|
عرار:
هاني علي الهندي كشف القاص رشاد رداد (أسرار حارتنا) ودونها في مجموعة قصصية اشتملت على (31) قصة قصيرة تتمحور حول البعد الإنساني الاجتماعي والمعاناة الإنسانية. وأول ما يلفت الانتباه في أي مطبوعة هي العتبة الأولى، ونعني بها الغلاف الخارجي بمكوناته؛ العنوان والألوان واللوحة والخطوط...، فهو المفتاح الذي يكشف فضاءآت النص ودلالته. العتبات: وقبل اقتحام المجموعة والتنقل بين حواريها ومساربها للوقوف على أسرارها، لا بد من الوقوف أمام العتبات الأولى، فقد جاء الغلاف بلون رمادي يحمل في دلالاته الإثارة والغموض، وفي أعلى الصفحة تربع العنوان (أسرار حارتنا) باللون الأحمر وبخط عريض يحمل في دلالاته السخونة، ربما سخونة الأسرار، وربما يحمل كما مأساة حارتنا إثارتها. يذكرني هذا العنوان بعنوان رواية نجيب محفوظ أولاد حارتنا مع الفرق بين المضامين، ولو دققنا النظر في العنوان لوجدناه يتكون من مضاف ومضاف إليه، أي أن هناك حذفا نحويا ومضمونيا في الكلام، كأن نقول (هذه أسرار حارتنا). توسط الغلاف لوحة فسيفسائية تداخلت فيها الألوان وتشابكت بعض الخطوط، وجاء اسم القاص في أسفل اللوحة بخط رمادي غامق يحمل دلالات الغموض والحيرة. وبنظرة شمولية للغلاف نجد أن رشاد رداد قد وفق باختيارها وسلمنا مفاتيح الحارة للدخول إلى عوالم النصوص وبواطنها. أما عناوين القصص الداخلية فقد تآزرت جميعها مع عنوان المجموعة (أسرار حارتنا) فكسفت على سبيل المثال أسرار ( بائع القهوة، أبو عيسى، الغجرية، الجرافة، .....)، هذه العناوين الفرعية اختلفت بنيتها التركيبية، حيث اعتمدت في أغلبها على مفردة واحدة باستثناء عشر قصص جاءت على مفردتين أو أكثر، وقصة واحدة عنونها بالحروف (س+ص+ ع). وما يلفت النظر في البنية النحوية للعناوين اشتغالها على الحذف، (المبتدأ أو الخبر) مما يجعل المتلقي أن يبحث أو يجتهد في المحذوف، كما يلفت النظر أن جميع عناوين القصص جاءت جملة أسمية باستثناء قصة واحدة جاءت جملة فعلية ( شيعتُ جثماني إلى مثواي الأخير) وقصة واحدة حمل عنوانها حروفا (س+ص+ ع)، حاولتُ فك هذه (الشيفرا) إلا أنني عجزت فتركتها للمتلقي أو للقاص لتوضيحها. بناء الشخصية: اختار رشاد شخوص قصصه من بين أفراد الطبقة الكادحة والمسحوقة من العمال والفلاحين والمعلمين والعاطلين عن العمل، هذه الشخصيات مشحونة بالقلق والتوتر، والإحباط والخوف من المجهول، يقدمها ويكشف عنها بأساليب مختلفة ويمنحها حرية اكبر للتعبير عن نفسها، وفي هذه الحالة يتيح القاص المجال أمام القارئ أن يعتمد على قدراته التحليلية لاكتشاف صفات هذه الشخصيات، كما في قصة بائع القهوة، يترك القاص شخصية الراوي تتحدث عن الشخصية المحورية (أبو صالح) فيقول: رجل قليل الكلام وفيه غموض الأسطورة ليكشف عن البعد النفسي لأبي صالح المحبط. ص7. وخديجة ذات جمال قروي، لا تعتمد على موضة ولا تؤمن بها، قليل من الحناء وقليل من الكحل، يزيد من جمال يديها وعينيها الواسعتين وقوامها الرشيق. ص140. بهذا الوصف المكثف البسيط قدم القاص بساطة خديجة وجمالها الطبيعي بعيدا عن الطلاء والتزويق. وعن طريق الحوار بين الشخصيات يكشف عن البعد الاجتماعي كما جاء في الحوار بين أبي صالح وصديقه قديم: ـ وما هي أخبار أبي المعتصم ..؟؟. ـ مات للأسف، دهسته سيارة وقد كان ثملا. ـ غريب. ـ أرجوك لا تسألني عن أحد. ـ أوه ما أجملك يا بيروت، وما أجمل أيامك. ص9 من خلال الحوار السابق نكتشف أن أبا صالح وصديقه كانا مع المقاومة في بيروت. جاءت معظم شخصيات القصص دون أسماء لتعميم الفكرة، وتغلب عليها الذكورية، التي يمكن أن تتواجد في أي مكان من الوطن . الأصوات السردية: تعددت الأصوات السردية عند القاص رشاد رداد فتوزعت بين السرد بضمير الغائب، بذلك يكون السارد أو الراوي العليم الذي يعرف كل شيء عن الأحداث وتطورها في القصة مثل قصص (الوهم و الكرسي و التحدي) غيرها وضمير المتكلم، أو السارد الذاتي، وفيه يكون السارد شاهداً متتبعاً لسير الأحداث تتطابق معرفته مع معرفة الشخصيات الأخرى، مما جعلنا نتوهم أن القاص يتحدث عن نفسه مثل، (قصة مشهد و بائع القهوة) وغيرها وضمير المخاطب، ويكون الراوي هو المتحدث الوحيد في النص، يرصد تحركات المروي عنه والتأزم، ولا يعرف عن الأحداث في القصة أكثر مما يعرفه القارئ، مثل قصة (كنعان) التي تشعرك أنك أنت المقصود وأنت بطل القصة. كما استخدم القاص أكثر من ضمير في القصة الواحدة، فيما يسمى السرد المتداخل مثل قصة غبش التي تروي قصة أماني التي ارتبطت ببلال دون وعي بالمسألة لأنها كما تقول ستخلص والدها من حملها الثقيل)، ويستمر سرد الحدث بضمير الغائب،» وأماني التي قبلت بهذا المصير بدأت بمراجعة حساباتها، لقد أحست بثقل هذا الخاتم الصغير في يدها كأنه الجمر بين أصابعها» لينتقل السارد بنا إلى ضمير المتكلم بلسان أماني « إنني غير مقتنع به الآن.. حاولت أن أتقبله، لكنني فشلت....»، ليعود السارد ثانية لضمير الغائب. ص38 جاء توظيف هذا النمط لشد انتباه المتلقي لفكرة القص. ظواهر أسلوبية: رشاد ظواهر أسلوبية في مجموعته منها التناص الداخلي، والتناص بشكل عام أحد المفاهيم النقدية التي تتيح للمتلقي التغلغل في أعماق النص وإحالته إلى نصوص سابقة. ومن النظرة الأولى لعنوان المجموعة(أسرار حارتنا) نكتشف تناص الصيغة اللغوية مع رواية نجيب محفوظ (أولاد حارتنا) مع الاختلاف في الأفكار والمضامين. وإذا كان محمود درويش يتحدث في قصيدته «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»عن فلسطين فإن رشاد رداد استدعى هذا السطر الشعري في قصة أسرار حارتنا ليأتي منسجما مع الحدث وهو يتحدث عن (كحلة) القرية السعودية أو قرية (الشوكة) المتخيلة، « قرية الشوكة هجرتها الفراشات واعتزلها اليمام البري، وأرغول الرعاة، أصبح فزاعات ونباح كلاب، والنساء فقدن كل أمل على هذه الأرض، إذا كان «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» ص12 ليوحِّد معاناة الإنسان على الكرة الأرضية ولكن بتفاوت وبأشكال مختلفة. وفي قصة (مشهد) جاء التناص مع رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني التي تروي معاناة ثلاثة رجال من فلسطين حاولوا اقتحام الصحراء للوصول إلى أرض الكويت من أجل لقمة العيش، ويتم الاتفاق مع السائق أن يختبؤوا في الخزان عند المرور بنقطة التفتيش، وعندما تأخر السائق على الحدود اكتشف أنهم ماتوا جميعهم خنقاً وانتهت الرواية بسؤال» لماذا لم يدقوا جدران الخزان» بينما جاءت قصة (مشهد) للقاص رشاد تروي قصة أحد عشر رجلا مدمرا في الصحراء باغتهم جنود وحملوهم في حافلة صغيرة. لم يوضح القاص هل هم أسرى حرب، أم تائهون.. ؟ وكيف وصلوا الصحراء؟ وبعد ان وصف معاناتهم وهم في الحافلة وسط الصحراء « فالشمس تجلد صفيح الحافلة» «وأخذت روائح أجسادنا بالانتشار» « أخذ بعضنا يصرخ ويدق على جدران الحافلة ولكن السائق غير مكترث بنداءاتنا المخنوقة» ص48. وأكتفي بالإشارة إلى تناص قصة (المسرحية) ص77 مع قصة الشهداء يعودون هذا الأسبوع لطاهر وطار. وفي تناص التراث الشعبي نجد الراوي في قصة (غبش) يقول: « لقد كانت تحس بعذابات أبيها وتوتره الدائم القلقة غير المبرر، اجتراره لنفس كلما داهمه خوف ما. «متى ستتزوجين ونخلص من همك» ص39 مما يحيلنا إلى المثل الشعبي «هم البنات للممات» ومن المعتقدات الشعبية وظف الاعتقاد بالشعوذة وقراءة الطالع خاصة بين النساء كما جاء في قصة (الغجرية) والاعتقاد بـ (طاسة الطربة) و (الولي). ومن الظواهر الأسلوبية وظف تفتيت الجملة ليكشف عن الحالة النفسية دلالة توتر وخوف السائق الذي دهس الرجل في قصة (حظ سيء) لـ لـ لنس لنسعفه ص159. وهناك بعض الملاحظات التي لا تعيب المجموعة بشكل عام: 1ـ استخدم اللهجة المحكية في حوار بعض الشخصيات في قصص (الولي) و(أبوعنتر) و(عيد ميلاد) 2ـ مزج الخيال بالواقع بدا ذلك بوضوح في قصتي(المسرحية) و(القلعة). 3ـ بعض عناوين القصص لم تكن ملائمة للفكرة والحدث مثل قصة (الولي) 4ـ بعض القصص جاءت عبارة عن خواطر ومذكرات مثل قصتي (نافذ مفتوحة) و(العيد) 5 - انتهت قصة (عيد ميلاد) ولم ينتهي السرد. فقد انتهت قصته عندما قال المدير: يا أستاذ علي، ضع الحاجيات في سيارتي، فاليوم عيد ميلاد زوجتي. في هذه الحالة يكون القاص قد أنهى قصته بمفارقة ونهاية غير متوقعة، وما زاد بعد ذلك لا يخدم الفكرة. 6ـ أغلب نهايات القصص جاءت نهاية واضحة. 7ـ تنتمي قصص المجموعة إلى القصة الواقعية بقي أن نقول إن مجموعة (أسرار حارتنا) قدمت صورة حقيقية عن الحياة الاجتماعية، ولا يعيبها أن لا تكون القصص في مستوى واحد من القوّة والتأثير. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: السبت 26-09-2020 10:01 مساء
الزوار: 401 التعليقات: 0
|