|
عرار:
مهدي نصير «القدس وحدَها هناك» للمناضل والمثقف والروائي محمود شقير، هي ليست قصصاً قصيرة جداً كما سمَّاها مؤلفها، وهي ليست متتاليةً قصصيةً كما سمَّاها الدكتور محمد عبيد الله، هي كما قرأتُها مقاماتٌ مقدسيةٌ عتيقةٌ وعريقةٌ تتشابك وتلتقي وتفترق وتفرح وتحزن وتذبل وتزدهر، هي القدس كما رآها محمود شقير بحزنها، باحتلالها ومغتصبيها، بعائلاتها وصباياها وأحلامهن، بشبابها وتشردهم وغربتهم وانتماءهم وحزنهم واعتقالهم واستشهادهم، هي أحلام خديجة ورباب وأسمهان وجانيت وسلطانة وشاهناز، هي قصص الحب والعشق والخوف والحلم والأمل، هي القدس كما هي الآن وحيدةٌ ووحدها هناك تحت بساطير المستوطنين وجنود يورام قائد شرطة القدس الصهيوني الذي صوَّره محمود شقير كأبلهٍ وتافهٍ أمام عنفوان ثمانية عشر قرناً وطبقةً تتخفى فيها القدس عبر تاريخها وأزمانها، هذا اليورام التافه والذي لا يملك إلا أن ينتحر برصاصة مسدسه الصهيوني، سيذهب هذا الورمُ الأبله وستبقى القدس شامخةً وعاليةً وعصيةً على الغُزاة. كأن هذه السردية براويها الذي يطوف ويستحضر القدس من ملكي صادق اليبوسي وصلاح الدين الأيوبي وتنكز المملوكي والحاكم العثماني الذين يظهرون في شوارع القدس ويراهم الراوي وتراهم رباب ويراهم يورام الغازي الصهيوني المرعوب منهم والمرعوب من هذا التاريخ الذي لا يموت لهذه المدينة المعجزة والتي يصعب على هؤلاء الأقزام أن يمتلكوا عنفوانها وأنوثتها وتاريخهاويصعب عليهم أن يدجِّنوها. في مشهدٍ لهذا اليورام التافه وهو يبحث عن محددة الياس وبدر الدين وعبد النور الواردة أسماؤهم ومحددتهم في واحدة من الوثائق القديمة التي تؤرخ لمدينة القدس ص54 : «يوم استبدَّ بيورام السُّعال وهو يفكر في أمر المحددة التي قد يستغلها الفلسطينيون لصنع مواسير لصواريخهم، همَّ بإرسال فرقةٍ من الشرطة لتفتيش المحددة، ولاعتقال الياس وبدر الدين وعبد النور في حالة ضبط أية مواد معدنية تثير الشبهات، يورام أثنى على نفسه لأن لديه حِسَّاً أمنياً يقظاً لا يعرف المهادنات». من الشخصيات الحيوية في هذه السردية هي شخصية رباب الشاعرة وزوجة الراوي وابنة خديجة وبائع السمك عبد الرزاق وشقيقة المعتقل دائما عبد الرحمن وشقيقة أخيها الأكبر مروان الذي غاب بحثاً عن امرأة عشقها والذي تستعيده أمه خديجة في ليالي قلقها وحنينها وشوقها لفلذة كبدها الغائب، ورباب في مشهدٍ من هذا النص تمزق قصيدتها عن مدينتها لأن وجعَ المدينة أكبرُ من قصيدتها وأكبرُ مما تحتمله الحواس « ص 80. كذلك كانت شخصية سوزان السائحة الفرنسية التي تقيم في القدس القديمة وتكره المستوطنين الخمسة البشعين، وكانت ذات معنى عميق قصة جانيت ومصطفى عم عبد الرزاق وعشقهما العابر للأديان واستشهاد مصطفى في معارك الدفاع عن القدس عام 1948 وتذكرها وبكاؤها وإخلاصها لهذا الحبيب الشهيد. هذه السردية التي تبدأ من نقاط بعيدةٍ ومبعثرةٍ وغامضةٍ في بداياتها تعود لتتضح وتلتقي في شبكة من العلاقات المقدسية البسيطة والمتشعبة والعميقة الجذور. هذه السردية المقدسية العميقة الطازجة الملآى بالحزن والخوف والحب والتحدي والثقة بأن كلَّ هؤلاء الغزاة ذهبوا وسيلحق بهم هؤلاء الصهاينة، وانتحار يورام قائد شرطة القدس الصهيوني الخائف دوماً من تاريخ هذه المدينة رمزيةٌ عالية على مآل هؤلاء الغزاة. انها سرديةٌ تنبض بالحياة وتنبض بالقدس وتقول لنا إننا هنا باقون وسيذهب كلُّ هؤلاء الغزاة. تحية كبيرة لإستاذنا محمود شقير المقدسي الأصيل القابض على جمر القدس والساكن في روحها وتاريخها العميق. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 02-07-2021 10:22 مساء
الزوار: 409 التعليقات: 0
|