البناء الشعري في قصيدة «ما من أحد» لعمر أبو الهيجاء
عرار:
مجدي دعيبس في (معاقل الضوء) يؤكد عمر أبو الهيجاء على أنّ الشعر ما هو سوى لحظة توهج المعنى، لكنّ هذا التوهج رغم سطوعه يحتاج لعين مدرّبة حتى تجده وتكتشفه؛ أي أن الشعر ليس مجانيّا ولا مكشوفًا. وهو الديوان الثالث الذي صدر للشاعر قبل ربع قرن، وصدر مؤخرًا بطبعته الثانية عن دار هبة للنشر والتوزيع. توزّعت قصائد الديوان الست والعشرون بين التفعيلة وقصيدة النثر وهي في مجملها تعتمد على بناء هندسي مبيّت، على أنني أجد الإحاطة بالنواحي الجمالية والمعمارية والرمزية في قصائد الديوان بمقالة قصيرة ضربًا من الإجحاف. لذلك عمدت إلى قصيدة بعينها بالنظر والتحليل كمثال على باقي القصائد، وربما في هذا شيء من التّعسّف، فليعذرني من يعذر، وليعذرني من يجد في عنوان هذه القصيدة بقعة ضوء تجذب عين الناظر كما جذبتني. في قصيدة (ما من أحد) يخاطب الشاعر صديقه في مطلع القصيدة، ولم يقصد سوى مخاطبة نفسه. يطلب إليه أن يريح جسده قليلًا وأن يصل بخياله إلى أبعد مدى، فهو يصبو إلى سدرة المعنى اليانع والغض: (قليلًا أرح يا صديقي الجسد/ وخضّبْ يديك فضاء جديدا/ فهذي الأصابع ترنو حتى تعشّب وردا بدا أخضرا). ثم يدعو صديقه للتّخلّي عن نهج السابقين (قليلا أرح ظلّنا فوق درب القدامى)، بل إنّه يدعوه للانفصال عن هذا الزمان بما يحمله من أدوات ورؤى جامدة تشبه الزرد وهو الدرع (وفكّ انتساب الزمان لهذا الزرد) والانطلاق إلى فضاء أجمل وأرحب ليجد فيه الحرية والمساحة اللازمة للحب والشعر والعيش (لألهث خلف البراري) واكتشاف الذات (أنادم روحي). ثم يقول: (أشقّ الرحيل فضاء ودربًا) أي أنّه يشق عصا الطاعة للسائد والمألوف ليقول ما يشتهي قوله (وأطلق كل الذي أشتهيه). ويظلّ يلهث خلف الصور والمعاني التي انقادت له أخيرًا وصارت جاهزة للانطلاق والاشتعال (وألهث نحو امتداد الفصول/ التي تصعد الآن نحوي/ ونحو الزند) والزند هو شرارة القدح التي تشعل نيران القصيدة. يقول في نهاية المقطع الأول (فقلبي طليق وما من أحد)، بمعنى أنّه تحرر ممّا يثقل كاهله من قيود لكنّ صوته ظلّ بلا صدى ولم يجد ما ابتغاه من قبول ورضا. في مطلع المقطع الثاني يقول: (ولي فوق هذا البياض/ سنًا من سنابك وقتي) والبياض هو الورق الأبيض الذي يخطّ عليه الشعر وهو السّنا أي الضوء الذي يجذب الفراش وهو أيضًا (جدائل أنثى تفضّ الغمام) أي تُنزل الغيث. نلمس لهفة الشاعر وتوقه إلى المرأة والأرض وهو في الحقيقة يريد الوصول إلى قصيدة مختلفة تشبه كل الأشياء الجميلة التي حلم بها (فأسأل كل اللغات عن امرأة/ ردنها كحل هذي الجفون/ وأسأل عنها دياجير قلبي/ وأرحل نحو الصباح الجميل/ تقلّدني الأرض زعترها/ فأميل). ثم يقول: (أرح أيها السيل دمعي) والسيل هو الأفكار والمشاعر والصور التي تلحّ على الشاعر، ثم يطلب من الشعر أن ينهض لينبثق ضوءا ينير المعنى وينقّيه من الشوائب (لأفرك حقل اتساخ الستار)، ويقول في المقطع اللاحق: (ودغل الكلام الذي فاض منه الزبد/ لأدخِل شكل القصيدة/ فروة رأسي/ حدائق طيب/ لتملأ رأسي) والدغل هو الشجر الكثيف والزبد هو الدسم أو خلاصة القول. بعد كل هذا الضوء وانكشاف حجاب القصيدة أمامه يبقى لدى الشاعر شكوك بوصول رؤيته وكلمته ويعبّر عن هذا بقوله: (أتنكرني بعد هذا اللقاء الليالي) ثم يقول إذا كان الأمر كذلك بعد أن بلغ الشيب مني، فأنا مستمر على مذهبي هذا حتى لو متّ شهيدا دونه (لأعلن طقس الشهادة حتى النهاية). (ما من أحد) قصيدة من المتقارب وقد اختارها الشاعر لتكون فاتحة الديوان ولا بدّ أنّها تشير إلى الهواجس التي انتابت الشاعر وقت صدور الديوان وربما هي هواجس كل الشعراء في كل الأوقات بقصيدة تجد مكانًا في وجدان الناس وتظلّ عصيّة على الزمن مهما أقبل ومهما أدبر. بناء الجملة الشعرية في هذه القصيدة وفي غيرها من قصائد الديوان يرتكز على الاستعارة (الأصابع ترنو/ واحة القلب/ أرحْ ظلّنا/ جدائل أنثى تفضّ الغمام/ ظلالًا تشقّ صدى العابرين)، وليس هذا بغريب فلولا الاستعارة ما كان الشعر شعرا، لكن ما يميّز هذه الاستعارات هي الصور التي تنبق عنها والانزياح الذي ينقلها إلى مدارات بعيدة ومباغتة كقوله في (تقلّدني الأرض زعترها). يقفز إلى ذهن القارئ كلمة الوسام عندما يقع على الفعل (تقلّدني)، لكن زعتر الأرض هو النيشان الذي يبحث عنه الشاعر، وهذا يحيلنا إلى المعنى البعيد وهو ارتباط الإنسان بالأرض التي جاء منها. وكذلك الأمر عندما يقول (وخضّبْ يديك فضاء جديدًا)؛ فالفعل (خضّب) مرتبط بالحنّاء، لكن الفضاء الجديد الذي يتطلع إليه الشاعر حلّ محلها وقام مقامها؛ لما فيهما من معاني الجمال والفرح وربما الزواج الذي يحمل معنى الانتقال من حياة إلى حياة. وفي موقع آخر يقول (تفضّ الغمام)، وربما يرتبط هذا الفعل أكثر ببكارة المرأة أو فض الرسالة أو فض النزاع لكن أن يرتبط بالغمام ليؤدي معنى الهطول فهذا استخدام جميل وصورة متجددة. القصيدة تقوم على صور منحوتة على مستوى التركيب والمفردة والإحالة. هناك كلمات مفتاحيّة أراد لها الشاعر أن تحمل مضامين رمزية مثل الزرد وهو الدرع والمقصود الجمود في الصور والخيال والمفردات. وهناك أيضًا الزند والبياض والسيل والستار والفراش والزبد وقد مررنا عليها خلال عرض القصيدة. ما أودّ قوله هنا إنّ هذه المفردات جاءت في سياقها كمكوّن عضوي للقصيدة ومن الملامح المعمارية المهمة التي اتّسقت مع البناء بشكل عام. من الواضح أن الشاعر لم يلتفت كثيرًا للغنائيّة والإيقاع العالي واكتفى بالموسيقى التي يوفرها بحر المتقارب لأنها- أي الموسيقى- على الأغلب ستكون على حساب المعنى والمفردة التي تؤدي الغرض تمامًا، بحيث لا يصلح غيرها في هذا الموضع؛ كما هو حال حجر العقد (الغلق) من القوس؛ وهو القطعة النهائيّة التي تُوضع أثناء البناء وتغلق جميع الحجارة في وضع يسمح للقوس أو القبو لتحمّل الأوزان. اعتمد الشاعر على البناء المتصاعد وإنضاج الفكرة وإشباعها قبل الانتقال إلى الفكرة اللاحقة، ولم يلجأ إلى صور منفردة وربما منفصلة تخفي أكثر مما تكشف، وتربك أكثر مما توضح. على أن قصائد الديوان بحاجة لأكثر من قراءة متفحّصة لوضع اليد على مفاتيحها ودلالاتها. فهي ليست من القصائد التي تنقاد بسهولة أو التي تنهمر عليك معانيها من القراءة الأولى، ولا هي من القصائد التي تستطيع أن تخمّن مزاجها ونهايتها بعد قراءة السطر الأول منها. تخلُ القصيدة من إيحائيّة مدبّرة كما حدث على سبيل المثال عند تكرار كلمة (أرحْ)؛ ففعل الأمر هنا يشير إلى التعب والإرهاق؛ لأن الذي يطلب الراحة هو الإنسان التعب. وكذلك الأمر عندما قال: (لألهث خلف البراري) وهذا إيحاء بالمساحات الشاسعة والمفتوحة. وهناك كلمات وعبارات إيحائية كثيرة أعانت المتلقي على الدخول في مزاج القصيدة ومناخها. الختام نقول إن أدوات الشاعر ورؤيته للشعر والقصيدة تتطور مع الزمن وتراكم الخبرات والمشاعر والمشاهدات. رحلة عمر أبو الهيجاء التي ابتدأت بـ (خيول الدم) عام 1989 ووصلت إلى (وأقبّل التراب) عام 2018 ومرّت بتسع محطّات مهمة، ما زالت تتطلع إلى رؤى وفضاءات طازجة تفوح منها رائحة قصائد شهيّة وخيالات فاتنة.