قراءة في شعر سعيد العيسى: لواعج الشّوق وتباريح الغرام
عرار:
د. أحمد البزور يُعَدُّ سعيد جريس عبدالله العيسى شاعرًا، ومذيعًا وصحفيًا متمرِّسًا(1)، كانَ مثقفًا، وقارئًا نهمًا للشّعرِ العربيِّ والغربيِّ، وكانتْ تربطهُ علاقةُ صداقةٍ ومودّةٍ قويّةٍ مع كبارِ الشُّعراءِ، من مثلِ، عبد الكريم الكرمي، وعبد المنعم الرّفاعي، وعيسى النَّاعوري، وزكي قنصل، وجورج صيدح، وغيرهم. وُلِدَ بالتَّزامنِ مع الحربِ العالميّةِ الأولى سنةَ 1916م، بقريةِ الجمَّاسين، إحدى ضواحي مدينة يافا الفلسطينيّة. وقد اغتصبَ الكيانُ الصّهيونيّ أرضَهُ، واحتلَّ بيتهُ، وقتلَ الكثيرينَ من أهله، وهذا تمامًا ما دفعهُ، ودفعَ غيره إلى هجرِ وطنه مع المهجّرين الفلسطينيين في عامِ النّكبة 1948م. درسَ سعيد العيسى اللغةَ العربيّةَ، والإنجليزيّةَ، والتّاريخَ الإسلاميّ في الجامعةِ الأمريكيّةِ ببيروتَ، وعملَ مدرسًا ومحاضرًا في المدارسِ والمعاهدِ العاليةِ بفلسطينَ، ومعدًّا ومشرفًا على إعدادِ البرامجِ الأدبيّةِ والثّقافيّةِ في الإذاعةِ الفلسطينيّةِ بالقدس، ومحطّة الشّرقِ الأدنى بقبرصَ، وعملَ أيضًا مذيعًا في إذاعةِ المملكةِ الأردنيّةِ الهاشميّةِ بعمّانَ، إلى جانبِ إذاعةِ لندن العربيّة حتّى وفاته. توفّي العيسى بلندنَ في اليومِ الثّامنِ عشر من أيلولَ سنةَ 1991م، ونُقِلَ جثمانهُ إلى الأردن ليدفن في عمّانَ. ومن أعماله الشِّعريّة المحفوظة على التّرتيبِ في دواوينَ: همسات الأصيل 1989م، ونفحات 1990م، وأشواق البلد البعيد 1991م(2). إنَّ الشَّاعرَ سعيد العيسى من الشُّعراء المنسيين في المشهدِ الأدبيِّ الأردنيِّ، لم يلقَ اهتمامًا، كما لم تحظَ تجاربهُ الأدبيّةُ لا سيّما الشّعريّةُ ـ في حدودِ علمي ـ بدراساتٍ نقديّةٍ وأكاديميّةٍ من النّقادِ والباحثينَ رغمَ أنّ للشّاعرِ بصمةً على حركةِ الشِّعرِ الأردنيِّ والعربيِّ خصوصًا الشّعرَ المهجريَّ. عاشَ سعيد العيسى معظمَ سنِّي حياتِه في بريطانيا، وعلى وجهِ التَّحديدِ لندن، وقد حالتْ حياةُ عدمِ الاستقرارِ دونَ جمعِ نتاجهِ الثَّقافيّ. إنَّ معظمَ نتاجِ العيسى يدورُ حولَ الأدبِ، والنَّقدِ، ومراجعاتِ الكتبِ، والتّراثِ، والتَّرجمةِ من روائعَ الشّعرِ الإنجليزيّ، ما يزالُ مبعثرًا في الصّحفِ، والمجلاتِ، وأرشيفِ الإذاعات، وبهذا، لنا أنْ نتساءلَ عن سببِ إغفالِ هذا النِّتاج الثّقافيّ الزّاخر، وثمّة سؤالٌ آخر يأتي مرافقًا لهذا السّؤال وتابعًا له، وهو: لماذا لا يضمّ نتاج سعيد العيسى الثّقافيّ في كتابٍ، لا سيّما أنّه من السّهولةِ بمكانٍ جمعه، وحصر وجوده. ديوان همسات الأصيل يَضمُّ ديوانُ همسات الأصيل للشّاعرِ سعيد العيسى أربعَ وتسعينَ قصيدةً، راوحتْ بين النّمطينِ: الخليليّ والحديث، ومما يجدرُ ملاحظتهُ، أنّ المناسبةَ تحضرُ في شعرِ العيسى، وما من قصيدةٍ إلّا قدّمَ الشّاعرُ لها بمناسبةٍ وثيقة الصّلة بها؛ من خلالِ تقديمها وتذيلها تذييلاً نثريًا وإحالتها إلى مكانِ وتاريخِ نظمها في الفترةِ الممتدةِ ما بين 1952م و1989م(3). على أنّ الواقعَ يقولُ بأنَّ أغلبَ القصائدِ كما هو ملاحظٌ نظمت في بريطانيا، على ذلك، يجوزُ لي القول بأنّ الشّاعرَ سعيد العيسى يمكن عدّهُ واحدًا من الشُّعراءِ المهجريين، الذين كتبوا شعرهم خارجَ حدودِ وطنهم العربيّ. يرسِّخُ سعيد العيسى الرّومانسيّةَ في نصوصهِ الشِّعريّة شكلاً ومضمونًا، بدءًا من عنوان الدّيوان، وما إنْ نقرأ عنوانَ ديوانه الشّعريّ الموسوم بهمساتِ الأصيل حتّى يواجهنا عنوانٌ فرعي آخر، وهو: مجموعة من شعر الغربة، وبهذا، فإنَّ ثالوثَ الهمسِ، والأصيلِ، والغربة يشكِّل مرتكزًا ضوئيًا وفنيًا ودلاليًا ينطلقُ منهُ الشَّاعرُ سعيد العيسى ساعيًا من ورائه بلورت مفهوم الرُّومانسيّةِ. والسّؤال الذي نطرحهُ الآن، هو: هل الرّومانسية تتوقفُ عند درجةٍ معيّنةٍ في شعرِ سعيد العيسى أم تزدادُ وتتعدد، وما الدّافع في ظهورِ منزعِ الرّومانسيّةِ في شِعره؟ ترتكزُ الرّومانسيّةُ في شعر سعيد العيسى على العاطفةِ، والخيالِ، والطّبيعةِ، كما يغلبُ طابعُ الحزنِ، واللوعةِ، والشّجنِ على شعره، مع شيءٍ من الملاحظةِ بأنّ موضوعَ الحبِّ والمرأةِ يشكّلانِ ظاهرةً بارزةً في شعر العيسى، حيثُ يقولُ في قصيدةِ «الجراح»: أَيْقَظَتِ فِيْ قَلْبِي هَـوَىً أغْفَى زَمَانًا وَاسْتَرَاحْ وَأَعَدتِ لِيَ عَهْدَ الشّبَابِ وَكَانَ قَدْ وَلَّى وَرَاحْ إنّ الحزنَ يخيّمُ على قصائدَ الشّاعرِ سعيد العيسى ممزوجًا بالشّوقِ والحنينِ في ذاتيّةٍ مفرطةٍ بالحساسيةِ خصوصًا إذا ما علمنا أنّ الشّاعرَ عاشَ مغتربًا بعيدًا عن وطنه، وأرضه، وأهله، حيثُ يقولُ في قصيدةٍ موسومةٍ بعنوانَ «أنتِ والعيد في الغربة»: لَمَّا ذَكَرْتُــــــكِ عَــادَ العَيْشُ مُبْتَسِمًا وَحَــلّ فِيْ القَلْبِ بَعْدَ الشَّــكِّ إيْمَانُ أقْسَمْتُ مَهْمَا النَّوَى شَــاءَتْ تُفَرّقنَا ذِكْرَاكِ فِيْ خَاطِرِي رَوْحٌ وَرِيحَانُ. الشّاعرُ الغريبُ دائمُ الشّوقِ والحنينِ إلى وطنه، ولا غرابةَ أنْ يغدو الوطنُ بالنّسبةِ له فعلَ جمالٍ تذكّري، ومصدرًا رئيسًا من مصادرَ شاعريته، وعلى هذا الأساس، تجسّدُ قصيدةُ «الطّائرُ المهاجرُ» تعبيرًا واضحًا على ذلك، إذْ يقولُ: هَاجَهُ الشَّوقُ للحِمَىَ بَعْدَ حِيْنٍ مِنْ الزَّمَنْ كُلُّ رَبْـــعٍ وإنْ حَـــلا مَنْزِلٌ فِيْهِ أَوْ سَكَنْ لَيْسَ أحْلَىَ مِنْ الوَطَنْ. وهل هناك أحلى، وأجمل من الوطن، وأن يعيش الإنسان في وطنه بين أهله وأحبابه!! قطعًا لا. على هذا المنوال، يواصلُ الشّاعرُ المسكونُ بالوطنِ نظمَ قصيدته الموسومةَ بعنوان «بعيدًا عن شمسِ بلادي» مضفيًا جوًا من الشّجنِ واللوعةِ على الوطنِ، يقولُ: يَاْ بِــلادِي طَاْلَ السُّــرَى فَدَعِيْنِـي أُلـــقِ عِـبْءَ الحَيَاةِ عَنْ سِتّيْنِـــي يَاْ بِــــلادِي مَا إنْ ذَكَـــــرْتُكِ إلّا خِلْتُ فِي القَلبِ رَعْشَةً تَعْتَرِينِـي. إنّ الاغترابَ منزعٌ ومرتكزٌ رومانسيّ وصداهُ في شعرِ سعيد العيسى بادٍ للقارئ، وليس غريبًا والحال كهذه، أن يشعرَ الشّخصُ الغريبُ شاعرًا كان أو إنسانًا عاديًا بالوحشةِ، والشّوقِ، والحنينِ، وقسوةِ الوحدة، ما يبعث في النّفسِ الأسى والحزن، والواقع الذي لا سبيل إلى نفيه، أنّ ظاهرةَ الاغترابِ في شعر العيسى لم تأتِ عبثًا ولا من فراغ، بقدرِ ما دفع دفعًا للهجرة والسّفر، إذ يقولُ في قصيدة «غريب على الشّاطئ»: طَوّفْتُ فِيْ الأَرْضِ، لا عُنْوَانَ يُعْرَف لِي عِنْدَ الرَّحِيْـــــــــلِ، وَلا مِيْنَاءَ يَقْبَلنِــي اللهُ يَشْـــهَـدُ أنّ الجِسْــمَ فِـــيْ سَفَـرٍ وَغُرْبَــــةٍ غَيْرَ أنَّ الرّوحَ فِيْ الوَطَـــنِ. إنّ الشّاعرَ سعيد العيسى يحاولُ التماسَ السّلوى في جمالِ الطّبيعةِ، وبذلك، تصبحُ الطّبيعةُ ملاذًا له، وملجأً يحتمي بها، وجمال الطّبيعة بالنّسبةِ له تشكّلُ باعثًا على الحياةِ، ولإظهار موهبته الشّعريّة، وإذكاء مشاعره النّفسيّة والوجدانيّة، حيثُ يقولُ في قصيدةِ «ربيع لندن»: قِفْ تَأمَّــلْ تَـــرَ الطّبِيْعَةَ تَزْهُو فِي رِدَاءٍ مِنَ البَشَاشَةِ ضَـــافِ هَشّتْ الأرْضُ للرّبِيْعِ، فَطَوِّفْ حَيْثُمَا شِئتَ تَلْقَ حَفْلَ زَفَـافِ لا تخلو أشعارُ سعيد العيسى، بالإضافةِ إلى ذلك، من قصائدَ مجهشةٍ بالبكاءِ والرّثاء، لتغدو القصيدةُ -عندهُ- طقسًا من طقوسِ الجنائز، وضربًا من المأتم والعزاءِ، يتحرّق قلبهُ ألمًا وحزنًا على من ماتوا ورحلوا عن الدّنيا، وقد اصطادهم القضاء بسهامه، ومثال ذلك، في قصيدةٍ يرثي صديقهُ وزميلهُ في الإذاعةِ، حيثُ يقول: رَحَلْـتَ فَكَانَ زَادُكَ دَمْــعَ عَيْنِــي وَلَنْ تَشْكُـــو مِنَ الــزّادِ انْقِطَاعَـا وَكُنْتَ بِمَسْمـَعِ الدّنيَــــا مُذِيْـــعًا فَصِرْتَ عَلَى المَلأِ خَبَرًا مُذَاعَــا وَحقُّ العَهْدِ عِنْدَكَ أنْ يُــرَاعَـــى كما يجدُ القارئُ المتذوّقُ في قصائده شيئًا من التّظلمِ، والعتابِ، والشّكوى، وخيرُ ما يمثّل ذلك، قصيدته الموسومة بعنوان «شكوى وعتاب»، وقد وجّه الشّاعرُ العيسى قصيدته إلى سفيرِ الأردن بلندن آنذاك، يعاتبهُ على إغفاله توجيه دعوة إليه للمشاركةِ في حفاوةِ الوفدِ الفلسطينيّ في دارِ السّفارةِ، إذ يقولُ: مِنْ عَذِيرِي إلى السَّفِيْرِ الخَطِيْرِ مُنْذُ أُقْصِيْتُ عَنْ رِحَابِ السّفِيْرِ دُعِـي الكُلُّ للحَفَاوةِ بِالوَفْـــــــدِ سِـوَى نَــــــازِحٍ رَقِيْقِ الشّعُورِ. إضافةً إلى ذلك كلّه، يحضرُ الحسُّ العروبيّ والوطنيّ لا سيّما فلسطين بنصيبٍ لا بأس به في شعرِ سعيد العيسى، لتصبح القصيدة تنفيسًا عمّا يتحشرجُ في صدره من ثورةٍ وغضب، يقولُ في قصيدة «واحرباه»: فِــي كُــلّ عِيْدٍ لَنَا ذِكْـــرَى مُؤرِّقـــةً تُهِيْبُ بالعُربِ والإســلامِ وَاحَــــربا! لا عِيْدَ للعربِ، وَالأيـــــامُ شَاهِــــدةٌ حَتّى يَعُودَ الحِمَى الغَالِي الذي ذَهَبَـا. ختامًا، نذكّرُ بمجملِ مما سبقَ، في ما يخصُّ الشّاعر سعيد العيسى، أنّ الشّاعرَ يعدُّ واحدًا - بين قوسين - من الشّعراء الأردنيينَ المهجريين، يمتلكُ صوتًا شعريًا مميّزًا، لا يقلّ عن غيره من الشّعراء، من حيث القيمةُ الفنيّةُ والموضوعيّة، وحريٌّ بالدّارسينَ، والباحثين، وطلبة الدّراسات العليا في الجامعات خصوصًا الأردنيّة توجيه النّظر والإشارة إليه، كما أنّ المضامين الشِّعريّة تنوّعت لديه، من حيثُ الحبُّ، والمرأةُ، والوطنُ، والغربة، في قصائدَ تشفُّ عن روحٍ رومانسيّةٍ عاليةٍ، ولغةٍ مفعمةٍ بالسّلاسةِ، والرّقةِ، والعذوبةِ. إحـالات انظر، تكملة معجم المؤلِّفين: محمّد خير رمضان، ط1 ـ 1997م، دار ابن حزم، بيروت، ص 209. انظر، معجم الأدباء الأردنيين في العصر الحديث، ط1 ـ 2014م، منشورات وزارة الثّقافة الأردنيّة، ص 125. سعيد العيسى: همسات الأصيل، ط1 ـ 1989م، دار الكرمل للنّشر والتّوزيع، عمّان.