزح عنه من فضائل الدين، والتمسك بالعرف، و» ماذا سيقول الناس؟!».
فالرواية، التي تقوم على» سماحة الوجدان»؛ تمثل انفتاحاً على الآخر، ولكنه الانفتاح الذي لا ينطلق من فراغ؛ بل هو أساسٌ لـ» ذاتٍ» لا تنصهر في الذوات المحيطة، ولا تقبل منها إلا ما توافق وميزانها هي؛ فهي ذاتٌ معتزّةٌ، مؤمنة بسموّها، عارفةٌ لطبيعتها الدائمة، التي لا تنال منها الأعاصير، ولا تقدر عليها المغريات.
ولعلّ فكرة» الذوبان» هي الفكرة التي انطلق منها العجلوني، في دراسته للرواية، محمّلها أبعاده التي اختبرها، وسار عليها- العجلوني- ويزيده توكيداً أنه قارن في بحوثه بين» بدوي في أوروبا»، و» عصفور من الشرق»، و» الهجرة إلى الشمال»؛ بمعنى أنه قارن من وجهة نظرٍ أخرى بين الأربعة: الأردني جمعة حماد، و توفيق الحكيم، والطيّب صالح، وطه حسين؛ ليعود معتزّاً بمحور الرواية» سويلم»، الذي تدور حواليه الأحدث، ولا ينبهر بالحضارة الأخرى، أو ينتقم منها، أو يحسّ بسطوتها، أو يتخذها وسيلته القادمة لتغيير مجتمعه.
يقول العجلوني:».. لقد رأينا انبهار بطل» عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم بثقافة باريس، وبألوان العلاقات الإنسانية فيها،... ورأينا بطل» موسم الهجرة إلى الشمال»للطيب صالح ووقائع حياته الغريبة في عاصمة الضباب، ورأينا» أديب» طه حسين، وما كان من صدمته الحضارية ومأساته المحزنة... رأينا كلّ ذلك، ورأينا أكثر من مقترب للغرب في أدبنا الحديث، ناهيك عن الأعمال الفكرية التي جعلت العلاقة بين الشرق والغرب همَّها الأول وموضوعها الأثير... رأينا كلّ ذلك؛ فلم نحظ بمثل هذه السماحة الروحية التي تتجلى لنا من خلال هذه الرواية التي نعتبرها أنموذجاً أدبياً قائماً على ما سميناه» البساطة العبقرية، أو عبقرية البساطة.».
ويتّخذ العجلوني من الأعمال السابقة، التي بين يديه، موضوعاً لتناول» عقدة الأجنبي»؛ الأجنبيّ المتقدم، أو» الخواجا»، وما يمكن أن يُثار من ظلال:
«.. لقد كان معظم الأعمال السابقة مسكوناً بعقدة الأجنبيّ المتقدّم، أو بعقدة الخواجا، فأبطالها معنيّون إما بنفي الضعف أو بادعاء القدرة على مطاولة السيّد المستعمر... وما بين هذين المسارينِ كانت تضطرب حيوات الشخصيات، وتتعكر، وتصفو، وتتأزم وتتسق، وكانت المحصّلة التي ننتهي إليها هي الإحساس العميق بتبعية الوعي والواقع معاً لهذا السيد القوي المستعمر، أو لهذه الحضارة الغالبة المنتصرة.».
إذن فعلاقة الغرب والشرق.. هي علاقةٌ ذكيّة؛ يرسمها جمعة حماد في حوارٍ يطول ويقصر، ويتصل وينقطع بين» سويلم» و» عبد الله الألماني»؛ وإذ يروي العجلوني الحكاية مستشهداً بعباراتٍ ذكيّةٍ دالة؛ مستحضراً ما يسوقه رديارد كبلنغ من « أن الشرق شرقُ والغرب غرب؛ ولن يلتقيا إلا إذا كان هنالك رجالٌ حكماء، ذوو نفوس كبيرة!»... إذ يروي ذلك، فإن ما يودّ توكيده أن التقاء الشرق بالغرب، ببطلي الرواية، إنما هو لقاءٌ إنسانيٌّ؛ فيه عطاءٌ متبادلٌ، وفيه توسعة للذات؛ لا اهتضام لها؛ وهو اللقاء الذي هو» ليس لقاء هيمنةٍ أو استلحاق.».
ويمكننا أن نسوق مما سبق نقاطاً، نحسب أنها تلخّص دراسة العجلوني بشأن الرواية:
أولاً: ما يلفتنا هو العنصر النفسيّ عند» سويلم»؛ وهو العنصر الذي يؤسس عليه قبل النكبة وما بعدها؛ فلا يستحي من تاريخه، حينما كان في شبابه دليلاً للسياح في العوجا حفير بفلسطين؛ فقيراً يدلّ الناس، ويسوقهم على جمله بين هذه الخربة أو تلك.. وهو لا يتناسى ماضيه بحاضره؛ وقد بات رئيساً أو» شيخاً» لقومه بعد أن لجأ إلى الأردن؛ فظلّ البطل عطاء الماضي والحاضر معاً.
ثانياً: في» رحلة الضياع»؛ إحدى مؤلفات جمعة حماد، تحضر الوصيّة، وصيته لولده بالوطن الذي تشرذم، وفي» بدوي في أوروبا» تحضر، كذلك، وصية» أم سليمان» زوجة «سويلم» بطل الرواية، وهو كذلك يوصي قومه بأهله.
ثالثاً: لم يكن» سويلم» مجرد سائحٍ؛ تأخذه النشوة أو الدهشة أو الحيرة مما يرى... بل كان وسيلةً ليسوق بحواراته مع نفسه ومع المحيطين، وبخاصةٍ صديقه عبد الله الألماني ما يمكن أن يتلمّسه القارئ المشارك الواعي، الفاهم لما بين السطور، الذي لا يكتفي بالتعجب من انبهار سويلم بالطائرة، أو دهشته من هؤلاء الكاسيات العاريات. بل هو قصدٌ مسبق، أراده الكاتب جمعة حماد متكئاً يمرر من خلاله: النقد الاجتماعي، والتساؤل الدائم، لا المجرّد، وليقرر» الثابت» الذي لا يتغيّر بالمستجد.
رابعاً: يسوقنا ما سبق إلى ما يودّ أن يثبته المؤلف من نقد الثقافة للثقافة الأخرى، ومن وقوف الثقافة على قدميها تناقش، وتفهم، بل وتتفهم ما يجري، وربما تحاكم، وتبرر، وتقتنع، وهكذا... من مثل أن» سويلم» كان كثيراً ما يتسامح- من غير تفريط- بل يأنس بالمحافظين على الدين، حتى ولو كانوا ممن هم على غير دينه أو ملّته،... ولنقرأ في الرواية:»... ولقد قرأ عبد الله كثيراً عن اتكالية الشرق، وعن إيمانهم بالقضاء والقدر، وعرف كيف أنّ هذا الإيمان قد أصبح من عيوبهم المزمنة التي لا يرجى نهوضهم بسببها... ولكنّه، وفي هذه اللحظة، أحسّ أنه في حاجة إلى مثل هذا الإيمان الذي يتسلّح به سويلم، والذي يجعله في مثل هذا الموقف المخيف هادئاً مطمئنّاً.».
وعلى هذا؛ فإن الرواية البسيطة في تركيبها العميقة ببساطتها- على ما يرى العجلوني- هي تصويرٌ لطيف ومبرر للعلاقة بين الشرق والغرب... وهي رؤية قوامها الثقة بالنفس، لا استلابها، والإيمان بوحدة الإنسانية، لا بانشطارها، والاعتقاد الراسخ بأنه إذا كان عند الأوروبيين بعض ما ينفعنا من علم وصناعات، فإنّ لدينا ما لدينا من النور، ورشاد العقل، ونقاء الفطرة، وبراءة الروح.

* من ورقة عمل قدمت
 في مؤتمر « الأدب والآخر » بدمشق