د. محمد عبدالله القواسمة تشكّل الفلسفة الماركسيّة المرجعيّة الرئيسيّة في مفهوم غالب هلسا للأدب، فقد انتظم في صفوف الحزب الشيوعي في مرحلة مبكرة من حياته، في طموح لبناء المجتمع الديمقراطيّ الحرّ الذي كان يحلم به، وقد عانى من جرّاء ذلك عذابات السجن والمنفى في أكثر من بلد عربيّ، وبخاصة في الأردن ومصر والعراق. في أثناء هذه الحياة غدت الكتابة عنده مجرّد «استكشاف لخيبة الأمل المتولّدة من المقارنة بين المثال والواقع». ويستطيع القارئ أن يتعرّف تلك الحياة من كتابات غالب وبخاصة الروائيّة فمن خلالها يمكن» إعادة تجميع قصة حياة غالب هلسا في مراحلها المختلفة، وكذلك تحديد مواقفه من مختلف القضايا، وكما هي بالفعل، سواء في جوانبها الاجتماعية أو الفكريّة أو السياسيّة». وإذا كان وعي غالب هلسا الأدبيّ قد بدا واضحًا في رواياته، فهو أكثر وضوحًا في أعماله النّقديّة، وأهمها كتبه: «فصول في النقد»، و»قراءات في أعمال يوسف صائغ، يوسف إدريس، جبرا إبراهيم جبرا»، و»المكان في الرواية العربية»، و»أدباء علموني ..أدباء عرفتهم»، و»نقد الأدب الصهيوني». وقد بدأ فيها كاتبًا واقعيًا يعتمد الفكر الماركسي، ومستفيدًا من تقنيات الرواية الغربيّة، عند كافكا وفوكنر وهيمنجواي ودوس باسوس، ومن أفكار مدرسة التحليل النفسي وبخاصة أفكار يونغ وفرويد، ومن المدرسة الظاهراتية وخصوصًا ما جاء في كتاب غاستون باشلار «شعريّة المكان»، الذي ترجمه غالب بعنوان «جماليات المكان». ويذكر في كتابه «أدباء علموني .. أدباء عرفتهم» الذي صدر بعد وفاته أنّه لم يقتبس من أمثال هيمنجواي ودوس باسوس موضوعًا أو روايةً أو فكرةً أو فلسفةً؛ لأنّ كلَّ ما كتبه نابعٌ من ذاته وتجاربه ومعرفته الناتجة عن معايشة الحياة، ولكنه تعلّم منهم كيف يرى العالم من حوله بشكل جديد، وكيف يضعه في سياق أعماله الروائية بمعنى أنّه لولاهم ـ كما قال ـ لما أصبح كاتبًا. يحسن ضمن الحديث عن مرجعية غالب هلسا الأدبية ذكر تلك التعميمات التي أوردها غالب تحت عنوان مقدمة في خاتمة روايته «السؤال»؛ فهي تعميمات يتبناها ـ كما قال ـ إلى الحدّ الذي أصبحت فيه تشكّل رؤيته للعالم. وهي تنطوي على تقديم مفهوم جديد لعلم الأخلاق، والتعميمات هي: الحريّة وتستند إلى التّخلّص من رؤية الإنسان بأنّه كائن مثالي. إلغاء الإخصاء أي احترام الجسد الإنسانيّ الواقعيّ، وترك الإنسان يعبّر بحرّيّة عن نفسه ليعي ذاته إنسانًا متفرّدًا، ومستقلًا عن الآخرين. إلغاء مفهوم الخطيئة، الذي يقوم على أساس مفهوم الوعد والوعيد المعتزلي، وأساسه أنّ الإنسان سيحاسب على أعماله إن شرًا هلك، وإن خيرًا نجا. إزالة التهريج الرسمي الذي يلغي الفرد لمصلحة الجماعة، أو يلغي الجماعة لمصلحة الفرد. استنادًا إلى تلك المرجعية الأدبية يرى غالب هلسا أنّ على الأديب أن يدعو إلى الاستمتاع بالحياة، وإلى تأكيد كل ما هو واقعي وصادق ورفض كلّ دعوة لاستبدال تجربته الحيّة بمخطّطات مملاة من الخارج، أي عليه أن ينأى بنفسه عن الاندماج بمؤسسات السلطة، أو أن يكون لها داعيًا إعلاميًا. وفي هذا الإطار فكل فنان عظيم منحاز إلى الحقيقة؛ لأن تصوير الواقع فنيًّا يتطلّب من الانفعالات ما لا يستطيع الفنان بعدها أن يكون محايدًا، والفنان العظيم» يعبّر عن معاناته وانحيازاته بشكل موضوعيّ، وأمّا الفنان المتوسط فهو محايد لا يعبّر عن معاناته وانحيازاته وإنّما يحاول أن يكونَ طريقًا». وينفي غالب هلسا العلاقة بين علمية الموقف الأساسي الذي يعبّر عنه الفنان وبين قدراته الفنيّة، فقدرة الفنان على أن يكون موضوعيًّا، أي قدرته على رؤية الواقع من خلال معطياته لا من خلال إسقاط أحاسيسه عليه هي المسألة الأساسيّة في الفن. ويدلل على ذلك بأن فوكنر وجويس وبروست عبّروا عن أفكار متخلّفة لكنّهم أنتجوا فنًا عظيمًا، والفنان يختار الموقف الأساسي الذي يعبّر عنه بوعي وتقصّد، وهذا الموقف يختفي كلما ارتفع المستوى الفني للعمل، في حين يبدو متكاملًا حين يهبط هذا المستوى، فإذا كان التكنيك الفني يمكن اكتسابه بالوعي والخبرة فإن الموقف الأساسي يرتبط بمكوّنات الوعي، ومن الغرابة أن ديستويفسكي كان يكتب روايات لمهاجمة الاشتراكيين، لكنه كان ينتهي بالتعبير عن وجهة نظر الاشتراكيين الذين يهاجمهم. ويفسر غالب هلسا ذلك بأنّ الفنّان محكومٌ عليه بالوعي والاستبصار الذاتي؛ فلا فن حقيقيًا دونهما، فالمواجهة الذاتية التي تتم داخل الفنان خلال عملية الخلق الفني تتجاوز وضعه الطبقي ويعود إلى نقطة البداية، غير أنّ لحظات الإبداع ومواجهة الذات لا تستمر طويلًا يعود بعدها الفنان إلى حياته المعتادة « ولكنها عودة مثخنة بجراح الوعي». على ضوء هذه الرؤية يضع غالب الفنانين في نوعين: النوع المبدع، والنوع الفاشل، والمبدع لا يعتمد قوالب جاهزة لنقل تجربته، بل ينقلها وفق رؤيته ومشاعره وأحاسيسه، وضمن لغة خاصة وشكل جمالي خاص « إن ميزة الفنان هي إحساسه بهذه الجدة، والحاجة في التعبير عنها وتوصيلها». وأما الفنان الفاشل فهو الذي يصبّ تجربته في قوالب قديمة، مستعيدًا إنتاج أشكال وصيغ من الماضي، فيكون كمن خان رسالته ووعيه، وفي ذلك إشارة إلى مدرسة الإحياء التي نادت بإحياء الشعر القديم.
المصدر: الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 12-06-2020 11:22 مساء
الزوار: 472 التعليقات: 0