|
عرار:
إبراهيم خليل رأى النور للمرة الأولى في بلدة مسيردة بولاية تلمسان في الجزائر سنة 1935 وفيها درس إلى أن أتم البكالوريا، والتحق بجامعة محمد الخامس في الرباط، ليظفر منها بدرجة الليسانس (البكالوريوس) في الآداب، وتابع دراسته العليا في جامعة الجزائر – العاصمة حتى ظفر منها بدرجة الدكتوراه. ولم يتوقف طموحه عند ذلك، إذ واصل دراسته في جامعة السوربون الثالثة بباريس للحصول على دكتوراه الدولة في الآداب. سنة 1970 عين مدرسا للأدب ونقده في جامعة وهران. وإلى جانب ذلك انتخب عضوا في جمعيات أدبية وثقافية في الجزائر وفي غيرها.. متقلدًا مناصب أكاديمية عليا مترئسًا تحرير مجلة (تجليات الحداثة) في جامعة وهران. ولم يفتأ الراحل يواصل البحث والتأليف والتصنيف. فصدرت له كتب كثيرة منها: « فن المقامات في الأدب العربي» و» النص الأدبي من أين وإلى أين « و» ألف ليلة وليلة « و « تحليل الخطاب السردي « و» بنية الخطاب الشعري « و» تشريح النص « و» في نظرية النقد « و» مفاتيح لغرفة واحدة « وهو دراسة لرواية «غرفة واحدة تكفي « للكاتب سلطان النعيمي، و» عجائبيات العرب « و» معجم موسوعي للمصطلحات الأنثروبولوجية « و» نظرية القراءة « و « التحليل السيميائي للنص الشعري « و « شعرية القصّ وسيمياء النص « وكتب رواية بعنوان « وشيء آخر» وغيرها من الروايات الكثير والمسرحيات. ومع هذا العدد الوافر من المؤلفات حافظ على تواصله مع المجلات فكانت مقالاته وبحوثه تغزو الدوريات في تونس والكويت والقاهرة وبغداد ودمشق وبيروت وصنعاء والمنامة والدوحة والرياض وجدة. وصدر له عن سلسلة (عالم المعرفة) الكويتية الكتاب الذي تعزى إليه شهرته، وعلو منزلته بين النقاد والباحثين، وهو كتاب « في نظرية الرواية - بحثٌ في تقنيات السرد « 1998. يتألف هذا الكتاب من تسعة مقالات (أو تسع) تطمح، على المدى البعيد، في اجتماعها تأليف نظرية للرواية « عربية الوجه واليد واللسان « إسوة بما هو شائع، ومتداول، في الأدب الغربي. ففي تقديمه يفصح عن هذه الغاية ،كاشفا عن تطلعه لهذه النهاية، قائلا: هذا الكتاب بمقالاته التسع بحثٌ في إمكان تأسيس نظرية للكتابة الروائية التي كتب حولها الكثير، لكنَّ ما كتب عنها باللغة العربية قليل، قياسًا بما كتب حول الأجناس الأدبية الأخرى كالشعر». وهذا يعني أن الراحل وجد في المكتبة العربية ثغرةً، أو فجوةً، تتجلى في خلوها من كتاب جامع، ومانع، لمفردات النظرية الروائية، فأراد بكتابه هذا(350ص) سداد هذه الثغرة، وردْم هذه الفجوة. في نظرية الرواية: والكتاب الذي انتهى منه الراحل في سبتمبر – أيلول من العام 1997 يبدو للقارئ المتأمل سلسلة من المقالات المنشورة سابقا في أوقات متباعدة، ومناسبات متعددة. وقد جرى تلفيقها في فصول حاول المؤلف أن يُضفي عليها بعض الترابط، وإلى هذا يشير في هامش ورد في ص 11 مؤكدا أنه استعاد مقالا نشره في مجلة الأقلام البغدادية عام 1986 وأعاد فيه النظر صياغة واصطلاحًا وتقديمًا وتأخيرًا مع ذكر ما أهمل من أسماء المؤلفين ممن اقتبس من بعض مؤلفاتهم وأضاف إليه الجزء الخاص بماهية الرواية. وهذه التعديلات هي السبب الذي من أجله يجد القارئ في هذه المقالة الكثير الجم مما يغني عن قراءة المقالات الأخرى، فبعد الحديث عن ماهية الرواية، يتحدث عن نشأتها، ثم يطرح سؤال ما الرواية؟ أي أنه يعود بعد أن وضَّح لنا حدَّ الرواية بصفتها جنسا أدبيا، ليُعرّفَ الرواية مفتتا هذا المصطلح إلى أجزاء منها روى الماضي، ومضارعه، ومصدره، والفاعل منه راوٍ، وراوية (حماد الراوية) ورواية بمعنى رفع الخبر لمن رواه، وهذا كله، وتفصيله، كان المؤلف - رحمه الله - في غنىً كبير عنه، لأنه قدَّم لهذا بتعريف الرواية من حيث هي جنس أدبي له مقوماته التي تميزه عن غيره من الفنون. الرواية والتاريخ: وبعد التدقيق، والتحديق، في مفهوم الرواية، نجد المؤلف - رحمه الله - يتحدث عن شيء في غاية الأهمية، ألا وهو الرواية التاريخية. فهو يذكرنا بروائيين عُرفوا بكتابة هذا النوع من الرواية كوالتر سكوت، وتولستوي- مؤلف الحرب والسلام، وأناتول فرانس، وإميل زولا. ولم يفته التفريق بين الرواية التاريخية والتاريخ الخالص. فالروائي لا يهتم بتوثيق الوقائع التي تجرى في روايته سواءٌ أيدتها الوثائق أم لم تؤيدها، فهي تقدم للقارئ تاريخا متخيلا لا يخلو من زيْف، في حين أن التاريخ الخالص يقدم لنا الحكاية منتزعة من الوثائق التي تثبت صحة الماجريات. فهو يخلو من التزييف الذي نغضّ النظر عنه في قراءتنا للرواية. الرواية والمجتمع: والمؤلف - رحمه الله - لا يقتصر على هذا، بل يتناول الرواية بصفتها مؤسسة اجتماعية يخترعها الكاتب، وتتضمَّن ما يتضمنه المجتمع من قضايا، ومواقف، وأشخاص، وحوادث، تقع في أوقات، وفي أماكن محددة. وهي - مثلما يؤكد رولان بارط - مؤسسة أدبية ثابتة الكيان، قابلة للتكيُّف مع المجتمع. والأمثلة التي تؤكد هذه الحقيقة لا حصر لها، ولا عدد. فمنذ أن كتب سرفانتيس روايته الخالدة (دون كيخوتة) والرواية لصيقة بالمجتمع الذي تصوره، بصرف النظر عن أسلوب الكاتب، أو نهجه. فمن الروائيين الكلاسيكيين أمثال تولستوي، وديكنز، إلى الروائيين الحداثيين أمثال جويس، وبروست، وفولكنر، ما انفكت الرواية تصور الحياة الاجتماعية بجل ما فيها من اختلافٍ، أو ائتلاف. بنية الرواية: على الرغم من أننا ما زلنا في المقالة الأولى من الكتاب، نجد المؤلف مع ذلك، يتحدث عن بنية الرواية. ثم يطرد الكلام من البنية لموضوع أثر المدرسة الأمريكية في تطور الرواية، فيذكر في تعداد سريع كلا من جون باسوس وجيرترود شتاين وكالدويل و هيمنغواي. ويعد نفرًا منهم روادا للرواية الجديدة. وها هنا نختلف معه في أن الرواية الجديدة ظهرت في خمسينات القرن الماضي على يدي آلان روب غرييه ، وناتالي ساروت. ولعله يعني بالجديدة الرواية غير القديمة أي: غير الكلاسيكية، فإذا وصف المؤلف كلا من فولكنر وبروست بالروائيين الجدد، فإن هذا يفهم منه تصنيف مغاير لما دأب عليه الفرنسيون في تداولهم مصطلح الرواية الجديدة La Nouveau Roman كذلك يضيف إلى هذا النوع رواية الحرب، ورواية المقاومة، ولم يفته الاعتذار لعدم ذكره رواية الوثائق، والرواية الغرامية، ورواية الجنس، ورواية الطفل، والرواية النفسية. مؤكدًا أن أنواع هذا الجنس الأدبي النثري لا حصر لها. أساسيات الرواية: وعلى الرغم من أنَّ الراحل أفرد فِصْلة في المقالة الأولى لبنية الرواية، إلا أنه استأنف الحديث عن ذلك تحت مسمى أسس البناء السردي للرواية. وهي المقالة الثانية في الكتاب. وقد اضطره هذا الارتباك للتكرار، والوقوع في التزيُّد. فقد عاد إلى تعريف الرواية ، ثم إلى التفريق بينها وبين أنواع نثرية أخرى، لأن الحديث عن أسس بنائها يتطلب ذلك. وعاد بنا أيضا للرواية الجديدة دون أي تغيير في المدلول الذي تجلى في المقالة الأولى. إلا انه يضيف - رحمة الله عليه - لما سبق رصدا للعوامل المؤثرة في نشأة ما يعرف بالرواية الجديدة. وتتلخص هذه العوامل في : الحرب العالمية الثانية، وحرب التحرير الجزائرية 1954- 1962 واختراع السلاح الذري، وغزو الفضاء الكوني. وفي هذا الموقع بالذات تنبّه - عليه الرحمة - للفرق بين الرواية الحديثة زمنيا والرواية الجديدة بالمفهوم الذي تطرق إليه كل من آلان روب غرييه Grillet و ناتالي ساروت Sarraute . ويبذل المؤلف في هذا الموقع من كتابه جهدا كبيرا لإقناعنا بما لهذه العوامل من تأثير جلي في فن الرواية، وظهور أشكال جديدة فيه، ولكنَّ ما ساقه من قرائن، وبيانات، لا يقنع إلا القليل من القراء؛ كون هذه العوامل لا يقع تأثيرها على الآداب، أو الفنون، مباشرةً، وفورا، وفي إجراء آلي، إنما تحتاج إلى تراكم، وتزامن، ليغدو أثرها بيّنا جليا في الفنون. فالرواية الجديدة التي تحدث عنها كانت بوادرها المبكرة قد ظهرت في نهايات القرن التاسع عشر، وأوائل العشرين. أي قبل الذي ذكره من عوامل مؤثرة. ونظن السبب كامنًا في أن المؤلف لم يفرق بين الرواية الجديدة بالمفهوم الكلاسيكي، أي: غير التقليدية، ولا القديمة، والرواية الجديدة بالمفهوم التقني لدى كلٍّ من غرييه، وساروت، ومن حذا حذوهما من الفرنسيين.(1) الشخصية: في المقال الثالث نجد العناوين تذكرنا بما سبق، فهو يستأنف الحديث عن الماهية، وعن البناء، أما الإشكالية، فقد يفهم منها أن بعض الشخصيات قد تظهر في مظهر النموذج الإشكالي الذي تكلم عنه لوسيان غولدمان. ويجنح المؤلف، رحمه الله، لتفضيل الشخصية مثلما هي في الروايات الكلاسيكية - روايات القرن التاسع عشر- فهي أكثر حيوية من تلك التي نتعرف عليها في الرواية الجديدة. ولا يفتأ يتطرق لمسائل فنية تتصل بالشخوص كالضمائر. ففي بعض الروايات، كرواية (القتلة) لهيمنغواي، يهيمن ضمير المتكلم على السرد، وفي بعض الروايات يهيمن ضمير المخاطب، وفي بعضها، وهو الأكثر، يستخدم المؤلف ضمير الغائب. وأما الأسماء، فلكل كاتب نهجه في تسمية الشخوص. وأما كافكا، فقد استبدل الحرف الأول من الاسم رامزا للبطل فـ (ك) هو بطل إحدى الروايات. وفي هذه الأثناء يعزو المؤلف لفورستر – روائي وناقد بريطاني- تصنيف الشخصيات على نوعين، إحداهما: مسطحة flat، والأخرى مدورة round . أما الأولى، فيعني بها الشخصية الثابتة التي لا تتأثر بالحوادث. وتحافظ على دورها من أول الرواية حتى الكلمة الأخيرة. وأما الثانية، فهي التي تنمو، وتتغير، بتوالي الحوادث. وهذا التصنيف للشخوص تصنيف تقليدي عفا عليه الدَهْر. فكتاب فورستر الذي يحيلنا إليه صدر في العام 1927 والحريّ بمن يتطرق للرواية الجديدة ألا يكتفي بهذا التصنيف على أهميَّته. الرواية واللغة: وكغيره من الدارسين يتصدى المرحوم مرتاض للإجابة عن أسئلة اللغة في الرواية. مستهلا ذلك بلَوْم الدارسين، ونقاد الرواية، على تجاهلهم هذا البعد من أبعاد الكتابة الروائية. مؤكدا أنه الرائد لهذا المجال، وأن دراسته للغة في الرواية هي الأولى. ولذا لا جَرَم إن ظهر فيها بعض الخلط. كعدم التفريق بين لغة الرواية وغيرها من الفنون. وقد يُلاحظ بعض القراء أن المؤلف - غفر الله له - يجنح نحو التقعُّر؛ فهو يفضل أن تكتب الرواية بلغة يصفها بما يأتي: « إن لم تكن لغة الرواية شعرية، أنيقة، رشيقة، عبقة، مغردة، مختالة، مُتَرَهْيئَة (كذا) متزينة، متغنجرة، لا يمكن إلا أن تكون لغةً شاحبة « (ص115) ومثل هذا الوصف – سامحه الله – لا ينسحبُ إلا على رواية واحدة لا وجود لها إلا في خياله هو. فأسلوب الرواية، إذا أردنا الاختصار، هو الذي تتصف به لغة الناس في حياتهم اليومية، أو ما يعرف بـcommon speech على أن للمؤلف رأيا آخر صائبًا لا بد من التنويه له، والتنبيه عليه، وهو ضرورة اختلاف اللغة بين سردٍ، ووصفٍ، وحوار. فما هو مقبول في الوصف من تأنق، وتألق، لا يليق بالحوار، ولا بالسرْد. المكان في الرواية: ويطيبُ للمؤلف استبدال الحيّز بالمكان. فأكثر الدارسين، إن لم نقل كلهم، يستعملون كلمة المكان، وقلة منهم يستعملون « الفضاء « الروائي، مع بعض الاختلاف في المعنى. ولكننا لم نقف على من يستبدل الحيز بالمكان سوى الدكتور مرتاض، ولعل هذا من باب التغيير اللفظي لا أكثر. فعندما نقرأ ما يقوله في المقالة الخامسة عن «الحيّز» لا نجد إلا القليل مما يمكن أن يعد مختلفا عما يقال في سائر الدراسات. وهذا يجعل من استخدام الحيّز، عوضا عن المكان، ضربًا من التغيير الذي لا يسفر عن اختلاف. والمؤلف يبدو توّاقا لتناول أشكال السرد، وتقنياته، في المقالة السادسة. ولهذا جاءت الخامسة مكثفة، قصيرة، لا تفي المكان حقه من البحث. ولما كان عنوان الكتاب يتضمن جملة « بحثٌ في تقنيات السرد « جاءت المقالة السادسة لتسلط الضوء على بؤرة الكتاب، ونواة البحث. وعلى الرغم من أنَّ المؤلف تعهَّد في كتابه هذا بتقديم نظرية في الرواية، إلا أنه هنا يخالف هذا التعهد، فهو لا يفتأ يشير لتقنيات السرد في المقامات، ثم في قصص الحيوان، ككليلة ودمنة، ثم في السير الشعبية، والأدب غير الروائي، كألف ليلة وليلة، وجلّ ما يبدأ عادة بعبارة « قال الراوي «. عودة إلى الضمائر: ومع أنه نبَّه سابقا على وظيفة الضمير النحوي، وعلاقته بالشخوص: من؛ متكلم، ومخاطب، وغائب، إلا أنه استأنف الحديث عن هذا الشأن في غير قليل من التفصيل والإطناب. مؤكدا أن اعتماد ضمير المخاطب ليس جديدًا، ولكنه تواتَرَ في الرواية الحديثة وكثُر، لذا يَعدّه بعض القراء والدارسين جديدًا. مُسلطا بعض الضوء على علاقة هذه الضمائر بسائر أركان الرواية من؛ زمن، ومن مكان، ومن شخوص. وفي المقالات 7، و8، و9 يقفنا المرحوم إزاء قضايا أخرى كالزمن، وعلاقة كل من الكاتب والقارئ والشخوص به. وعلاقة الأركان الروائية بعضها ببعض. وفي كلٍّ نجد للمؤلف اجتهاداتٍ لا جرَمَ أنها مهمّة، ولعلّ الأهمَّ من هذا كله أنه جمع هذه الشظايا والفسيفساء من البناء الفني للرواية في كتاب ذي نسق لا يخلو من بَعض الاتساق، والترابط، وإلى هذا يُعزى انتشارهُ، وتداوله تداولا كبيرًا، بين صفوف القراء، والمهتمين بالرواية درسًا وكتابة. *** 1.للمزيد عن مفهوم الرواية الجديدة انظر: المديني، أحمد: كي نفهم الرواية الجديدة، ط1، الدار البيضاء: دار ملتقى الطرق، 2021 ص 15 وما بعدها. جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 10-11-2023 10:09 مساء
الزوار: 682 التعليقات: 0
|