|
عرار:
نبيل حداد يمكن القول إن مفهوم الثقافة الشعبية، قد استقر، بحسب اجتهاد الباحث على أنها تنهض على مكونين رئيسين: الفلكلور الشعبي وتجلياته الشفاهية والعيانية من جهة، ثم على العادات والتقاليد والموروث الفكري واللغوي والإبداعي الكامن في أعماق الروح الإنسانية والنفس البشرية لدى مجتمع من المجتمعات من جهة أخرى. (1) يلاحظ القارئ لموروث غالب هلسا السردي، المولود (حسب أرجح الروايات) في ماعين جنوب الأردن في 18/ 12/ 1933 والمتوفى في دمشق في اليوم ذاته وفي الشهر ذاته سنة 1989، أن هذا الموروث يمكن أن يفتح للوهلة الأولى آفاقاً للدرس النقدي والتحليل الاجتماعي، والأنساق الثقافية ضمن أكثر من زاوية، ذلك أن غالب مغترب أبدي، بحسب الوصف الأدق الذي وصفه فيه ووصف أدبه صديقه الروائي سليمان فياض، سواء في تنقلاته المكانية أو في تنوع بيئات أعماله التي يعيش بها القارئ أجواءً مصرية وعراقية وسورية ولبنانية وأردنية، وهذه الأخيرة تشمل أكثر من طيف: مديني وريفي وبدوي. وفي هذه المقالة سنحاول أن نقدم مقاربة تحليلية للثقافة الريفية / البدوية في المقام الأول، كما تجلت في قصتيه؛ الطويلة نسبيا: «البشعة» التي ضمتها مجموعته «وديع والقديسة هيلانة وآخرون» ثم في قصته الأقرب إلى الفن الروائي في حجمها وإطارها السردي «زنوج وبدو وفلاحون» المنشورة ضمن مجموعة غالب التي تحمل العنوان نفسه، وذلك استناداً إلى محاولة منهجية مقترحة لدراسة تصوير الأدب للثقافة الشعبية في مختلف البيئات المدينية والريفية والبدوية: هل يقوم النص السردي الذي يتناول الثقافة الشعبية على التصوير فقط أم على التسجيل فحسب ؟ أم على التصوير والتسجيل معا؟ ذلك أن الواقع الاجتماعي في الأردن خلال الفترة التي عاش فيها غالب في بلده الأم كان – وربما ما زال في بعض قطاعاته – واقعاً انتقالياً؛ فالمجتمع الأردني جديد، سواء بتكوينه السكاني أو بتوزيعه الجغرافي، إي إنه ظل يمر بمراحل تحول متلاحقة منذ قيام الإمارة عام 1921 إلى اليوم، إذ شهدت الإمارة – ومن ثم المملكة- تحولات جذرية اجتماعية وديمغرافية وسياسة...إلخ، ولا سيما في المرحلة التي يصورها غالب في أعماله، فتحولت – مثلا- قطاعات كبيرة من السكان من الرعي إلى الزراعة، ومن الرعي والزراعة إلى الالتحاق بالقوات المسلحة أو العمل الوظيفي المدني، إضافة لاستقبال البلاد موجات عديدة من اللاجئين والمهاجرين من الأقطار العربية المجاورة أسبغت على التكوين الديمغرافي سمة قومية جامعة. وكما ذكرنا آنفا فإن ما تسعى لتقديمه هذه المقالة مقاربة لهذا الواقع الاجتماعي كما صورته بعض أعمال غالب هلسا، في بعض مراحله التي تَطرق فيها -وماتزال- أبوابَ الطور المديني. تواجه أعمال غالب هلسا عند قرائه ودراسية ما يمكن أن نطلق عليه «إشكالية الهوية»؛ هناك أولاً إشكالية تتعلق بالبيئة التي تهيمن على أجواء أعماله، روايات وقصصاً قصيرة وطويلة؛ إذ نجد أن بعض دارسي الرواية في الأردن يلحقون – بتحفظ - بعض أعماله بالحركة الروائية «بشكل خاص» في الأردن؛ فلا يرون في هذه الأعمال أكثر من ملامح أردنية وقد شجع على هذا المنحى أن غالب أمضى جل سنوات إبداعه خارج الأردن، وبالتحديد في مصر والعراق ولبنان وسوريا، وكان من الطبيعي أن تنعكس مؤثرات عميقة من السمات المحلية لبيئات هذه الأقطار – ولا سيما البيئة المصرية – في أعمال غالب بل وفي أعماقه الشخصية كذلك. على أن التاريخ الشخصي، ولا سيما فترة حياته الأولى في القرية والبادية وعمان (المدينة الأقرب إلى البلدة آنذاك)، وهما البيئتان اللتان عاش فيهما غالب فترة صباه، بل قل فترة تكوينه حتى بلغ الثامنة عشرة من عمره، يفرض حضوره في معظم أعماله الرواية، ولعل ذلك قد أخذ أعلى درجاته في رواية «سلطانة» (1987)؛ ذلك أن البيئة الوحيدة – على الأغلب الأعم- التي تشكل فيها عالم هذه الرواية، وجرت فيها وقائع الرواية، وانبجست فيها معطياتها الاجتماعية والنفسية والقيمة هي بيئة صباه، وهي بيئة ريفية بدوية مختلطة شبه مدينية معاً؛ ذلك أن غالب قد ولد ونشأ في منطقة متداخلة البيئات، وهكذا فإن بيئة «سلطانة» بحكم البيئة المحلية فيها، وبحكم المرحلة الانتقالية التي جرت فيها أحداثها تظل النموذج الأفضل تمثيلا- روائيا- لأساليب العيش وأسباب الحياة لقيم الريف والبادية في هذه المرحلة المهمة في تأسيس شخصية غالب هالسا التي ظلت حتى النهاية تعيش أزمة ناجمة عن هذا التوزع. ففي «سلطانة» استعمل غالب إلى أقصى مدى المفتاح الذي استعاره من وليم فوكنر (1897-1962) لاكتشاف ما تكتزنه القرية التي احدر منها كل منا وما تختزنه أساليب العيش البسيطة من عناصر درامية، وليس الواقع المحلي الأردني اسثناء من هذه الحقيقة. كانت عبارة فوكنر الشهيرة: أستطيع أن أكتب عن قريتي دون توقف. (2) وإذا انتقلنا إلى قصة «البشعة». نلاحظ أنها تنحو إلى اللجوء إلى الموروث الشعبي دون غيره من المورثات التي حضرت بشكل أو بآخر في أعمال غالب هلسا. «والبشعة» طريقة تعارف عليها القوم لانتزاع الحقيقة بطريقة قاسية من فم متهم يأبى الاعتراف بجريمته، ولا يملك المستجوبون ثمة دليل لإدانته سوى إجباره على الاعتراف عن طريق «البشعة»، أي أن يمد المتهم لسانه نحو سيخ حديدي محمّى بالنار فإن كان بريئا نزلت النار على لسانه بردا وسلامًا وإن كان مذنبا احترق لسانه فينال بذلك عقابه العادل. تقول والدة المتهم بمحاولة اغتصاب: «هل تظنون ابني يهجر فراش امرأة بيضاء وسمينة يسيل لعاب من يراها... يهجر سريراً ومراتب لينة ليعاشر امرأة سمراء مرصوصة كعصا الفرن: هل عميت عيناه حتى لا يرى غيرها ويهجر فراشاً طرياً؟ إني عجوز على باب القبر ولا يهمني غير قول الحق ولو على نفسي. ولكن الأمر واضح كالنهار أن امرأة مثلي تراه... فكيف لا ترونه أنتم الرجال؟ إنني والله... ولكن الرجل الأشعث (ولي أمر الفتاة) يقاطعها: «نحن والشاهد الله لا نتهم أحداً. من قال إننا نتهم أحداً؟ والله لو أنني رأيت ابنتنا في حضن ابنكم بعيني هاتين لما صدقت عيني، فهو أخوها والأخ لا يدنس عرض شرف أخته، ولكن كلام الناس هو الذي يؤذيهم، وهو الذي عليهم أن يمنعوه. ويسأل الأشعث والدة المتهم وهي بمثابة الحامي حمى الأسرة: هل تريدين أن يمر أحدنا أمام جمع الرجال فيرمي عينه على الأرض خجلاً؟ ويضيق الأشعث وكأن الأمر في منتهى البساطة: ما نريده لا يغضب أحداً. سوف يمد ابنك لسانه وهذا جزاء المذنب، وإن كان بريئاً فستنزل عليه النار برداً وسلاماً كما نزلت على سيدنا إبراهيم، وهذا أملنا بالله «. على أن شقيق المتهم يرد بصوت هادئ ولكن الغضب كامن في نبراته:» أشهد ان لا إله إلا الله وأن سيدنا محمداً رسول الله...اسمعوا يا رجال ...ماذا يكون موقفكم وموقفي لو أن لسان أخي احترق بالنار وأمضى العمر يلوك الكلمة فلا تخرج من فمه، واكتشفنا بعدها أنه بريء من ابنتكم براءة يوسف من امرأة العزيز؟ هل أوافق معكم على ظلم أخي؟ وهكذا فإن هذا الموقف، وهو بؤرة هذه القصة من حيث مضمونها وخطها الدرامي، يقدم صورة لمأزق القيم وأساليب الحياة التي يعيش في ظلها قطاع كبير من المجتمع القرية، أو مجتمع الريف بصورة عامة، وهذه القصة تصور المعضلات القيمية الكبرى التي تعيشها المجتمعات التقليدية، فالسعي وراء الحقيقة قيمة مطلقة، ولكن المشكلة هي الوسيلة في مجتمع لم يعرف بعد آليات الدولة الحديثة، فلا يكون ثمة سبيل لهذا السعي إلا الخرافة، وهنا يكمن المأزق؛ إذ تطيح الوسيلة بالغاية. وكذلك الأمر بالنسبة للقصة الطويلة التي تحمل عنوان المجموعة، «وديع والقدسية ميلادة وآخرون» التي تلجأ إلى الشعائر الدينية (المسيحية تحديدا) المتوارثة للتعبير عما يدور في أعماق الشخصية وصياغة ملامح موقفها الثقافي المتميز من العالم. فالموروث الشعبي، كما يرى صبري حافظ في هذه القصة تجديداً، هو الأساس، وليس الشكل الخارجي للشعائر الاجتماعية فحسب. ولقد استطاع غالب أن يستعمل الموروث الشعبي باعتباره مجموعة من الأنساق الشفرية التي تتخلق عبرها لغة بالغة الثراء، يستطيع النص القصصي استخدامها ببراعة، ولا يتعارض اللجوء إلى هذه الشفرة الثرية مع منهج غالب الأثير في التعبير القصصي، لأن أغلب الموروثات الشعبية هنا متجسدة أفعالا وأشكالا إجرائية وليست ذهنية مجردة في هواجسها ومآزقها الوجودية الكبرى، وكل هذا يتشكل مجبولاً -دراميا- بمعطيات المعتقدات المتوارثة التي تنبع من الأساس الثقافي المنشغل بقضايا مصيرية في كل زمان ومكان. ولكن هنا في «البشعة» فإن قدرة هذا الكاتب تتأكد في تكوين الصورة الإنسانية الكبيرة من المشهد المحلي الذي لا يجاوز حدود مجتمع صغير في بيئة تكاد تقترب في مفاهيمها –برؤية السارد الفلسفية: «زحف الخوف من زوايا الدار الكبيرة وتحول في داخلها إلى انتظار مفجع ... رأت قافلة طويلة تختلط فيها وجوه الأحياء بالموتى سائرة إلى نهاية معلومة، ومن ذلك يتولد لحن بكائيات وصور جثث مسجاه. حكى اللحن عن وجود كان يملأ الدار ثم انتهى، وعن شباب يشكو وعورة الدرب والظلمة والأم التي تقف مترقبة. وفكرت دون خوف: «في القبر سأكون وحيدة كما أنا في هذه اللحظة». وأصبح لحن الموت يحتوي كل شيء: يتناغم في إيقاعه مع نبضات القلب، وحركة التنفس، وأصوات الدواب، وصفير الصراصير... مع صمت القرية الهادر... من ذلك كله انفجر أساها عميق. حزن أخرس جعل جميع الأشياء تبدو مجرد انتظار مستحيل. الملابس المعلقة باستسلامها اللامبالي تدعو يد الزوج لتنتزعها وتضعها في زهو... واللحن الحزين يحتوي ذلك كله، كان فيه وينساب في الجو... تنبهت الأم فجأة إلى أن لحن البكائية يأتي من الخارج، فانتفضت غاضبة وهي تمتم «لم يمت بعد... أنا أمه... أنا أمه ولن يموت». نقرأ في النص السابق وما يمكن أن يعبر عنه بـ «الإحساس بالفقد» وهناك من يرى أن هذا الإحساس بالفقد ليس سمة عصرية بقدر ما هو سمة مصرية صميمة، ولكن ما نقرأه في النص السابق، بل ما تقوم عليه أحداثها ووقائعها في بيئة الريف المحلية الذي متح منه غالب يوحي بأن هذا الإحساس بالفقد له جذور في الريف العربي، بل وفي البادية العربية بعامة، لأن تجربة مجتمعات هاتين البيئتين لها جذور تاريخية عميقة، وعادة ما نلحظ أن الإحساس بالفقد يشتد في مراحل النمو والتغيير، حيث تدخل الآمال والقدرات في سباق غير متكافئ غالباً ما تنهزم فيه الآمال، وتمتلئ الحلوق بالمرارة ... مرارة الفقد . (3) أما «زنوج وبدو فلاحون» فهي أشبه بمقطع عرضي (وليس طولياً) لمجتمع انتقالي حقاً تتحفز فيه البادية للانتقال إلى الطور الحضري، ولعل عنوان هذه القصة الطويلة يشير إلى نمط معيشي تنجم عنه ثقافة اجتماعية فريدة بمكونات ثلاثة ما زالت تحتفظ هذه المكنونات: الزنوج (وهي كلمة يستحضرها السارد على ما يبدو تجنبا لاستعمال رقيق أو عبيد)، ثم الفلاحون فالبدو . وتقدم القصة صورة من التعايش، في بيئة واحدة حيث كل جماعة من الجماعات الثلاث تحتفظ بثقافتها الخاصة رغم أنها تقطن في الديار نفسها. بيد أن كل جماعة من هذه الفئات تحتقر الجماعتين الأخريين بل تحقد عليها ويتقاتلون لأتفه الأسباب ، ومع هذا فإن الجميع يتعايشون، بل يتزاوجون ويتعاونون لإنجاز مقتضيات الحياة،. وعلى أية حال فإن القصة لا يغيب عنها السعي لتصوير هذه الثقافات الثلاث المجتمعة في قرية واحدة: مجتمع العبيد بثقافة الحقد والخنوع معاَ، والبدو بثقافة التعالي واحتقار العمل الزراعي، حيث لسان حالهم ينطق بكل مناسبة بقول الأخطل: لسنا كمن جعلت إياد دارها تكريت تنظر حبها أن يحصدا أما الفلاحون ورغم خضوعهم الظاهر للأسياد من أهل البادية، فإن ثقافة الحفاظ على العرض عندهم تتغلب على كل القيم الأخرى كما يتجلى هذا في واقعة قتل سحلول على يدي الفلاح بعد أن حاول هذا أن يغتصب زوجته أمامه وفي بيته. يستهل غالب قصته هذه بموقف يدخل فيه مكون رابع فوق الجميع هو الآخر المستعرب، أو جون باجوت غلوب، الضابط البريطاني الشهير، الذي أشرف على تشكيل القوات المسلحة الأردنية، ومكث في الأردن قائداً للجيش العربي حوالي خمسة عشر عاماً، وكان يتقن العربية، ويسعى جاهداً لأن يكون جزءاً من القوم بعاداتهم وتقاليدهم ونمط حياتهم ومسايرتهم ومساعدتهم كذلك بإلحاق أبنائهم في القوات المسلحة، مما سيسفر عن تغيير نمط حياتهم وانتقاله إلى الاستقرار مزارعين على الأغلب. يحل غلوب باشا ضيفاً على القوم في بيت الشعر الذي يعود لكبيرهم: «جاء الضابط البريطاني عند منتصف الليل، لم يتجه إلى الخيام ولكنه نام مع الرعيان في الصباح زار الشيخ وجلس في الجزء المخصص للرجال من الخيمة، في صدر المكان متكئاً بكوعه على المسند المغطى بالسجاد، والشيخ يجلس بجواره ضئيلاً وقذراً...». ولا يلبث المشهد أن يستكمل بعدد من دلالاته من خلال زي الضابط في لباس شرطة البادية الأردنية والتزامه بعادات القوم في الجلوس وتناول القهوة والطعام بل وملاحظاته للخدم بلغة القوم، كان يتصرف بوحي اعتقاد ساذج أنه يكسب ولاء هؤلاء البدو بادعاء التمسك بعاداتهم وبالحرص المبالغ في التقيد بها، يخدعه الاستحسان الذي تثيره ملاحظاته على القهوة حيث يقول مثلاً «الزمها نار يا ولد..... قهوتك باردة».... ولعله لم يكن ليفوته أن البدو يتظاهرون أمامه بالتملق الشديد بمثل تلك العبارات وأن جلساءه لم يكونوا بالسذاجة التي كان يعتقدها فيهم؛ حتى لو تكلم بلهجهم بغية أن تأخذ الصورة التي يتوخاها لنفسه أبعادها النفسية والاجتماعية. لكن جلساءه لم يكونوا بالسذاجة التي كان يعتقدها فيهم؛ فحين كان يتكلم بلهحة تخالطها لكنة غريبة، ترسم على وجوههم ابتسامات يخفونها بتقطيب الحاجبين. أما التغير الذي كان يصيب الريف من جراء التحاق العديد من أبنائهم بالقوات المسلحة، فكان ينتقل بالقرية من المستوى التقليدي القديم إلى مستوى أكثر اقتراباً من البيئة المدينية، بمعنى أن القرية قد تصبح بلدة، في حين يلتحق الكثيرون بالحياة بهذه البلدات بنمط حياة جديد، فيؤسسون قراهم وبلداتهم الخاصة بهم، مع احتفاظهم بقيم البادية، وتتحول قطاعات كبيرة من سكان الريف إلى طور أقرب إلى الثقافة المدنية إذ يتركون بلداتهم وقراهم ويعيشون في بلدات في طريقها لاكتساب شروط المدن. واضح أن هذا الجزء من المشهد يكاد يكون نموذجياً في موقف كهذا، ويستدعي حشداً من المكونات الثقافية الشاخصة لدى الطرفين: الضابط والبدوي. فهذا الضابط بريطاني، والبريطاني يلتزم بالأصول، ويحاول دوماً أن يخفي عنجهيته، لذا اختار المبيت عند الرعاة حتى لا يزعج الشيخ، ولكن العنجهية سرعان ما تبدت حين اختار صدر البيت مجلساً له دون استئذان، أما موروث الشيخ الجسدي فهو ضالة حجم الجسم، وللكلمة هنا سيمائيتها شبه المعلنة ويكشفها وصف الشيخ بالقذارة التي تحيل إلى وضع اجتماعي متواضع في العرف المديني بأكثر مما تشخص البعد الجسمي حجما وهيئة. ولهذا الضابط وجود تاريخي مهم في بيئة الأردن، بل لعله من أهم من أسهموا في تحولات ثقافية واجتماعية جذرية في حياة البادية الأردنية، حين انتقل أبناؤها من الرعي والفروسية، إلى حياة الاستقرار وإنشاء المجتمعات العربية الجديدة، وذلك بفضل التحاق أبناء البادية بالقوات المسلحة، والمعروف أن غلوب باشا هو من أصر على استراتيجية تفضيل أبناء البادية الأردنية للخدمة العسكرية لما عرف عنهم من فروسية والالتزام باحترام سيد القوم كائناً من كان. ولئن حمل الفصل الأول عنوان جون باجوت غلوب، فإن الفصل الثاني موسوم بـ : الورادون، وهذا الفصل بدوره ينطق بمفردات تشخص جانبا ثانيا من ثقافة القوم يتعلق بثقافة العيش لدى أهل البادية والريف. الورادون تعني موردي ماء الشرب وضرورات الحياة من عيون الماء وتجمعاته، ويقدم غالب صورة معبرة لهذه المشاهد أقرب إلى التوثيق لذاته، ولكن صورة هذا التوثيق لا تقتصر على حدث «الورادة» بل تمتد لتشمل جوانب أخرى، غرامية في المقام الأول، ولعل إيراد النص بالصورة التي كتبها غالب هلسا تغني عن أي تعليق: «ومع الضحى يقبل الورادون يسوقون حميراً محملة بقرب الماء: فتيانًا وصبايا في المؤخرة يستمتعون بآخر لحظة من اللقاء والغزل. ومن رحلة ورود الماء تنشأ الزيجات المقبلة... وعند وصول الورادين تكتسب الوجوه تعبيرات فيها جدية وتعاسة. يسود التوتر وتدع النساء أماكنهن. التوتر يسري إلى الشيخ. وتتكثف الصور الشعبية الأقرب إلى الصور الشعرية، منها إلى النثر المحايد، حيث يقدم غالب صورة للجوانب الإنسانية للحياة الريفية، وعلى الرغم من بساطة العيش، وبدائية الحياة، فإن اهتمام غالب القيمي المتوارث، ينجح في جعل شخوصه أقرب إلى النماذج في جوهرها البشري وعطائها الإنساني. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 22-12-2023 05:57 مساء
الزوار: 175 التعليقات: 0
|