د. عزوز اسماعيل سالم رواية «صديقتي اليهودية» للكاتب صبحي فحماوي تذخر بالغرابة، منذ البدء وحتى المنتهى، وهي رواية مدهشة للمتلقي، يدافع من خلالها على قضيتنا جميعاً ألا وهي القضية الفلسطينية، ويبرهن فيها كذلك على قوة الإعلام الصهيوني في بلادنا العربية وبلاد الغرب، وهو ما جعل صديقته اليهودية يائيل آدم تدخل معه في حوارات مثيرة ومقلقة، تدافع فيها عن اليهود الذين تنتمي إليهم، رغم أنها مكسيكية وليست إسرائيلية... وقد أخذ الحوار بين الفلسطيني جمال قاسم، وصديقته اليهودية يائيل، أكثر من بعد، بحثاً عن الحقيقة، ولم يكن من تلك الصديقة اليهودية المكسيكية، إلا الإصرار على ما تم غرسه في عقلها وعقول أمثالها من قبل تلك الآلة الإعلامية المجرمة التي لا ترعى في الناس إلًّا ولا ذمة، يسعون بكل ما أوتوا من قوة للتأكيد على صهيونية فلسطين، إلا إنها في النهاية علمت بحقيقة ما يدبره المجرمون في حق الشعب الفلسطيني، وكيف أن والدها اليهودي لم تلطخ يداه بالدماء، ولكن الأدب لهم بالمرصاد، وما لا تفعله السياسة سيفعله الأدب، وهناك مناضلون كثيرون دافعوا عن هذه الأرض بالقلم؛ بالشعر والنثر والمسرح، والمقالة، والكتابة بصفة عامة، مثل ما فعل الأديب صبحي فحماوي في هذه الرواية، بدءاً من هذا العنوان الصادم، فكيف يأتلف الضدان، كيف تكون هناك صداقة بين صاحب أرض اغتُصبت منه، ومع من اغتصب تلك الأرض، وهذه المفارقة في العنوان هي نوعٌ من لفت الانتباه، كما عهدناه عند الكاتب، وهذه الصديقة اليهودية هي من سيؤكد على تلك الجرائم التي ترتكب هنا وهناك، لأنَّها كانت في البدء مقتنعة بكل ما يحدث في فلسطين من قبل اليهود.. وهنا يلتقي وعيان مهمان في هذه الرواية؛ وعي اليهودي بما كان من اضطهاد عبر سنوات طويلة، ووعي العربي الذي يرى في ذلك الغربي عدواً له، بوقوفه مع هؤلاء اليهود.. وبالفعل هذا ما عبر عنه فحماوي في هذا العمل بطريقة أو بأخرى، ولكن هناك أحداث عديدة عبَّر عنها بطريقة غريبة، وذلك باستخدام أسلوبه الساخر في بعض المواقف، وفي نهاية المطاف كشف الكاتب عن تلك المجازر التي ارتكبها الكيان الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني. وسوف نقوم بدراسة عنصر الغرابة أيضاً في هذا العمل والذي يبدأه الكاتب بالتصدير بعد أن عنونه بذلك العنوان اللافت كما تناولناه. غرابة التصدير لا نقصد بغرابة التصدير أن وجوده غريباً، فالكاتب يصدِّر عمله كيفما شاء، ولكن نقصد أنَّ الكاتب قد جاء بهذا التصدير للتأكيد على تلك الغرابة التي ظهرت من خلال بعض مقولات هؤلاء الأعلام، والتي عبرت عن ألم الشعب الفلسطيني واستغربوا ما يفعله الاحتلال بهم، وهو ما جعل الكاتب يصدِّر هذا العمل ببعض المقولات لمشاهير العالم في العلوم المختلفة، تلك المقولات التي تؤكد على حق الفلسطيني في أرضه، وحق العودة.. ويبدأ صبحي فحماوي تلك المقولات لألبيرت أينشتاين العالم الفيزيائي المعروف صاحب نظرية النسبية، فله رأي فيما يخصُّ القضية الفلسطينية، يقول: «من أشد لحظات حياتي حزناً، أن أرى الفلسطينيين يتعرضون للإبادة الجماعية.»[1]. يستغرب أينشتاين مما يحدث للفلسطينيين، من إبادة ممنهجة، من قبل اليهود، فهو أمرٌ يمثل له أشد لحظات الحياة حزناً، وهو هنا يمثل شخصية يهودية، لأنَّ أبويه يهوديان وهو ألماني المولد وسويسري وأمريكي الجنسية، وهنا أيضاً يمثل أينشتاين الإنسانية في سمو معانيها، وهو يبحث عن القيمة والعدل. وهو الأمر الذي يؤكد عليه مالكولم إكس إذ يأتي الكاتب بمقولة له ضمن هذا التصدير؛ بحكم أنَّ التصدير دليل على العمل أو أنَّ التصدير يمهد للدخول إلى العمل: «الجدل الصهيوني الذي تبرر به إسرائيل احتلالها لفلسطين العربية لا يمتلك أي ذرة من الذكاء الفكري، أو أي أسس أو مقومات قانونية في التاريخ». هو الآخر يستغرب ما تقوم به إسرائيل من أسباب واهية لاحتلال الصهاينة لفلسطين العربية، ومالكوم إكس داعية إسلامي أمريكي من أصل أفريقي، وقد عاش قبل اغتياله مدافعاً عن حقوق الأقليات في أمريكا خاصة السود ضد العنصرية البغيضة، وقد أحدث انقلاباً في تعرية المجتمع الغربي للتعريف بالمفهوم الصحيح للعقيدة الإسلامية، مما أهله للدفاع عن الإسلام ضد هؤلاء اليهود العنصريين المحتلين لفلسطين، مما جعله مصدر ثقة لكثير من العرب والمسلمين في أمريكا المُفترض كونها «راعية الحرية». مالكولم إكس دافع بكل ما أوتي من قوة عن قضايا عربية وإسلامية عديدة، أهمها القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، وكيف أنه قد وقف رغم المضايقات التي نالها ضد اللوبي الصهيوني العالمي، في أمريكا وغير أمريكا. ويأتي تصدير آخر يؤكد ما سبق وأن ذكره فحماوي على لسان الآخرين، من أهمية الوقوف مع القضية الفلسطينية، وإذا كان كلٌّ من ألبيرت أينشتاين ومالكوم إكس، قد أكد على وجوب الدفاع عن هذه القضية بهذه الأقوال، التي استغربا فيها ما تفعله دولة الاحتلال بالشعب الفلسطيني. وأما المناضل الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا فقد حسم الأمر في بلاده بأنَّ حرية بلاده في جنوب أفريقيا ترتبط بحرية الشعب الفلسطيني، إذ قال: «إن حرية شعوب جنوب أفريقيا لن تكتمل الا بحرية الشعب الفلسطيني.» ويقول المهاتما غاندي في هذا التصدير: «إنَّ فلسطين عربية، بنفس المنطق القائل إنَّ إنجلترا إنجليزية..إنه خطأ كبير وغير إنساني اتخاذ قرار؛ بفرض اليهود على الأمة العربية» المهاتما غاندي. قرار خطأ وغير إنساني أن يُفرض اليهود على العرب فرضاً، وهنا نشعر بأنَّ القضية الفلسطينية ليست قضية الشعب وحده، بل هي قضية العالم الحر كله، وهي قضية من يدافع عن الحرية في أي بلد من البلاد، حتى ولو كانت أمريكا نفسها فهناك من يشعر بالخزي والوضاعة مما تفعله أمريكا بوقوفها مع الكيان الصهيوني. ونرى في الإهداء ارتباطاً واقعياً بالعمل؛ حيث الإهداء إلى أيقونة من أيقونات النضال الوطني من أجل الحرية والنضال في سبيل إنهاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا» إلى نيلسون مانديلا» رمزاً من رموز النضال في هذه القارة السمراء، فقد ظل ما يقارب من الثلاثين عاماً في غياهب السجون، فقط لأنه يريد الحرية وإنهاء الفصل العنصري، وحين يأتي به الكاتب هنا وفي جزئية الإهداء، فهو بذلك يبحث عن أولئك الأحرار في العالم، وهو ما أكده ببعض المقولات التي صدر بها العمل، فالكاتب على علم بما يحدث حول العالم من ظلم واضطهاد، وهو الأمر نفسه يحدث في فلسطين «مِـنْ المَعْرُوْفِ أنَّه، وبعد أن تَطورَت الدِّرَاسَاتِ الأدبيةِ والنَّقْـديةِ والعِلْمِيَّةِ في هذا العَصْرِ، أصبحَ من الأهميةِ بمكان أنْ يكونَ هناك تقديرٌ معنوي لمن يقدِّم لنا شَـيْئاً فكيف السَّبِيْلُ إلى ذلك؟ فما كان عند العُلماءِ والأدباءِ والفنانين، إلا إهداءُ الكتاب أو العمل الذي تمَّ الانتهاءُ منه، سَواءً أكان هذا الإهداء مطبوعاً في نسخةِ الكتَابِ أو أنْ يُكْتَبُ بداخل العملِ بخَطِّ اليَدِ، وهناك فارق بينهما، وبصفةٍ عامةٍ « الإهداءُ هو تقديرٌ من الكاتبِ وعرفانٌ يحمله للآخرين، سواء أكانوا أشخاصاً أو مجموعات (واقعية أو اعتبارية)، وهذا الاحترام يكون إمَّا في شكل مطبوع (موجود أصلاً في العمل/الكتاب) وإمَّا في شكلٍ مكتوبٍ يوقعه الكاتب بخط يده في النسخة المُهداة»[2]. وهنا كان الإهداء مكتوباً في بداية الرواية تقديراً من الكاتب إلى هذا الزعيم الأفريقي الذي ناضل كثيراً في سبيل قيمة الحياة والحرية وعدم الفصل العنصري بين هذا وذاك. حركة المكان [ الحافلة ] حركة المكان تبدو في تلك الحافلة التي استقلها جمال قاسم للتنزه عبر ربوع أوروبا، ويتفاجأ بتلك السيدة تجلس إلى جواره فيها؛ ما جعل هناك حوارات متبادلة بين الاثنين، عبر المكان المتحرك، والذي بداخله حركة للمكان، فكل مدينة يصلون إليها تجد السارد يسرد عنها ، وعما حدث فيها، بل ويأتي بتلك القصص القديمة للتأكيد على ارتباط الأحداث، فهو وبطبيعته دائم الأسفار، فيحدث نوعٌ من الدراما في العمل، والتي تظهر من خلال حرارته ومدى سخونة تلك الحوارات. كان الموقف الأول الذي يظهر فيه نوعٌ من الاستغراب عند جمال قاسم شخصية الرواية وقت دخوله الحافلة ، فتنادي تلك المضيفة الجميلة على اسمه.. جمال قاسم، إذ نقرأ؛ «تدقق الأوروبية في أوراقي، لتعرف هُويتي، وما إذا كنت قد سدّدت نقود الرحلة حسب الأصول، وبمكبِّر الصوت تُعرِّف السياح عليّ، بأن اسمي جمال قاسم.. تبتسم وهي تقول: «إنه العربي الوحيد في المجموعة.»ص6. إلى الآن لا توجد غرابة أو استغراب، ولكن نطق إحدى المسافرات على الحافلة مرتبكة خوفاً بأنَّ العربي يُذكرها بصدام حسين.. وقتها كانوا يلصقون أي عمل إرهابي بالإسلام والمسلمين...رغم أنهم منه براء،إذ يقول السارد: حين سمعت إحدى الموجودات في الحافلة اسم العربي جمال قاسم العربي قالت: «صدام حسين! صدام حسين! هكذا صهلت امرأة غربية بيضاء، جالسة في وسط الحافلة على مقعد الممر، وهي ترفع وجهها باتجاهي، وذلك بعد سماعها اسمي، ومشاهدتها وجهي العربي»ص6. وهو الأمر الذي أربك جميع من كان في الحافلة، وجعل الجميع في حالة من التوتر؛ خوفاً من ذلك العربي، يقول الكاتب على لسان البطل: «بصراحة، أشعر بحرج شديد بعد سماعي لعبارة الاستنفار التي واجهتني بها تلك القحبة المضلِّلة، وأنا أسير في الممر، خلف المضيفة التي تحترم مهنتها وهي تشير إلى مقعدي المخصص في الحافلة، وذلك بمنتهى اللطف والكياسة»ص7. إنها الحافلة التي ستصبح هي المكان المتحرك.. لنرصد من خلالها حركة المكان والمكان المتحرك مع تلك الصديقة اليهودية، يتضايق جمال قاسم مما ذكرته هذه المرأة، خاصة وهو يعلم مدى الظلم والقهر الواقع على بلادنا العربية من الشرق للغرب، وبالصدفة، كانت مضيفة الحافلة تشرح للسياح أنهم يمرون الآن من فوق جسر لندن الذي يقطع نهر التيمز، وليس الوحيد.. بل هو واحد من ثلاثة وثلاثين جسراً فوق هذا النهر، لتتفاجأ المرأة باستدارة ذلك الشاب العربي الثلاثيني الذي وصفته بالإرهابي، لأنه ينتمي للعرب، وهو يقول لها، بكل حرقة: «سؤالي هنا هو: هل جاءكم أيُّ عربي، فحطّم جسراً واحداً من هذه الجسور الإنجليزية العتيدة؟» .. كنت أتقدم نحوها بوجهي الملتفت إلى الخلف، فارجعت الغربية الشقراء وجهها المرتبك أمام تقدم وجهي، وكأنها ما تزال مرعوبة من هذا العربي الإرهابي.
صارت جادة تقاوم هذه المرّة، وهي تقول: «لا، لم يأت.»ص8. تجيب بعد دهشتها واستغرابها من جرأة هذا العربي .. تجيب بما هو حقيقي.. إذ لم يأت لهم عربي ليهدم واحداً من تلك الجسور، مثلما فعلوا في العراق، التي حطموا جسورها واحتلوها بحججهم الكاذبة، وهو ما جعل جمال قاسم يلقي وجهة نظره في هذا الموقف، وذلك لإسكاتها نهائياً :»لم تخجلوا بوصم العرب بالإرهاب.. ترى من هو الإرهابي، الثلاثون دولة المعتدية على العراق، أم العربي المعتدى عليه؟»ص8 . [1] صبحي فحماي، صديقتي اليهودية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت، لبنان، 2015 ص3 [2] عبد الحق بلعابد، عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص، الدَّار العربية للعلوم، الجزائر 2008.ص 67
المصدر: الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 12-06-2020 08:35 صباحا
الزوار: 684 التعليقات: 0