|
عرار:
الناقد فوزي الخطبا يقع الديوان في 182 صفحة من الحجم المتوسط ويضم 77 قصيدة ويجمع بين القصيدة العمودية وشعر التفعيلة، يزخر الديوان على محمولات شعورية وجمالية ومعرفية ونفسية وعاطفية وطاقات تعبيرية، وتجليات في الأنا والذات والآخر وفضاءات من الصور والأخيلة ومرجعيات معرفية وتشكيلات بلاغية ولغة جوانية شفافة وتركيبات إيقاعية بصرية منسجمة مع المعاني والمباني تخلق إيقاعات متجانسة وومضات فنية ومتعة جمالية تبعثُ في القلب صدى ومتعة وجمال. لقد جاءت قصائد الديوان ثرية في موضوعاتها العالية في بنائها الفني، جاءت من حنايا القلب ووجع السنين ومرّ الأيام وقهر النكبات والنكسات على هذه الأمة المغلوبة على أمرها، فلسطين حاضرة في الديوان وهي جنة الخلد على الأرض كما وصفها الشاعر ومهد الفوارس قيس ويمن وأرض البطولات والانتفاضات المباركة، والقدس مسرى النبي وهي أولى القبلتين وثاني الحرمين الشريفين ومهد المسيح وعلى أرضها المباركة تنزلت الأديان الثلاثة، فلسطين كما تصورها قصائد الديوان الجرح النازف الذي يدمي ولم يجد من يطبه. من قصيدة (يا جنة الخلد): يا جنةَ الخلدِ لا أنساكَ من وطنٍ أسرى إليه رسولُ الله واعتَرَجا مهدُ الفوارسِ من قيسٍ ومن يمنٍ ومَهبِطُ النورِ مؤتلقا ومنبلجا وساحةُ الغارِ أرَّجَ تُربَ ابطُحِها دمُ الشهادةِ هتاناً وممتزجا نابُلُسُ فيها جبالُ النارِ قد سامتْ وجهَ العدوِ فضاقَ الكونُ وأرتجّا فلسطين في ديوان الكواملة صورة المجد والكبرياء والشهادة والتاريخ والموقف والرؤية والتحدي وفي قصيدة (ذكرى النكبة) تنتظر فلسطين الحرية وسنابك خيول الأمة تدك معاقل أعداء الإنسانية، فمن يستورد المرتزقة وشذاذ العالم لبناء مستوطنة لا يخرج إلا بالدمِ والسيف والنار: فلسطين يا غادة مسبية في آسرها البغيض ترقب الحرية و ترهف الأسماع عله يردد الصدى سنابك عربية يعربد الشذاذ في ذراها ونحن حولها نستمريء الدنية هذه رؤية الشاعر الثائر عندما يكون في الصفوف الأمامية من قضايا أمته المصيرية، والكواملة ابن قضية فثورته مشروعة ثورة كرامة وحق وعدل. ومن جماليات الديوان يتحدث عن قصيدة (أبي) يتحدث عن الوالد الذي خبر الحياة بحلوها ومرّها فهو كالنخلة الرائية الذي يستشرف الغيب والطفل يتهجأ الحروف النازفة: أبي الذي عرفته نخلة رائية قال هكذا علمتني الندوب سد الغيب كما تسرد الساقية كنت لاه قال يا غر انتبه غابت النخلة غام السرد و أنا ما زلت غرا أتهجى حروفه النازفة في ديوان الكواملة قصائد إنسانية ووجدانية ووطنية وقومية، وفي الجانب الوجداني نفحات من الحب العذري، فالحبيبة في قصائد الديوان تمسح عن القلب الحزن والضباب، الحبيبة كالزهرة في كنف الظل، كالأغصان الفُل، شعرها يتناثر تيهاً وجمالاً وعطرها يتسرب سحراً، عيناها زوارق مبحرة، ثغرها يفيض بأكواز من العسل، قدها كالبان، صدرها شجيرة تفاح، ومن قصيدة غادة المصرف يقول: مهلا مهلا بعض الدل رفقا بالقلب وبالعقل من خلف المكتب بادية كالزهرة في كنف الظل الشعر بماذا أوصفه مسود في لون الليل مرخي يتناثر تيها ويموج كأغصان الفل عيناك زوارق مبحرة تمخر في القلب على عجل إن المتأمل إلى قصائد الوجد في شعر الكواملة يجدها تجربة شعورية شفافة تعتمد على الانسياب اللفظ الحركي النّسقي يبني تشكيلات لغوية وبلاغية متناغمة، ويعمق المنظور الدلالي الشعري في وصف الحبيبة فتغدو هذه الصور في أوصافها بصرية متجانسة في إيقاعها ودلالاتها النفسية والحسية، نجد في القصائد الوجدانية في هذا الديوان الثري إشراقات نصية فتنساب إيقاع الكلمات من الهواتف النفسية بنسيج لغوي جمالي أخاذ مشحون بعاطفة متدفقة أو قل مشحونة بعاطفة الإحتراق العاطفي والتمازج الروحي الجواني، فالحبيبة في هذا الديوان مصدر الإلهام والإبداع والنبض الذي لا يتوقف وقيثارة العزف، وراعية الأحلام وضياء القلب ومبعث الآمال والعين المبصرة. في شعره نفحات رومانسية شفافة تضيء القلب تشفي المواجع والألم تبعث في النفس الراحة، وكأنه من خلال الوجد يسعى إلى الخلود مثل الشعراء الرومانسيين اللذين يروون في الحب الوجع الشافي من وجع السنين وجفاف الأيام، تأتي القصائد بأنساقها الجمالية، تصويرية وبحس شعوري وتأملي وتكثيف نسقي متآلف في غاية البراعة، متناغمة منسابة من خلال تشكيلات لغوية وبلاغية من عبر مخيلة مترحبة واسعة في آفاقها، في شعره ألق جمالي ونبض شعوري واستبطان داخلي وتنامي جمالي ملفت للنظر بما تحمل الكلمات والحروف من تناغم إيقاعي مشحون بعاطفة وشاعرية مرهفة. إن هذا الديوان يفيض بمحمولات شعورية داخلية صادقة يستذكر الماضي بما فيه من ألم ومأسي وأوجاع وآمال برّاقة وزيف وأمراض وبلاء وظلم وطغيان، فالوطن العربي من المحيط الهادي إلى الخليج الهادر في كل ركن من أركانه يئن ويصرخ، لقد صرخ الشاعر الكواملة بأعلى صوته لعل من يجيب، ففي قصيدة (العام الأسود) يقول: هذه بغداد تشكو صوتها ما أسمعا هذه الشام تنادي ويحَ قلبٍ ما وعى فلسطين بقيدٍ ترتجي أن يُنزعا هل ألومكَ يا تُرى أم ألوم الرُتعا؟ في الديوان تجليات إلهية وكونية فالشاعر بقلبٍ مؤمنٍ خاشعٍ يطلب من المولى القدير المغفرة بعدما طغى على القلب الخطوب وقست، وفيه بوح أندلسي شفاف يهيم في الجمال من غرام الغيد وينثني نشوان من سحرها، وصدود غزال البيد من قصيدة بوح أندلسي يقول: الصبايا تلوح مثلما المرجان هام مني الروح وانثنى نشوان من غرام الغيدْ وفيه أيضًا استشراف الحاضر وتجليات الأنا وبث وشكوى وعتاب وأشواق وآهات فؤاد مكلوم ودفقات شعورية داخلية وزفرات حادة حارقة وإيحاءات غزلية سامية، ومثيرات جمالية أخاذة ودفقات رومانسية دافئة وإيقاعات صوتية منسابة بسلاسة بلغة شفافة مشرقة، لقد جاءت القوافي منسجمة ومتلائمة مع الموسيقى الداخلية والخارجية والتشكيلات الصوتية عبر توازن وتألف داخلي ونسق تشكيلي في براعة ومهارة عالية. تكمن قدرات الشاعر الكواملة في بناء نصوصه الشعرية بناءاً محكماً ومتماسكاً وخصوصيته التعبيرية الجمالية التي يتجاوز فيها الأنماط الشعرية المكررة والمألوفة. إن شاعرنا لا يكتب من رماد الكلمات وظلال المعاني وإنما يكتب من جمر الكلمات ونبض الحروف، بنبضٍ متدفق بروحانية شعرية خالصة نابضة بالحركة والحرارة وبنسق تصويري مجسداً الصورة الشعرية بصرياً وفنياً وكأنه يرسم لوحة فنية حركي بعيداً عن السريالي المبطن أو الرمز المغلق . و يذكرنا عنوان الديوان الخامس للشاعر المبدع احمد الكواملة بما في القصائد من إيقاعات تتماهى والمقامات الموسيقية في تراثنا العربي الأصيل، من إيقاعات مرهفة وصاخبة، كصوفي متبتل خاشع في محراب العشق الإلهي، يتراوح ما بين العشق والتجلي، والخوف والرضا، واليأس والأمل، والنور والظلام، والغياب والحضور، والأنا والإقصاء، والافتقار والامتلاء، والغضب والخضوع. لقد كان الشاعر موفقا في اختياره عتبات الديوان، بما حمل من دلالات وإيحاءات وإشارات وتناصات، وكله جاء وفق صياغات موجزة مكثفة دالة، عبر مقاطع شعرية اسماها (مقامات) وما فيها من إشارات وتأمل وإحالات تذكرنا بأمراء العشق الإلهي (الحلاج، ابن عربي، رابعة العدوية، وغيرهم) وأثره المائج بالشعرية الجوانية التي تضيء القلب والوجدان، ولعل مقطوعة (مقام الافتقار) تعبر خير تعبير عما ذهبنا إليه : يملأ فيض الكون يديّ و خراج الأرض يؤوب إلي لكني أقف على بابك في كل صباح عصفورا مفتقرا من غير جناح امنن يا ساقي الأرواح وأملأ بسناك الأقداح وفي المجموعة قصائد مكتملة في الشكل والمضمون، وومضات مكثفة مضيئة، غنية في أبعادها الفنية ومضامينها وصورها المركبة، من ذلك مقطوعة (ضمير) يقول فيها: كان يكفي إعثار بغلة في العراق لينتخي الأمير اليوم نهرٌ من دمائنا يُراق يا وحشة الضمير! و في الديوان قصائد تشي بأبعادها الأسطورية والطوباوية والتاريخية والفلسفية، وتحمل إشارات ذكية إلى الإلياذة والأوديسة وكالكامش، من اصطراعات خير وشر، جمالا وعدلا وإنسانية، ومن قصيدة (ميدوزا) يقول: إني أراك كما أرى خطوي واعرف انك الميدوز أنا مرآة روحك فانظري...* ها نحن تمثالان قد سكرا على حبحاب كأسك *ميدوزا: إلهة الحكمة في الأسطورة اليونانية لقد ساهم الشاعر في رسم وتصميم الغلاف بعناية ومهارة وتفنن، عله يبوح بتداعيات وتراتيل وهواتف داخلية ونفسية وصوفية، فيمزج الأنا مع الـ(هو)، في حالة من التجلي واللهفة والفرح، وبنشوة عالية من التوق إلى العشق والخلود الأبدي. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 19-08-2022 10:07 مساء
الزوار: 882 التعليقات: 0
|