عتبة الإهداء في «ذاكرة القرنفل» للشاعر أحمد الكواملة
عرار:
د. محمد عبدالله القواسمة عتبة الإهداء من العتبات المهمة في الأعمال الأدبية وبخاصة الشعر، ولا تقل أهمية عن عتبات: العنوان،والمقدمة والغلاف والمقتبسات وغيرها. فهي تساعد المتلقي على فهم النص، وتحليله، وبيان دلالاته، كما أنها تساعد المؤلف على إثراء نصه وتقديمه للآخرين. والإهداء تقليد قديم عرفته الحضارة اليونانية، وقد اهتم النقاد به كثيرًا في مقدمتهم الناقد الفرنسي جيرار جينيت في كتابه «عتبات» 1987م. في مجموعة الشاعر أحمد الكواملة»ذاكرة القرنفل» (بيروت: المؤسسة العربية، 1997م) ظهرت عتبات الإهداء مباشرة بعد عناوين عدد من القصائد، وبلغ عددها اثنتي عشرة عتبة، في حين بلغ عدد قصائد المجموعة كلها ستًا وعشرين قصيدة، أي أن نسبة القصائد التي رافقتها عتبات الإهداء 46% من مجموع قصائد المجموعة. وهي نسبة عالية. لا أعرف أن مجموعة شعرية أخرى بلغتها. تتكون كل عتبة إهداء في مجموعة الكواملةمن جملةفعلية قصيرة حذف فعلها الرئيس، وبقيت مقتصرة على حرف الجر «إلى» واسم المهدى إليه. وخلت أغلبها من التعابير الذاتية وبيان زمان الإهداء ومكانه. وقد توزعت الإهداءات على الشعراء: محمود درويش، جميل أبو صبيح، حبيب الزيودي، محمد عفيفي مطر، يوسف عبد العزيز، وثلاثة أشير إليهم بضمير الغائب، ووضحهم المؤلف في الحاشية، وهم: عمر شبانة، وغازي الذيبة، وعثمان حسن،وعلى الفنانين: كمال خليل، محمد أبو زريق، وعلى المناضلين: أبي غسان وآخرين ، وعدلي رزق الله، وعامر أبي سرحانوآخرين، ثم على مؤسسة رسمية، وهي»جيش العراق». ولمّا كان المقال لا يتسع لقراءة كل عتبة من عتبات الإهداء، وبيان علاقتها بالنص الذي تتصل به فسنكتفي بتقديم نماذج من هذه العتبات. في عتبة الإهداء إلى محمود درويش التي تتصدر قصيدة «سادن الشعر» نجد أن الشاعر يستند إليها في إثراء قصيدته بتعالقات نصية من شعر درويش، وإلى الدلالة على ما في شعر درويش من معان تعكس الصفات الإنسانية التي يتصف بها درويش نفسه؛ فهو رجل يمتلئ قلبه بالحب، ورغم بساطته التي تشبه بساطة الوردة إلا أنه عصي على الانحناء للآخرين، كما أن شعره يبدد الظلام بنوره.فنقرأ من القصيدة: «يحب الحياة إذا ما استطاع إليها سبيلا» عصي كموجة يحطم صخر الظلام ويبدع من لونه قنديلا (ص16) ومثلها عتبة الإهداء في قصيدة « المغني» إلى الشاعر حبيب الزيودي، فنلاحظ أن الكواملة يشير فيها إلى آخر قصيدة نظمها الزيودي قبل يومين من وفاته من عام 2012م، وهي قصيدة «طواف المغني»، ونراه يمتدح الشاعر بصفات تقترب من صفات درويش في القصيدة السابقة؛ وإن بصور أكثر كثافة فهو، أي الزيودي لا تهمه العواصف، ولا يعبأ بما يمكن أن يعترض طريقه من صعاب، إنه يمضي في غنائه جاذبًا إليه الناس بعذوبته. في طواف المغني تسد الرياح النوافذ تعصف الأفق تخنق معزوفة الروح ويمضي المغني يغني يمسد أعطافنا بالغناء (ص36) وفي قصيدة «صور» المهداة إلى الفنان التشكيلي محمد أبو زريق نلاحظ أن عتبة الإهداء فضلًا عن عتبة العنوان تكون منطلقًا لتقسيم القصيدة إلى خمسة مقاطع يحمل كل منها عنوان» صورة». نقرأ تحت ما جاء في» الصورة 5» لحظة أخرى. لحظة من مارد وانفجار لحظة أخرى...! ويشتعل النهار...(ص23) من الملاحظ أنها صورة لظهور النهار، يبرزها التكرار الذي يؤكد التوتر الذي يسبق ما يمكن أن يكون عليه المستقبل، وهو مستقبل كما توحي كلمة «النهار» مستقبل جميل يأتي بعد عسر. ومن القصائد التي يتحقق فيها الإهداء العام قصيدة « وتبقى يا عراق..!» المهداة إلى جيش العراق وشعبه، وهي العتبة الوحيدة التي انطوت على تعبير ذاتي باستخدام كلمة «عظيم» لوصف شعب العراق. وإذ يستند الشاعر إلى هذه العتبة في مدح جيش العراق وشعبه فإنه ينتقل منها إلى مدح العراق بأنه رمز للمستقبل الجميل للأجيال القادمة، والصمود ورفض الخنوع للعدو: يا عراق ستظل حلم صغارنا زاد المسافر عطر نسوتنا ورايتنا التي تأبى الركوع ستظل بغداد الشناشل والسنابل والقلوع(ص39) نلاحظ تعالق هذه الأبيات بقصيدة بدر شاكر السياب» غريب على الخليج» التي يتذكر فيها العراق، وهو مشرد في الكويت. الريح تلهث بالهجيرة كالجثام، على الأصيل وعلى القلوع تظل تطوى أو تنشّر للرحيل وفي قصيدة «نشيد الصعود» التي يهديها الشاعر إلى المناضل عامر أبي سرحان الذي نشر الرعب بين جنود الاحتلال قبل أن يقع في الأسر: توضأ قبل فاتحة العروج ولم وعثاء الطريق غباره الأزلي ذاكرة القرنفل وهو يحضن جيدها العالي النبيل كانت تهدهده بأغنية الحمام (ص79) في هذه الأبيات التي يرد فيها عنوان المجموعة «ذاكرة القرنفل» ينطلق الشاعر من عتبة القصيدة ليقدم المناضل عامر أبي سرحان عامرًا قلبه بالإيمان؛ فقد توضأ للصلاة قبل أن يمضي في الدفاع عن وطنه والعروج شهيدًا إلى السماء مع رفاقه، وفي عقله كانت تمر ذكرى عطرة كرائحة القرنفل، هي ذكرى الطفولة عندما كانت تهدهده أمه، وتغني له أغنية قبل النوم. كانت تلك المعاني التي حملتها بعض عتبات الإهداء في مجموعة الكواملة. لكن لا يفوتنا الإشارة إلى ان الشاعر لم يجعل لمجموعته عتبة إهداء رئيسية، تلك التي تأتي عادة بعد عتبة العنوان مباشرة، بل اقتصر ــ كما قلنا ــ على إيراد عتبات الإهداء بعد عناوين القصائد. وربما يعود هذا إلى إحساسه بالمحبة لهؤلاء الذين ذكرهم، وإعجابه بمنجزاتهم، وفي المقابل إحساسه بعدم الرضا عن غيرهم؛ وهذا ما يؤكده ما جاء في القصيدة التي افتتح بها المجموعة والتي حملت عنوان « نبي»، وهو عنوان دال بتركيبه وموقعه على ما ذهبنا إليه. فالشاعر يحس بأن قومه قد أضاعوه، كما أضاع الشاعرَالعرجي قومه: أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا/ ليوم كريهة وسِداد ثغر يقول الكواملة: ضيعوني وما دروا أنهم قد أضاعوا ندى صوتهم في رماد الشتات (ص6) والخلاصة فإن عتبة الإهداء في مجموعة « ذاكرة القرنفل للشاعر أحمد الكواملة بدت مهمة لفهم القصيدة المهداة، وتحليلها، واستكناه مراميها فضلًا عن نسجها لعلاقات المحبة والثقافة بين الكواملة وبين كل من أهدى إليهم قصائده. هكذا قام الإهداء بوظيفتيه: الدلالية، والتداولية ولم يكن وجوده عبثيًا أو عشوائيًا في «ذاكرة القرنفل».