|
عرار:
مهدي نصير «سَهَرُ الورد» هي الرواية الثالثة للدكتور نضال الصالح بعد روايتيه «حبسُ الدم» 2019 و»خبر عاجل» 2020 بالإضافة لمجموعاتٍ قصصيةٍ عديدةٍ ودراساتٍ وأبحاثٍ نقديةٍ تناولت الثقافة العربية المعاصرة وتجلياتها المختلفة، والكتور نضال الصالح مثقفٌ ومبدعٌ ينتمي لأمَّته وبلادهِ وثقافتها وتحدياتها، وهو رئيسٌ سابقٌ لاتحاد الكتَّاب العرب في دمشق في الفترة من 2015-2019، وهو أستاذ النقد الدبي الحديث في جامعتي حلب ودمشق من 2001 حتى الآن، سأقرأ هذه الرواية الثرية والصادرة عام 2022 عن «الآن ناشرون موزعون» وتقع في 170 صفحة، سأقرؤها ضمن المحاور والنقاط التالية: أولاً: هذه الرواية مولودةٌ من رَحِمِ الحرب وما زال الدمُ عالقاً في حروفها ومقاطعها وبكاءِ رواتِها، هي رواية الخراب والريح الصرصر العاتية – حسب تعبير الشيخ يحيى شهاب الدين السهروردي المولد والحلبي الهوية –، هي روايةُ الموت والحقد والتآمر والتمزق والخيانة والخوف والمواجهة والانتماء والحب الذي ينمو عميقاً وأسطورياً في أجواء ومناخات الحرب وإيقاعاتها القاتلة، هي رواية حلب أقدم مدينةٍ مأهولةٍ في التاريخ وأعرقُ مدينةٍ وأثرى مدينةٍ وأكثرُ مدينةٍ غزاها الغُزاةُ وأراقوا دمها عبر التاريخ وما زالت واقفةً وتقول هأنذا حلبُ الشهباء باقيةٌ وخالدةٌ وإلى الجحيم ذهب كلُّ غُزاتي الفاشلين، هذه الرواية رواية التنوع الثقافي والإثني والديني الذي صهرته سوريا العريقةُ في بوتقتها وكوَّنت أجمل وأرقى وأعلى الثقافات الإنسانية. ثانياً: تؤرِّخ هذه الرواية للحظةٍ قاسيةٍ وحارقةٍ وعميقةٍ في تاريخ بلادنا الشامية عبر عائلتين حلبيتين وصراعهما للبقاء في أتون هذه الحرب وهذا الدم وهذا الحقد وهذا التآمر وهذا الجنون الذي اجتاح سوريا وخرَّب ودمّر وأحرق، هاتان العائلتان كانتا نموذجاً للعائلة السورية التي عاشت وواجهت هذا الخراب، ومثَّل هاتين العائلتين كرواةٍ أساسيين لهذا العمل اثنان من أبنائهما هما: الدكتورة ورد القصَّار أو « سَهَرُ الورد « كما سمَّاها السهروردي في متن الرواية وهي المسيحية الأرثوذكسية المثقفة العروبية المنتمية لحلب وسوريا وتاريخهما وتراثهما ومستقبلهما، وتحمل الدكتورة ورد الدكتوراة في الأنثروبولوجيا من جامعات فرنسا، والدكتور المهندس يحيى بن حسيب بن حسن الحلوي المسلم والمثقف والمنتمي لبلاده وتراثها وعراقتها ومستقبلها، يتنقل السرد عبر هذين النموذجين العاليين ويطوف بابناء هاتين العائلتين ومعاناتهم وقهرهم وانكسارهم وموتهم وفرحهم وأحلامهم الصغيرة، عائلة يحيى الصغيرة أمُّه المجيدة ابنة الحسب والنسب والتي تعاند عائلتها وتتزوج من الفقير عبدو وتنجب منه ياسمين والتي تتزوج من ابن أحد داعمي الجماعات الإرهابية المسلحة وتتعثر حياتُها مع زوجها لتصل إلى الطلاق، وياسر ويعرب والتوأمان يحيى ويُمنى، وعائلة سَهَرُالورد الصغيرة أبوها وأمُّها وشقيقتها لُجين المخطوبة لشاعر مرهفٍ ومسيحيٍّ كاثوليكي ومجنَّدٍ في الجيش العربي السوري للدفاع عن حلب ضدَّ كلِّ الغُزاةِ والإرهابيين والذي تختطفه بعض الجماعات المسلحة وتطالب بفديةٍ لإطلاق سراحه والذي يبشِّرُ السهروردي بعودته وإطلاق سراحه، وشقيق ورد المريض ميخائيل وعمُّها الجشع ادوارد الذي يقضي غرقاً في البحر أثناء محاولته وعائلته الهجرة هرباً من الحرب إلى اليونان، عبر هاتين العائلتين وابنيهما (ورد ويحيى، اللذين ينسجان أجمل قصةِ حبٍّ حلبيةٍ نشأت في اتون الحرب وتحتَ وقع فذائفه ورصاصِ قناصته يتحرك السردُ صعوداً وهبوطاً، فرحاً وبكاءً، موتاً وعُرساً، هروباً وتحدياً، استسلاماً ومقاومةً، وحُبَّاً اسطورياً بين المسلم والمسيحية الذي جسَّد اعلى صور التنوع والتسامح والإنسانية والتي بدونها لم يكن ممكناً احتمال هذه البشاعة التي غزت سوريا وحاولت اقتلاعها وتدميرها. ثالثاً: السهروردي شهيدُ حلب والذي قُتل فيها بتحريضٍ من الحقودين والأدعياء والفاشلين في نهايات القرن الثاني عشر الميلادي بعد إشعال صدر صلاح الدين الأيوبي وابنه الأمير الظاهر أمير حلب على فساد عقيدة شهاب الدين السهروردي، يتقمص يحيى أولاً ثمَّ يحيى وورد معاً روحَ الشيخ القتيل السهروردي ويقومان بإحيائه واستدعائه ليكون شخصيةً أساسيةً من شخصيات الرواية ورواتها، في مفارقةٍ لغويةٍ جميلةٍ - وأظنها مقصودةٌ - في اقتسام ورد ويحيى تقمص شخصية السهروردي حيث أخذ يحيى منه اسمه الأول « يحيى « وأخذت ورد لقبه وشهرته « سَهَرورد « فكان هذا التقمص مزدوجاً وشكَّل « يحيى وسهرورد « صورة ومحنة السهروردي المعاصرة. رابعاً: ليس هناك في هذه الرواية راوٍ واحدٌ عليمٌ، بل كان رواةٌ خمسةٌ تبادلوا وتناوبوا على رواية احداث هذه الرواية عبر مخططٍ هندسيٍّ يتبادل الرواة مواقعه وكأنهم عازفون لهذه التراجيديا الإنسانية، كلٌّ يعزف نوتته وبصمت ليعزف آخرٌ وثالثٌ ورابعٌ وخامسٌ ثُمَّ ليعزفوا معاً لحناً إنسانياً انتصر فيه الحبُّ والتاريخ والعراقة على الحرب والغُزاة الفاشلين والطارئين على التاريخ، قاد اوركسترا السرد في هذه الرواية الرواةُ الخمسة بالتناوب وهم: الدكتورة ورد « سَهَرُ الورد « والتي تبدأ السرد وتختمه في نهاية الرواية لذلك كانت هي مايسترو السرد وموجهته حيث عزفتْتسعاً وعشرين نوتةً عبر هذه التراجيديا والتي تداخل معها صوتُ الشيخ القتيل السهروردي في مقاطع كثيرةٍ وكذلك صوتُ يحيى ومعاناته وأصواتُ عائلتها الصغيرة، الساردُ الثاني كان يحيى عبر صوت «كأن الريح» حيث عزفَ يحيى ثمانيةً وعشرين نوتةً تداخلت فيها أيضاً أصوات الشيخ السهروردي وصوتُ ورد وأصواتُ عائلته الصغيرة وخصوصاً صوت توأمه يُمنى التي تُقتل على يد أحد القناصين في أحدِ أسواقِ حلب وهي الفنانة التشكيلية الرقيقة والتي تتنبأ بموتها قبل وقوعه في نوتةٍ صاخبةٍ ومؤلمةٍ من نوتات يحيى «كأن الريح»، أما السارد الثالث فهو مؤرخو سيرة السهروردي عبر استدعاء ما كُتبَ عن سيرته ومحنته في بطون الكتب، وحمل هذا الصوت عنواناً هو « المؤيد بالملكوت « وعزف فيه المؤرخونثلاثَ عشرةَ نوتةً تداخلت أيضاً فيها أصواتُ المؤرخين وتناقضاتهم وتهويلاتهم، السارد الرابع كانَ استدعاءً لصوتِ السهروردي وأرائه عبر مقاطع مختارةٍ من أشعاره وحملت عنوان « إشراق « وعزف فيها السهروردي ثلاثينَ نوتةً ونشيداً كانت تتقمص توترات السرد وتؤشر عليها، أما السارد الخامس والأخير فهو صوتُ مؤرخي حلب ومثقفيها الذي يستعيد تاريخ وعمران ومساجد وكنائس وبقاع حلب ويستعيد تاريخ غُزاتها عبر التاريخ وصولاً لمحنتها المعاصرة، هذا السارد حملَ عنواناً لافتاً « نهر الذهب « والذي أرَّخَ لدمار أعرق المباني وأعرق المساجد والكنائس والمآذن التاريخية في مدينة حلب وكأن هذا النهر من الذهب ينقلبُ لنهر من الدمِ والرُّكام لأعرق ما أنجزه الإنسان عبر تاريخه. خمسةٌ من الرواةِ يحيطون بحلب ليحرسوها من الريح الصرصر العاتية التي كانت تتقدَّمُ نحوَ سوريا وحلب وكل المدن السورية العريقة، أحاط هؤلاء المخلصون بحلب ليحموها ويحرسوها ضدَّ الوحش الأسطوريِّ الذي طالما هزمته سوريا في كلِّ أساطيرها التي كانت دائماً تتوقع هذا الوحشَ وتنتصر عليه، إنها التراجيديا السورية في أعلى تجليات حضور الأسطورة في جسدها الواقعي، لذلك استنفرت هذه الرواية كلَّ أبناء سوريا وحلب ليواجهوا هذا الوحش القادم من وراء البحار. خامساً: كانت مشاهد الحبِّ الجسديِّ بين ورد ويحيى أعلى ذُرى السرد في ردٍّ عميقٍ على الحرب والدمار والموت بهذا المطر الإنسانيِّ الذي ينتصرُ على كلِّ الخوفِ والموتِ والحقدِ والفشلِ ويعزف أعلى صور المقاومة والتحدي، نقرأ هذا المقطع من سردية «سَهر الورد»: «أشهقُ، أزفرُ: «يحيى، يوحنا، حبيبي»، وكان سريرُ يحيى في غرفة النوم يخفقُ على إيقاعِ جسدينِ يصخبانِ بالحياة، ويهزأن بأصواتِ الرصاص التي كانت تزداد عواءً على بعد بنائينِ أو أكثر، وعندما يبلغانِ رعشهما معاً يتهاطلُ من غيرِ مكانٍ في الغرفةِ صوتٌ يشبه صوتَ الشيخ شهاب الدين: أحدٌ أحد « ص 98. سادساً: يؤشر يحيى وورد في سرديتهما إلى الخراب في المؤسسات السورية وخصوصاً التعليم العالي والذي قاد لهذا الخراب الكبير في بنية المجتمع السوري والذي وقع فريسةً سهلةً لبعض الوقت لدُعاة التعصب الديني والمذهبي والعِرقي والذين حاولوا تمزيق سوريا عبر تمزيق أعلى مكوناتها وأرقاها وهي التنوع والاختلاف واحترام هذا الاختلاف عبر التاريخ، نقرأ هذا المقطع من سردية «سَهَرُ الورد»: ص 109 « – صحيح أنَّ في النظامِ مسؤولين ليسوا أقلَّ عُهراً، ولكن..، قاطعتُه متسائلةً: وبعدُ يا يحيى؟ - لا بعد ولا قبل يا سهر الورد، لا يمكن لأحدٍ، كما أقدِّر،أن يعرفَ متى سيتوقفُ نهر العماء هذا، ما يحدثُ ليسَ حرباً بل حروبٌ، مواجهةٌ بين إراداتٍ وقوى ومصالح، والدَّمُ سوريٌّ والموتُ سوريٌّ والدمار سوريّ..... « ص 109. سابعاً: صوَّر سرد يحيى وورد كثيراً من الشخصيات الانتهازية والفاشلة والحقودة والتي تحتمي بالأجهزة الأمنية لتحقيق مآربها والإيقاع بمنافسيها، كشخصية الدكتورة نجاح الدهَّان أو سُجاح كما سمَّاها يحيى وهي الفاشلة والمخبرة والتي انقلبت على الدولة السورية وساندتْ أعداءَها، كذلك الدكتور رياض حريري ووليد وخُزام وغيرهم الكثيرُ من الأدعياء والفاشلين، نقرأ هذا المقطع الذي تتقاطع به سردية ومحنة السهروردي بمحنة يحيى وورد عبر رواية يحيى « كأن الريح (17) «: «سألتُ الشيخَ شهابَ الدين عن ابني جُبل، زين الدين ومجد الدين، اللذين كانا من أكثرِ فقهاءِ حلب تشنيعاً عليه وإلحاحاً على غباحةِ دمه، فضحك حتى بانت نواجذهُ على غير عادتهِ عندما يضحكُ أو يبتسم، وسألني بدورهِ عن شبيهيْ حاوية القمامة كما أسميهما، وليد وخُزام، اللذين لم يكن من شاغلٍ لهما في ليلهما ونهارِهما سوى مطاردة أخباري، ومعرفةِ كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من شؤون حياتي» ص 99. ثامناً: في سردية سَهرُ الورد الأخيرة والتي تختتم بها الرواية وتعود من المطار ملغيةً انتدابها للتدريس في جامعات فرنسا لتعود لحلب ويحيى وسوريا ولتقاوم مع يحيى « الذي لا يحيا إلا بحلب « كلَّ هذا الخراب، نقرأ هذا المقطع الافتتاحي للرواية والختامي أيضاً: «الآن، أشتاقُ:يحيى كما تشتاقُ أرضٌ مرهقةٌ باليباس مطراً يعيد إليها الحياة، السهرورديَّ كما تشتاقُ طفلةٌ قبلةً من أبيها تعني لها الحياة، حلبَ كما تشتاقُ حلبُ الحياة، الآنَ، أشتاقُ أصابعَ يحيى، رعشَ صوتِهِ وهو يطلقُ عصافيرَ شغفهِ من أقفاصها بعد كلِّ ملحمةٍ للخصبِ كنا نسرقها على غفلةٍ من الموتِ الذي كان ينشبُ مخالبَه في جسدِ حلب، يحيى الذي ظلَّ، طوالَ ما مضى من الحربِ يرفضُ مغادرةَ حلب وكانت لازمتُهُ لي: يحيا يحيى في حلب» ص 161 تاسعاً: ملاحظةٌ لا بدَّ منها على سردية « إشراق « وهي مقاطع منتقاةٌ بعناية من أشعار السهروردي، حيث وقعت بها مجموعةٌ من الأخطاء الطباعية أدَّت إلى إختلالٍ عروضيٍّ لبعض الأبيات في هذه المقاطع العالية شعراً ولغةً وذوقاً، وقعت هذه الأخطاء في المقاطع: إشراق 3 و إشراق 8 و إشراق 22 و إشراق 25، كنموذج لذلك ورد في إشراق 25: «ما على من باحَ من حرجٍ مثلَ ما بي ليس يــــنــكـــتـــمُ زعــــمـــوا (أنـــنـــي) أحـــبــــكــــمُ وغرامي فوقَ ما زعــــــــــــمـــــوا» ص142 وهذه المقطوعة من وزن المديد وينكسر المديد في الشطر الأول من البيت الثاني وكان يجب أن يكون «زعموا أني أحبكموا» عاشراً: لغة الرواية كانت لغةً عربيةً فصيحةً مشرقةً سلسةً يوميةً تداخل معها بعض الألفاظ الشعبية الحلبية الحميمة والمحببة وبعضُ الزغاريد وأغاني الأعراس والأفراح في حلب، ومثالٌ على ذلك: إشّو، يا مو، العدرا.. الخ، كذلك زغرودة أو هنهونة المجيدة في عرس ابنها ياسر: «أويها عريسنا يا واحد أويها عريسنا يا تنين أويها يلي ما بتزلغط أويها تعدم العينتين» ص150 في هذه الرواية مثقفان عربيان سوريان حلبيان أحدهما مسلمٌ والأخرى مسيحيةٌ أرثوذكسية وكلاهما ينتمي لعروبة سوريا وحلب وتراثهما وناسهما، وفي خضمِّ معاناتهما وانتمائهما يتقمصان ويستعيدان شخصيةً حلبيةً عاشت في حلب وقُتلت ظُلماً فيها على يد الإنتهازيين والفاشلين والمدلسين باسم الدين في القرن الثاني عشر للميلاد، هذا الشيخ هو الشيخ القتيل شهاب الدين السهروردي والذي يصبح شخصيةً حيَّةً تتحرك عبر ورد ويحيى، ويوجِّههما الشيخ الشهيد لمواجهة الخراب والموت الذي قسَّم حلباً لحلبين شرقيةٍ وغربيةٍ يتحكَّم بهما عصاباتٌ حاقدةٌ ومأجورةٌ وفاشلة، وانتصرت حلب وانتصرت ورد وانتصر يحيى على كلِّ هذا الخراب، وعاد السهروردي بوجيهه الجميلين إلى الحياةِ من جديد، انتصرت «حلب العرب والأكراد والأرمن والشركس و.. القلعة، والسوار، والبواب، والمدارس الدينية والجوامع واكنائس والبيمارستانات والخانات والحمامات والزوايا والتكايا..» ص 158. هذه الرواية روايةٌ تستحق أن تُقرأ وأن يُحتفى بها لتكريس القيم الإنسانية العالية التي تحملها في كل حرفٍ وكلِّ سطرٍ وكلِّ فقرةٍ من سردية رواتها الخمسة الحلبيين. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 28-10-2022 08:43 مساء
الزوار: 643 التعليقات: 0
|