تأملات في قصيدة «أنا... في غيابك» للشاعر ياسر الأقرع
عرار:
* أحمد أبو حليوة العنوان مفتاح النص... هكذا يقال، وفي هذه القصيدة غدا العنوان «أنا.. في غيابك» جلّ النص، وتلخيصه ومغزاه، وكيف لا، وفيه الأنا ظاهرة دون مواربة، بل هي مفتتح الكلام، وكأنّها الشمس التي تدور في فلكها الكواكب، لنشهد بعد ذلك وجود النقطتين التي تفرضان على القارئ الهوينى قبل الوصول إلى حال الشاعر بعد غيابها، والذي يمثله متن القصيدة بسند نبضات الشاعر وعباراته، وهو الذي استفاد فيه على المستوى البصري من تجربة عميقة ضاربة الجذور عنده بالنسبة للضمائر أو لازمة النقطتين -إن صح التعبير- وهذا ما تمثّل بشكل جليّ في عناوين خمسة من دواوينه الستة: «عيناك.. كلّ لغات العشق» «الشعر بين قنديلين.. وجهك والقمر» «أنت.. ويبتدئ العمر» «لا.. أحبك» «إذا قيل.. أنت»، ليكمل سيمفونية إبداعه وبلاغته باستخدام أسلوب الالتفات أيضاً: «أنا» ضمير المتكلم المنفصل، أي بمعنى آخر المتشظي إلى جانب كاف المخاطب.. الضمير المتصل بالروح بل فيها، إذا ما نظرنا إلى حرف الجر «في» الذي يتوسط ظاهراً سويداء العنوان، الذي مازلنا -في كلّ ما سبق- نجول في رحابه، سائرين معه -وهو يتدفق بنا وفينا- كما النهر إلى مبتغاه. لاشكّ أنّنا أمام قصيدة مترامية الحزن وهي تفتتح القول بالواو الابتدائية التي هي حقيقة تستأنف حكاية ما، فالغياب «وغابت» لا يكون إلّا بعد الحضور، والحضور لا قيمة له دونهما معاً -العاشق والمعشوق- أي المرسل والمستقبل، وهذا ما يوجد ألق الرسالة، فإن تقطّعت أوصال أحد الركنين الرئيسين ذبل المقوّم الثالث، ألا وهو الرسالة، وأصبحت حروفها ضرباً من الماضي التليد الباهت الحروف رغم وخز الحنين وألمه، وكذلك «الضياع على ضفتين من الذكريات» على حدّ تعبير الشاعر الذي يخاطب أناه المنكسرة «وأنت انكسار» وقد تسلل إلى ضلوعه ال»برد» وعمّ في جنبات حجرات فؤاده ال»صمت» الذي لم يجد بداً بعده إلّا المجازفة من خلال السفر «خلف حدود الخرافة» في طريق الهروب إلى مكان خاوي الذكريات بحيث «لا يهزكَ في الصحو صوت» فيقال لك: «شبعتَ سقوطاً»، وهذا ما يمكن لنا أن نطلق عليه (هروب الذات من نفسها) حين «تناثر نصفكَ في قعر هم»، ليلقي السؤال نفسه بشكل تلقائي: وما الأمر بالنسبة للنصف الثاني؟! فتأتي الإجابة موغلة في الانكسار «وآخر ينهار» وما بين التناثر والانهيار تجري المشاعر الأليمة في هذي القصيدة كالأنهار، وقد اعترى صاحبها «الفناء» وكيف «قليلاً.. قليلاً..» إمعاناً في الأسى والألم. وها هو ركام الشاعر في غيابها، يصفه لنا بتأنٍ ليوطّد فينا هذا التعاطف الكبير معه، ونحن نرى هذه الاعترافات الشعرية «فلا أنت حيّ... برغم ادعائك» بل وينقلنا إلى حالة اللا حالة «ولا أنت ميت» ليكشف لنا «بأنّ الحطام الذي تزدريه بقاياكَ أنت» بل ويوغل في جلد ذاته فيقول: «وأن هشيمك تذروه ريح» فهو لا يتوقف عند تهشّم الروح بل يطلق العنان لأعاصير القضاء أن تذرو هشيمها، وإن أبقى على بارقة أمل منه «فيرتد جزؤك» ربما على أمل أن يعيد الجزء الكل، ولكنّه سرعان ما يكتشف أنّ البداية «وَهْم» وأن النهاية «وقت تحدّر من صلب وقت» فلا شك أنّ النهاية يقين، ذاك لأنّ البداية قد تبقى محض أمنية، كما هي «التي ضيعتك خطاها» لتكتشف أنّك فقط «في رؤاها... اكتملت». ولكنّك أيها العاشق «وحيداً» دونها لست أكثر من «بقايا انكسارك» الذي يسبق «اندثارك» وهذا ما يدفعك من جديد لمعاودة تأمل «مداك الذي لم تكنه» بل وأيضاً « وجه انكسارك»، وهذا ما يجعلك تتذكر «وأنت تعانق ليلك من غير جدوى بأن التي أورثتك الجنون محال تعود برغم اعتذارك»، وما حالك بعدها «وأنت تموت اشتياقاً ولا تنتظرها» وهي التي «كانت» تشبه «ضوء الأماني بعينيك» وماذا صارت «كفوضاك صارت»، وفي الصيرورة تحول «كحلم شهي» مضى «في مدارك»، وكل هذا مدعاة للحنين، وعندما يستبد فيك الحنين تمضي «بغير اتجاه لظل احتضارك»، ململماً «بقايا تلاشيك»، وفي التلاشي لاشك موت بطيء غير رحيم لعلاقة دكّ حصونها «الفناء». وفي الختام أكاد أقول: إنّ في هذه القصيدة وحدها للشاعر القدير ياسر الأقرع موضوع بحث كبير، نؤكد من خلاله فرادة هذه القصيدة على المستوى النفسي الشعوري والشعري له - أو بالأحرى كما أرى- وما في الروح من انكفاء على ذاتها عبر تقنية التعبير الأدبي عن موجة حنين لرجل هو «ضياع على ضفتين من الذكريات» وهو ال»انكسار» وال»برد» وال»الصمت» وكذلك المسافر «خلف حدود الخرافة». وهنا المفردات لا تغدو إلّا جداول ترفد نهر الشوق للتي «ضيّعتْكَ خطاها» ولتلك «التي في رؤاها... اكتمَلْت» وبالتالي في بحرها غرقت «وأنتَ تعانق ليلَك من غيرِ جدوى... بأنَّ التي أورثتكَ الجنونَ.. محالٌ تعودُ برغم اعتذاركْ». أفبعد هذا قول والحالة وصلت حدّ الاعتذار؟ ولكنّه الحنين اللعين الذي يجعلك «تسير ... بغير اتجاه لظل احتضارك»، وبعد الاحتضار ماذا يتبقى في انتظارك غير «حضن الفناء». في النهاية -وهذا ما أريد قوله باختصار- نحن أمام قصيدة مميزة للشاعر بليغ الإحساس والتعبير ياسر الأقرع.