|
عرار: د.مراد عبد الرحمن مبروك - تعتمد قصائد «أشجار النار» للشاعر جميل أبو صبيح، على السردية الحكائية، ويرجع هذا للمقاربات الشعرية والقصصية معاً، التي طرأت على الأشكال الأدبية، وعنى بها «رانسون» في البناء الأنطولوجي للقصيدة عندما رأى أن نسيج القصيدة يتألف من الشكل والمعنى، وأن الفن الأول يستخدم اللغة في عملية التشكيل. وقد تبعه «وليم جي هاندي» (Wilim. j. handy) في الربط بين البناء الأنطولوجي لكل من الشعر والقصة، إذ يرى أن الوحدة التقدمية التي تميز القصة أكثر من أي شيء آخر من الشعر هي صياغة التجربة في سلسلة من المشاهد أو الحكايات، وأن هذه الوحدة التقدمية في القصة يمكن أن يُنظر إليها على أنها موازية للصورة في الشعر من وجهة النظر الأنطولوجية، على أن وجهة النظر هي الأساس العام للبناء في كل من القصة والشعر. أي أن الصورة الشعرية من وجهة نظر «هاندي» توازي المشهد القصصي. ومن هذا المنطلق نقف عند قصيدة «الشجرات المقدسة» من مجموعة «أشجار النار» على سبيل التمثيل لا الحصر. تبدأ القصيدة بوصف شجرات التين العتيقة الموغلة في القدم، والتي تذكِّر بتراث الجدود الكنعانيين، ويربط الشاعر بين الشجرة والإنسان من حيث أنها تفرد أغصانها في جسد الفضاء الفسيح فتُذَكِّره بأذرعة الجدود الكنعانيين وهم يلوحون بأذرعتهم الضخمة، وهذا الربط بين صورتَي الشجرة والإنسان نجده في الميثولوجيا القديمة وتشير إليه العديد من الدراسات الميثولوجية، خصوصاً «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر. هذه الأشجار أشبه بالأشجار المقدسة في التراث القديم، فهي تحمي القرية من اللصوص والوحوش البرية، ويستريح في ظلها الإنسان والحيوان والطير، وهي تحف بأجنحتها كل المخلوقات، فتأوي إليها الأغنام الشاردة والكلاب الضالّة، وتحطّ عليها الطيور، ويأكل منها المارّون والعصافير والثعالب، وتنحني عليهم جميعا تقبلهم واحداً واحداً. تواجه الشجرة الغرباء القادمين من كل صوب وحدب يجرون بيوتا خشبية ومستوطنات متنقلة ويحملون في أياديهم المدافع الرشاشة والمناشير ويقومون بتقطيع الأشجار الصغيرة، ويضعون سياجا حول شجرات التين، فيندفع المصورون والمرتزقة والصحف والإعلاميون ليصرخوا بأن هذه الأشجار أشجارهم: «وانْدلقتْ قُطْعانٌ مِنْ آلاتِ التَّصويرِ ومُرتزقةِ الصُّحُفْ وَغَرَقَ الجميعُ بِبحارٍ منَ الخِسَّةْ ثُمَّ صرخوا بأعلى ما في رُؤوسِهم: هذِه الشَّجراتُ لنا أحضَرْناها مع بيوتِنا الخشبيَّة نحنُ شعبُ الله» (ص 32). ومثلما نجد في الميثولوجية القديمة مدى اقتران الشجرة بالميلاد، فإن شجرات التين تلد شجيرات صغيرة تحمل في يدها حجارة وسكاكين ورايات وتصرخ قائلة: «نحنُ البذرةُ والأرضْ نحنُ الشَّعبُ النَّابتُ في عُمقِ التُّربةْ زَرَعَ الأجدادُ لنا الأشجارْ فَسَقَيناها التَّعَبَ وسَيلَ الدَّمْ نحنُ الفكرةُ نحن العَظمْ» (ص 33). هنا، يتضح كيف أن الأشجار يخرج من رحمها أطفال رمز المستقبل القادم يحملون الحجارة ويدافعون عن أوطانهم، غير أن استخدام الشاعر تعبيرَ «نحن الفكرة» يدل على تناقض الرؤية الفكرية، لأن الأطفال هم المادة والبذرة والتربة وليسوا الفكرة، بل إن المغتصبين للأرض هم الفكرة لأنهم جاءوا بأفكار نظرية وحاولوا أن يطبقوها في أرض لا يملكونها، بينما الأطفال لا يدافعون عن فكرة، ولكن عن واقع يعيشونه بالفعل. وهنا يتضح التناقض في الرؤية والأداة في هذا النص. وصور الشجرة على هذا الواقع الجديد عندما تتلو آياتٍ مضيئة تنطلق في الفضاء أقوى من الرعد، ويستمر الصراع بين الغرباء والأطفال الشرعيين المولودين من رحم الأشجار وتصرخ الشجرة في كل الحشود وتحثهم على المقاومة والدفاع، بينما المصورون ما يزالون يصورون الأطفال الذين يتساقطون واحدا تلو الآخر، ويحلم الأطفال بتفجير رؤوس الغرباء وطردهم من ديارهم: «أيدينا العارِيَةُ رِياحٌ عاصِفَةٌ تَنْزَعُكُمْ كَالإبَرِ مِنَ اللحمْ وسترْتحِلونْ عن دُنْيانا ترتحِلونْ بِقَوارِبَ مِن أجسادِكُمُ الرَّثَّةْ وسَيَرحَلُ مَعَكُم مَوْتاكُمْ وسَتَرحَلُ حَتّى ذِكراكُمْ وسَنَنْساكُمْ وسَنَنْساكُمْ» (ص 37). هنا تتضح السردية الحكائية من خلال سرد الماضي الذي عاشته الأرض بأشجارها العتيقة وهي تظلل على المحيطين بها إلى أن جاءها الغرباء وحطوا رحالهم وبيوتهم الخشبية التي حوّلوها إلى قلاع وحصون ودقوا أوتادهم فيها وأخذوا يصوّبون على أصحاب الشجرة طلقات نيرانهم ومدافعهم. * أستاذ النقد الأدبي في جامعتَي القاهرة وقطر. الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الجمعة 16-12-2011 05:35 مساء
الزوار: 1877 التعليقات: 0
|