سيرة جيل في مجموعة «بعد خراب الحافلة» لسعود قبيلات
عرار:
مجدي دعيبس
من مليح، البلدة الزراعية الرعوية الوادعة جنوب مادبا، حيث تتدحرج الشمس على كفّ البادية الشرقية في الصباح، قبل أن تغطس عند الغروب خلف جبال القدس، من هناك خرج سعود قبيلات وعلى كتفيه قصص وحكايات كبيرة بانتظار من يحكيها. درس علم النفس في الجامعة الأردنية ليصبح بعدئذ موظفًا في الشركة العربية للإسمنت الأبيض، وكاتب مقال في جريدة العرب اليوم، ورئيس تحرير مجلة أفكار، ورئيس رابطة الكتاب الأردنيين لدورتين متتاليتين. اعتنق الفكر الشيوعي وظلّ مؤمنًا به ومخلصًا له ومدافعًا عنه حتى بعد خراب الحافلة. رفض التوقيع على وثيقة استنكار الحزب الشيوعي وسُجن خمس سنوات، وخرج أكثر إصرارًا وأشدّ إيمانًا وأثقب ألمًا. في المقدمة التي وقّعها باسم عابر سبيل يقول: «بين دفّتي هذا الكتاب حكايات غريبة لرجل غريب صار تمثالًا بعدما انقطعت به السبل طويلًا في محطة لم تعد تأتي إليها الحافلات». لم تكن هذه السطور سوى تحضير للقارئ حتى يستعدّ لتلقّي القصص التي انحازت في سوادها الأعظم إلى الرمزيّة والغرائبيّة والتّأويليّة؛ لم يقل «ذهب» إلا ليقصد «جاء»، ولم يقل «صعد» إلا ليقصد «نزل»، وظلّ يراوغ على ضفاف المعنى حتى دخل في روعنا أنّه يقرأ من كتاب سيرة رفاقه وسيرته الذاتيّة. حتى في التبويب الذي اختاره للكتاب هناك تتبع زمني لما حدث؛ باب الخراب، باب الضباب، باب الغياب، باب السراب: كل شيء استحال سرابًا بعد أن خربت الحافلة وتضبّبت المسيرة وغابت الروح؟
تراوحت المجموعة بين القصص القصيرة والقصص القصيرة جدا التي لم تتجاوز السطرين. وقد حافظ القاص على لغة اقتصادية تؤدي المعنى المطلوب منها بأسلوبيّة وجماليّة تخص سعود قبيلات وحده دون سواه، ولم تخلو من وصف رائق يكشف بهجة اللغة بجملها ومفراداتها، وكأنها ابنة التاسعة تتقافز في حقول من الأقحوان الأبيض والأصفر والأحمر، فترتفع جديلتاها الشقراوان في الهواء ثم تهبطان بمرح على ظهرها وكتفيها الدقيقين. يقول في قصة غفلة: «غذذت الخطى إليها ملهوفًا، يكاد الدم يقفز من عروقي، بينما كانت تتراءى لي، على البعد، جميلة مثل زهرة بريّة، تحتويها غلالة من السحر، ويلفّها غموض فاتن». كما استمر على هذا النهج، حتى في القصتين اللتين تمددتا واستطالتا على خلاف باقي القصص: قصة «ثقيل الظل» وقصة «السجين». هذه المراوحة بين القصر الذي يعكس القدرة على الاختزال وإفاضة المعنى، والطول الذي يزيح التراب ليجري الماء سيّالًا متدفقًا، تعكس براعة التشكيل والتحريض على المزاوجة بين الكلمات ومراميها البعيدة. ما وجدته في القصص القصيرة جدا، أنّه كلما تضاءل عدد كلماتها، تضاعفت احتمالات التأويل وتشعّبت، كما في قصة غفوة: «كان الصباح طريًّا، فأردت قضاء نهار بهيج، غير أنّي – من دون أن أفطن- غفوتُ، طويلا غفوت. وعندما أفقت، كانت الشمس تغيب». ماذا أراد أن يقول بهذه القصة القصيرة جدا؟ استمرأ الراحة وغفل عما يحدث من حوله، وعندما تنبّه من لهوته وجد نفسه متأخرًا في العمل والحياة وتحقيق الذات، أم قصده أن الأيام تمضي بسرعة ومع انقضائها تصبح الأحلام أبعد وأكثر عنادًا، أم قصده أنّ الحياة مشمشيّة كما يقول المثل؛ ما أن تبدأ حتى تنتهي؟! ربما كانت هذه العملية مقصودة بذاتها حتى يصبح القارئ أكثر انخراطًا بالنص على أساس أنّ النص الذي يترك أبواب التّأويل مشرعة هو الأقدر على الحياة ومعاندة عوامل الزمن والسقوط في هاوية النسيان. ظهرت في القصص حياة السجن بمعاناتها وتفاصيلها ومفرداتها مثل الشبك والرفش والمهجع كما في قصة «سيرة» وقصة «السجين» و «أهل الكهف» وغيرها، وظهر العمل الحزبي وما اكتنفه من إرهاصات وتداعيات محبطة وتسلق بعض الرفاق على أكتاف الآخرين مثل قصة «حِمل»، غير أنّي وجدت قصة «محطة» تختزل سيرة جيل بأكمله آمن بالأفكار العظيمة، ومضى نحو أهدافه بعزم وحماسة، لكن ما حدث قد حدث (اختصرت من القصة ما لا يؤثر في تلقّيها): «تعطلت حافلتنا في محطة على الطريق؛ وبعد يأس من إمكانية إصلاحها، تفرّق الركاب كلّ في اتجاه، بينما جلست أنا على رصيف المحطّة أنتظر. وشيئا فشيئا تحجّرتُ وتحوّلتُ إلى تمثال حزين صار مع الزمن جزءًا أصيلًا وحميمًا من المحطة. ومع توالي السنين، أصاب الصدأ الحافلة ونخرها مثل سوس شره حتى تلاشت. كما تغيّرت معالم المكان وذهب ناس وجاء سواهم. أما أنا فلا أزال في مكاني على رصيف المحطة». ولا يغفل على القارئ هنا المقصود بالحافلة والمحطة والركاب والتمثال. نطّلع على بناء القصة عند سعود قبيلات، لننظر في قصة «حفلة» وهي -اختصارا للوقت والمساحة- تصف حالة ما في حفلة كان المحتفلون فيها ينعمون بالابتهاج والرقص والتناغم، ثم يظهر شخص يحمل عصا أطول منه، ويعكر صفو الحفلة والمحتفلين برقصه غير المنسجم مع الموسيقى، ورويدًا رويدًا يستجيب بعض الأشخاص لطلباته فيشاركونه الرقص ويستمعون لغنائه النشاز ويطأطؤون قاماتهم حتى لا تعلو فوق قامته، ثم يلبسون أقنعة قبيحة حتى لا يبدوا أجمل منه. هذه القصة قد تبدو واقعية في بعض ملامحها، لكنّها ليست كذلك، فهي رمزية من بابها إلى محرابها. وعلى صعيد البناء، اعتمد القاص على الحركة والدراما المتصاعدة، وابتدأ من أول الحدث وليس من منتصفه أو نهايته، ولم يستعن بالتقديم أو الإرجاء وظلّ ماضيًّا في خط مستقيم. كان همه أن ينقل ما حدث في الحفلة بأبسط الطرق، لأن ما وراء الحدث هو ما يعنيه. وفي الملحق الذي وضعه رفاق عابر سبيل تقول سميحة خريس: «سعود قبيلات، ماذا تحاول أن تفعل؟ أنت وتمثالك المنسي في تلك المحطة العجيبة، ماذا تفعلان؟ أتقتنصان البشر وتقيمان حديقة للتماثيل؟». ويقول مؤنس الرزّاز: «ترى من ينتظر من؟ ما الذي يأتي ولا يأتي؟ الحافلة التي تنتظر بيأس أو برجاء الركاب والمسافرين؟ المسافر الغريب الذي ينتظر حافلة تأتي ولا تأتي؟». ويقول هاشم غرايبة: «ما زال الإنسان يأكل صنمه كل يوم، تلك هي الاستجابة الحتمية لمتطلبات العيش. أما أن يأكل الصنم الناس ويحوّلهم تماثيل ونصب، فتلك حكاية أخرى». ويقول يوسف الحسبان: «يُخيّل لي أن التمثال أكثر حياة مما نتصور، لأن تحجّره دليل على حساسيته المفرطة. ببساطة أتخيّلني هذا التمثال نفسه، فإذا لم أكنه، إذا من جنسه». أخلص لها، فانقادت له كما ينقاد الذلول لصاحبه؛ ظلّ سعود قبيلات منحازًا للقصة القصيرة على مدار أربعين عامًا، ولم يجرّب في غيرها من الأجناس الأدبيّة سوى المقالة التي كانت امتدادًا لقصصه وفكره وتجربته وروحه. في المبتدأ كانت «غفوة» وفي الخبر كان «موعد» وما بينهما حياة كاملة بخيباتها وانكساراتها القاسية وابتساماتها القليلة، بل القليلة جدًا. العالم تغيّر، وما زال يتغيّر كل يوم. لا أعرف ماذا حلّ بالحافلة والمحطة والتمثال بعد ذلك، فعمر هذه المجموعة تجاوز العشرين عاما؛ ربما ما زالت المحطة هناك على حالها تنتظر حدوث شيء ما، وربما أزاحتها البلدية بحجة تطوير المرافق والبُنى التحتيّة، وربما أنّها لم تكن هناك أصلا بل كانت مجرد أحلام يقظة يمسح الحلم الأخير منها ما سبقه. ويبقى أن نقول إن «بعد خراب الحافلة» صدرت في طبعتيها الأولى والثانية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وفي طبعتها الثالثة عن الآن ناشرون وموزعون. كما صدرت عن وزارة الثقافة ضمن إصدارات مشروع مكتبة الأسرة.