يرى بعض النقاد أننا في غياب النقد الحقيقي نعيش في زمن الشكلية؛ فالناقد اليوم يبحث عن النجومية والموضة، ويفتقد إلى مشروع نقدي، ويتصف بالنرجسية. ويرى أن من الضرورة، في ظل سيطرة النقد السطحي وبخاصة ذلك الذي يقدمه بعض محرري الصفحات الثقافية والأدبية أن يحصل الناقد على رخصة لممارسة مهنة النقد رفيعة الشأن،على أن تتولى هذه المهمة الجامعات والجمعيات والمؤسسات الثقافية ووزارة الثقافة. الحقيقة أن هذه الظاهرة التي يشتكي منها هؤلاء النقاد معروفة في حياتنا الثقافية؛ فيوجد كثيرون يدّعون النقد دون أن يملكوا القدرة والموهبة، وهؤلاء لا يخلو منهم أي عصر، وكُتبنا طافحة بمثل هذا النقد الانطباعي والتأثري. أما عن الصحافة الأدبية والثقافية فليست مطالبة، ضمن وظيفتها الإعلامية، بأكثر من التعريف بالمنجز الأدبي والنقدي والثقافي وبأصحابه. مع أننا يجب ألا ننسى أن الصحافة لها فضل في بعض الأحايين في تقديم قراءات وآراء ونصوص مهمةالتعريف بكثيرين من الأدباء والنقاد. وإذا سلّمنا بما يقوله هؤلاء النقاد من تردي حالة النقد والصحافة الثقافية والنقدية فهل يحق لهم بأن يطالبوا بضرورة حصول الناقد على رخصة لممارسة النقد؟ ربما يحقّ لنا أن نتساءل إن كان أصحاب هذه الدعوة يتصفون بالاستعلاء والرغبة في استحواذ آرائهم وفرض مقاييسهم على الآخرين؟لا شك أنهم كذلك، بل إن دعوتهم ضرب من البروكرستية المنسوبة إلى بروكرست؛ ففي الأسطورة اليونانية أن هذا الرجل بروكرستكان قاطع طريق صنع سريرًا حديديًّا كان يضع عليه كل من يقع في قبضته، فيمطه أو يقصه حتى يكون على مقياس سريره؛ فلا ينجو منه أحد. هكذا يرغب هؤلاء في فرض قوالب نقدية على غيرهم من النقاد تحت مسمى رخصة. كما يلاحظ أن في هذه الدعوة لترخيص العمل النقدي فهمًا قاصرًا للنقد بوصفه نشاطًا ذهنيًّا حرًا ينبع من العمل الأدبي ذاته، ويقوم على الموهبة، والثقافة، والذوق المصقول بالدربة والخبرة،وأنه لا يمكن أن يُحدّد تحديدًا نهائيًا، ويوضع ضمن مواصفات معينة. ولو كان غير هذا لما تفرعت مناهجه ومذاهبه، ولما اختلفت معاييره من ناقد لآخر ومن مدرسة إلى ـ أخرى ومن عصر إلى غيره. ولهذا كان الاختلاف في تقويم الأعمال الأدبية؛ فبأي مواصفات يمكن أن تعطى تلك الرخصةالنقدية؟ من جانب آخر، فإن دعوة المؤسسات الثقافية والتعليمية ووزارات الثقافة لرسم قواعد وقوانين على ضوئها تمنح الرخص النقدية تقتل،إذا تحققت، النقد وتفقده طبيعته التي تمجّد العقل، وتدعو إلى اتساع الآفاق الإنسانية، وتبعده عن المساهمة في تطور الحياة الثقافية، وتحقيق غايته الرئيسية في بيان الخصائص الفنية للعمل الأدبي، وقيمه الجمالية والإنسانية. كما أنه يخالف نواميس الحياة التي تقوم على التنوع، وتخالف نواميس النقد نفسه الذي يقوم على الذوق الشخصي الذي تنبّه إليه النقاد من عبد القاهر الجرجاني إلى «ت س اليوت»، بأنه أي الذوق لا يختفي من النقد ولا يزول فمقاييس النقد الأدبي ما هي إلا دراسة الذوق السليم.ونحن نرى أن مثل هذه الدعوة لم يتبناها أحد في أشد العصور ظلامًا وديكتاتورية. إن الأساس في النقد أن يكون حرّا وديمقراطيًّا يضع كل ما هو ثابت ومستقر تحت النقاش والمكاشفة، ويترك للآخرين الحرية في أن يستجيبوا للرأي النقدي بالرفض أو القبول؛ فلا يمكن لأي نص أدبي أن يكون محل إجماع النقاد والقراء. لهذا من العبث أن يفكر أحد في تقييد حرية الناقد وتكبيلها، ومن العبث النظر إليه بأنه يحتاج إلى رخصة كأصحاب المهن التجارية والصناعية والخدمية كما يحسن بالمثقفين والنقاد ألا يضعوا القيود في أيديهم وأيدي زملائهم.