مهدي نصير «البحر الأسود المتوسط» هي رواية هزَّاع البراري السادسة والصادرة هذا العام 2024 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وتقع في (254) صفحة مقسَّمةٌ بين رواةٍ أربعة هم : الراوي الرئيس الصحفي كريم رحال ويحتل الزخم الأكبر من رواية الأحداث، الراوي الثاني هو الروائي وطبيب الأسنان السوري لطفي الإدلبي والذي تطلُّ الرواية من خلال روايته وايميلاته لكريم رحال على عمق الأزمة الإنسانية في سوريا بعد ما يُسمَّى كذباً – كما تقول الرواية على لسان أبطالها – الربيع العربي، في رواية كريم رحال ينقل أحاديث مطولةً لأبطالٍ حقيقيين ورواةٍ حقيقيين ولكنهم لا يظهرون كرواةٍ مستقلين، كان أهمهم وأكثرهم حضوراً وتشظياً «أبو حذيفة المصراتي» الطالب الليبي الذي حضر للبنان في بعثةٍ دراسيةٍ في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، وهناك ينتمي للثورة الفلسطينية ويقاتل مع الحركة الوطنية اللبنانية ضد اجتياح الجنوب اللبناني من الجيش الإسرائيلي عام 78-79 ويعيش مأساة استشهاد كلِّ زملائه ورفاقه في هذا الاجتياح، ويخرج إلى جبيل حاملاً على كتفيه رفيقه الوحيد الذي بقي حيَّاً، ثمَّ يعود لمارون الراس لينقذ صديقه الاثير طالب الطب في فرنسا نمر الطرابلسي العاشق للثورة وصاحب الصوت الجبليِّ الذي يشبه صوت وديع الصافي – كما يصفه صديقه المصراتي - والذي يرفض ترك سلاحه بعد إصابته إصابة بالغةً ويطلق الرصاص على راسه أمام « أبو حذيفة المصراتي « ليموت في خندقٍ بعيدٍ مليءٍ بالجثث والأشلاء في مارون الراس في جنوب لبنان، تشكِّل هذه الحادثة نقطة تحوُّلٍ كبرى في شخصية وقناعات وفكر « أبو حذيفة المصراتي « لينتقل من الفكر الماركسي إلى دراسة الفقه الأزهري في مصر ومن ثمَّ لاعتناق والانتماء للإخوان المسلمين والسلفية الجهادية ووو حتى يصبح واحداً من اساطير تهريب السوريين والليبيين والأفارقة – ومن ضمنهم كما تقول بعض الإشاعات شخصية سمراء بنت الخميسية أسطورة جهاد النكاح والتي تقول الأسطورة أن المصراتي هرَّبها من تونس إلى سوريا، حاول كريم التأكد منها كرواية ولكنه لم يصلْ إلى أيِّ شيء وبقيت سمراء إلاهةُ جهاد النكاح أسطورةً غير موثقة – كان يهربهم من مصراتة على الشاطيء الليبي للمتوسط إلى دول شمال المتوسط الأوروبية ( اليونان وإيطاليا وفرنسا .. )، تشكِّل سردية المصراتي وحواراته مع كريم رحّال أكثر الحوارات عمقاً لفهم التحوَّلات التي أصابت جيلاً كاملاً من اليساريين وانتقالهم إلى الفكر السلفي الجهادي وفكر الإخوان المسلمين بعد انكسار مشروع الثورة الفلسطينية عام 82 وخروجها مهزومةً من لبنان إلى منافٍ أشدَّ قسوةً من الموت . الراوي الثالث في الرواية هو « وليام « الذي يكتشف أن أباه هو كريم رحال من علاقةٍ عابرةٍ مع أمه فيرا السويدية الشقراء أثناء دورةٍ تدريبيةٍ صحفية لكريم في استوكهولم، في رواية وليام كريم رحال السويدي تقرأ عالم الشمال الأوروبي كنقيضٍ لصورة بلدان شرق وجنوب المتوسط المنكوبة بالحروب والموت والانكسارات والمآسي التي تطبع حياة البشر في هذه الجغرافيا السوداء، أما الراوية الرابعة « رشا « هذه الشابة الأردنية والتي تتخرج من قسم المحاسبة من جامعة مؤتة وتهاجر إلى المانيا بحثاً عن جدِّها لأمها المهاجر والمستقر بالمانيا والذي يملك ثرواتٍ وقصوراً وشركاتٍ كثيرة ترث معظمها «رشا « التي تستقر بعد انتحار جدها في كوبنهاجن وتدرس الدكتوراة بعلم النفس وتدير شركات وعقارات جدها المنتحر، وتتعرف على كريم رحال عبر الفيسبوك ويلتقيان ويشكلان ثنائياً تدور بينهما حواراتٌ سيكولوجيةٌ عميقةٌ تُظهر جانباً من مشكلات وترف حياة الجانبٍ الآخر والنقيض لحياتنا - حياة الشمال الأوروبي الغربي : الدنمارك والمانيا تحديداً – وأجواء ومناخات هذه البلدان والحريات ورغد العيش الذي تعيشه شعوب هذه البلدان مقارنةً بالموت والخوف والانكسار والهشاشة التي تعيشها بلداننا – شرق وجنوب المتوسط -، وكأن دخول هذين العالمين كان مقصوداً من الروائي لإبراز هذا الظلم التاريخي التي تعيشه بلداننا مقارنة ببلدان أوروبا المحاذية لنا والواقعة إلى شمالنا قليلاً . كانت لغة الرواة لغةً عاليةً وفي فقراتٍ كثيرةٍ كانت لغةً شعريةً عكست ثقافة هؤلاء الرواة وتنوع معارفهم وخبراتهم، باستثناء الفصول التي كان بها وليام راوياً، وأظن – روائياً - أن كريم رحال هو من قام بترجمة ايميلات وليام من اللغة الانجليزية للعربية وبرزت بها طريقة ولغة كريم رحال المثقفة والمليئة بالمجازات والسيكولوجيا . كريم رحال هو مركز الحدث في هذه الرواية وتدور حوله وتتقاطع معه ومن خلاله رواية كلِّ الرواة، وكريم رحال يمثِّل جيلاً من الشباب العربي الذي دفعته ظروف حياته الصعبة إلى الارتماء بأحضان الفكر السلفي الذي انتشر بقوةٍ في المساجد في كل المنطقة العربية وأنتج جيلاً مُستلَباً ومنغلقاً وعنيفاً وأحادي الرأي والرؤية والفكر، ولكن وبمعونة رحال والد كريم المستنير فكرياً ومحبة صديقته في الجامعة ريهام يبتعد كريم عن الانجرار بعيداً وراء هذا الفكر السلفي – وإن بقي يحنُّ للطف الشيخ عكرمة السلفي الذي واساه واحتضنه في مسجد « الخلفاء الراشدين « في حي نزال بعمَّان، في شخصية كريم رحال تكمن مقولات الرواية الرئيسية : فهو شاب ذو خلفية سلفية وجهادية وفي الجامعة يتجه نحو اليسار أكثر وبحكم عمله كصحفي يطَّلع على أهوال وحروب وجرائم وقتل وموت مجاني ولا إنسانية كلّ ما يجري في شرق وجنوب المتوسط، ثم أن ظهور وليام السويدي في حياة كريم وظهور « رشا « طالبة الدكتوراة بعلم النفس في الدنمارك أعطى الجانب الآخر من صورة كريم رحال وأعطى صورة الشمال الأوروبي المترف والذي مشاكله ذات مناخاتٍ سيكولوجيةٍ مترفةٍ في مقابل الموت والدم والجوع والانكسارات والمؤمرات التي يشكِّلُ هذا الشمال المُترف جزءً منها، انهما صورتان متضادتان يحملهما كريم رحال في داخله لذلك هو هشٌّ وسهل الانكسار والانهزام والتراجع والتقوقع والانطواء. هذه الرواية ترصد التحولات البطيئة والكبرى التي اجتاحت شرق وجنوب المتوسط منذ كامب ديفيد مروراً بالزلزال الكبير عام 82 وما تلاه من سقوطاتٍ واستسلاماتٍ عربيةٍ أمام المشروع الصهيوني، وصولاً للعراق وتكسيره وتدميره ولبنان واللعب بمكوناته، ومن ثم إطلاق المشروع الأمريكي المسمى « الربيع العربي « الذي فتَّت المُفتت ودمَّر المُدمَّر والقى الشعب العربي والمثقف العربي في أتون محرقةٍ كبرى قادت ابو حذيفة المصراتي هذا اليساري المتحول للإخوان المسلمين أن يكون تاجراً لنقل البشر من جنوب وشرق المتوسط إلى شمال المتوسط الأوروبي : إنه حلقة الوصل بين موتين كما كان حلقة الوصل بين فكرين متناقضين، كذلك كان كريم رحال حلقة الوصل بين موتين بطريقةٍ مختلفةٍ ولكن صدعها كان كبيراً ولا يمثل كريم بصورته الفردية بل يمثل جيلاً من المثقفين العرب المنكسرين والهشين والتائهين، في هذه الرواية أشياءٌ مسكوتٌ عنها قصداً وإن كان لها إشاراتٌ غامضةٌ في حواراتٍ كثيرةٍ بين كريم رحال وبعض شخصيات الرواية وفي صورٍ كثيرةٍ كانت تحملها ايميلات الدكتور لطفي الإدلبي من قلب المأساة في الشمال السوري ومخيمات اللجوء في تركيا. تنتهي الرواية نهايةً غير ناجزةٍ: فوليام كريم رحال يهاجر إلى أمريكا وينفصل كريم عن رشا الدنماركية ويعود إلى عمان ليتابع عمله كصحفي مهشم وتائه ويبحث عن جزيرةٍ هادئة في هذا البحر الأسود المتوسط، الدكتور لطفي الإدلبي يموت وأسرته في زلزال غازي عينتاب وتنقطع ايميلاته لكريم، حاتم ابن « أبو حذيفة المصراتي « يغرق في احدى رحلاته من مصراته إلى اليونان وتُلتقط جثته على شاطيء إحدى جزر اليونان المهجورة، أبو حذيفة يواصل موته ورعايته للموتى بين مصراته وأوروبا، رشا تعود وحيدةً لكوبنهاجن وربما ستنتحر كجدِّها الذي بقي يحتفظ ببارودته التي قاتل فيها بيافا عام 1948 معلقةً فوق راسه في قصره في الريف الألماني البارد والبعيد . هذه الرواية هي رواية الانكسار الكبير والهزيمة الكبرى لمنظومات دولنا في شرق المتوسط وجنوبه وضياع شبابها في أمواج هذا البحر الأسود المتوسط والذي منذ آلاف السنين ما زال بحراً للموت والقتل والجرائم والحروب الدائمة التي يقودها الشمال المترف ضد هذا الجنوب البائس والميت والحزين . في هذه الرواية حضرت وهران بحزنها الأندلسي القديم وموريسكييها وحضرت الأسكندرية بتاريخها المليء بالدم والحروب وحضرت مصراتة وليبيا بجرحها الكبير النازف وحضرت سوريا ولبنان الدائمتا النزيف والدائمتا المقاومة والنهوض، وحضرت فلسطين وحضرت غزة الشهيدة عبر الصحفي الغزاوي « عساف « ابن بيت لاهيا والذي يقرر أن يعود من الاسكندرية إلى غزة وبيت لاهيا التي حياته كما قال لكريم كلُّها هناك، يكتب كريم رحال في واحدٍ من فصول روايته ص 247 : « عساف صار بعيداً وغامضاً، والبحر يقف جداراً من ماءٍ أسود حول غزة، لا شيءَ يشبهها إلا أساطيرُ لم تنبت في خيال البشرية « الزمن في هذه الرواية لم يكن خطياً بل كان زمناً دائرياً يتقدم ويعود للخلف ثم يتقدم ويعود ثانيةً للخلف وللجذور القريبة في متتاليةٍ زمنيةٍ مؤلمةٍ وقاسيةٍ تنصهر فيها كلُّ الأزمان لتُشكِّلَ زمناً واحداً وموتاً حلزونياً متصاعداً . ختام الرواية كان ختاماً جنائزياً اختتم به هزاع البراري روايته الملحمية على لسان شخصيته الرئيسية « كريم رحال « بهذه اللغة الكثيفة والسوداء : « ماء البحر يمتليءُ بالأشلاء، الأمواج تكدس الجثث المنتفخة والمتحللة، كلهم في الماء موتى، كلهم هنا أمامي، شيئاً فشيئاً يتلاشى اللون الأزرق، يختفي تماماً، أصبح ماء البحر أسود بالكامل، صار بحراً من فحمٍ سائلٍ ثقيل الحركة تفوح منه رائحةٌ غريبة،..... شعرتُ بقشعريرةٍ تركض على جسمي البارد، كنتُ وحيداً في مواجهةِ بحرٍ أسود قاتم، كنتُ وحيداً تماماً « – شاطيء أخير - ص254.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 04-10-2024 07:31 مساء
الزوار: 220 التعليقات: 0