قصة للشاعر، بقلم يوسف ماجد نايف [مونودراما]((إهداء إلى الإنسانية))[في مستشفى للأمراض النفسية. كرسي قديم في وسط المسرح ومرآة طويلة خلف الكرسي. يدخل يوسف المسرح بهدوء وهو يتحرك حركة لا إرادية (وهي ارتعاشة طفيفة لكنها تنتابه كل حين). يُتأتئ يوسف خلال كلامه. قبل الشروع بالنص المسموع يوشوش يوسف الكرسي بصوت خافت جدًا، يلوم نفسه لأنه خذل الكرسي ولا يصدق ما آلَ إليه كشاعر.يوسف: (مخاطباً الكرسي، يداه وعيناه على الكرسي)(يحاول النطق بأول حرف بصعوبة شديدة) لستُ مجنوناً. صدِّقْني. ما كنتُ كذلك. أذكرُ أنِّي كنت عاقلاً. صدقني. كل ما في الأمر أني (يبتسم قليلاً) شاعر. ليتهم يفهمون. ليتني أعرفهم. أو أتذكرهم. من هم؟ هل هُم (يبتسم قليلاً) شعراءُ مثلي؟ لا. لا أظن ذلك. إنهم غرباء بل غريبون. غريبو الأطوار. هل هم مجانين؟ هل أنا العاقل الوحيد بينهم؟ إذاً لماذا جاء بي أخي إلى هذا السجن الغريب؟ (يبتسم ابتسامة عريضة ببطءٍ ثم يركض إلى شباك.) أحياناً ينتابني شعور بأن كل هذه الزهور في الخارج إصطناعية. أو أنها لا ترمز إلى أي شيء على الإطلاق حتى وإن كانت طبيعية. أو أنها مجنونة مثلي. تائهة! لا تعرف شيئا! مثلي تماماً! مجنونة! مثلي! (يصرخ) مثلي أنا!! (يجثو على ركبتيه في وسط المسرح) لا... لا... لا! لستُ كذلك. أنا (يجلس على الكرسي، يضع قدمه اليمنى على اليسرى) ... ... شاعرٌ، عبقري. ليتني أتذكر ما جرى. أو ليت أحداً يُذكرني بما حصل لي.(تبدأ موسيقى بيانو هادئة حزينة، يقوم يوسف من على الكرسي. يرقص رقصة بطيئة. بعد أقل من دقيقة تتحول الموسيقى شيئا فشيئا إلى أصوات مزعجة - ويوسف ما يزال يرقص - ثم تتحول الأصوات المزعجة إلى طلقات نار ومدافع وصراخ فينهار يوسف على الأرض، ويتلوَّى، ثم يتوقف حتى يُخيل للمتفرج أنه مات. يقوم يوسف على صوت البيانو ثانية ويجلس على الكرسي مطأطئاً رأسه قليلاً. يرفع رأسه بثقة ويلقي الشعر بنظرة ثاقبة إلى الجمهور.)يوسف:رماد...وُلدَ الرمادُ من الرمادِوفتَّتَـتْني كل أغنيةٍ أحبُّ ولا أحبعلى أصابعِ كَفِّيَ اليُمنىفؤادٌ واحدٌيبكي عليَّعلى جدارٍ كم رسمتُ عليهِأو أرضٍ ستذكرُني بخيرٍعندما وُلدَ الرمادُ من الرمادِرأيتُ نجمًالم أكنْ بالكادِ أنطقُكنتُ أصرخُلا تلُمْني أيها النجمُ الوحيدُفكلما رجع الفؤادُ إلى جدارٍأو إلى أرض الحقيقةِحنَّ أكثرْ[يمشي ببطء إلى المرآة. ظهره الآن إلى الجمهور.]الآخر: (يخلع نظارته. بصوت مختلف، منخفض. واثقاً من نفسه.) ماذا تقول؟ لم أفهم شيئا مما قلتَ قبل قليل. أتعتقدُ أنك فيلسوف بحق؟ أنت لا تستحق هذا العقل الذي تنظم به الشعر، ولا تستحق قلبك المتحجِّر هذا، ولا أذنك ولا أي نعمة تعينك على كتابة الشعر. هل تحسب نفسك شاعرًا؟ أنت مستشعر. لا أكثر. اذهب! نم! أو افعل شيئا يفيدك ويفيد أهلك. ليس من العجب أنهم تركوك هنا. اذهب! نم!! اغرب عن وجهي! اذهب![يعود يوسف بخطًا سريعة - وأنفاسه تتسارع - إلى الكرسي. يهدأ بعد فترة وجيزة، يقوم ويلقي الشعر بثقةٍ ناقصة وإرهاق واضح.]يوسف:ضياع...لا شيء خلفَ ستارتي إلا أناوأنا الرغيفُ أو الحليبُفَلستُ أعرفُ من أناأو هل سأُخطئُ أو أصيبُوإذا دُعيتُ إلى احتفالٍهل سأرجعُ كاملَ الأعضاءِ؟هل سأصيرُ جزءً من خيالٍواسعٍ حدَّ المجرةِ والفضاءِ؟أم هل أنا نظارةٌ شمسيَّةٌقد أصبحتْ أَيْقونة ًأو فكرةٌ (... يتأتئ كثيرا ...) مجنونة ًعبثيةُ الأركانِأو ممزوجةُ الألوانِجاءتْ بلا استئذانْ؟قد قيلَ أنِّي هرةُ الجارِ التي دُفِنَتْبعيدًا تحت كُثبانِ الرمالِوأصبحتْ بعد التحضُّرِ تحت إسفلتِ المدينةِلستُ أدري في الجنوبِ أم الشمالِقد قيلَ أنِّي صمغُ طفلٍ شاردِ الأفكارِأو أنِّي القميصُ الأزرقُ الشفافُأو حبلُ الغسيلوقيلَ، قيلَ، وقيللكني سأبقىمثلَ (... يتأتئ كثيرا ...) مجنونٍ يُصِرُّ على البقاءِوليسَ يعرفُ من يكونْيوسف: (يجلس) أأنا مجنون حقاً؟ ألا أعرف من أكون؟ أم أنني أبالغ في كلامي؟ ولكني (... ...) شاعرٌ. فلماذا إذاً أشك في نفسي وأخاف من قوة تفكيري إن كانت لدي هذه القدرة؟ قيل أن خوف المرء من أفكارهِ أمر طبيعي. يجب أن أتحدى أفكاري، يجب أن أتحدى ذلك الشخص الغريب الذي أراه في مرآتي، وأهزمَه. نعم. لا بد من حل. لكن حتى إذا تغلبتُ عليه، ماذا سأستفيد؟ كيف سأخرج من هذا المكان؟ ربما سيتفهَّمون إذا أقنعتهم. أو ربما لا. ربما... لن يميِّزوا بين شعري وجنوني. يُقال أن الفرق ما بين العبقرية والجنون فارق بسيط جدا. إن كنتُ أنا أشك في مكان هذا الفارق، فكيف سأقنعهم؟ فأنا لست متأكدًا إن كنتُ عاقلاً أم مجنوناً. وهم كذلك غير متأكدين، على حد علمي. هل يشك المجنون في جنونه؟ ليس من الضروريِّ أن يعرفوا. المهم أن أعرف أنا فقط إن كنت عاقلا أم لا. لكن إذا لم يعرفوا فقد أبقى هنا، ولن أتقدمَ خطوة في حياتي، أو أفيدَ من حولي أو على الأقل أمتِّعَهم بشعري وفني. نعم! لم لا أتحدى ذلك الشخص الذي تقمَّصني وأخذ نصف روحي وعقلي وقلبي. لا بدَّ من حلٍّ، لا بدَّ أن أتخلص منه. (يخطو إلى المرآة لكنه يتردد. ثم يتجه نحو المرآة ويواجه شخصيته الأخرى.)يوسف: (ملتفتاً إلى اليمين) من تظن نفسك أيها الغريب؟ لن تستطيع إيقافي مهما حاولت.الآخر: (ناظراً نحو المرآة) ما بك؟ (يضحك) يبدو أنك قد أفقْتَ أخيرًا أيها المجنون. ولكن بعد فوات الأوان.يوسف: لا. لم يفُتِ الأوان. ولن يفوت أبداً. أنت ... أنت مجرد خيال. وهم! لا حقيقة لك.الآخر: أنا مِن صُنعك يا صديقي. يبدو أنك تنسى كثيرًا.يوسف: أنت لا شيء. حتى وإن كنتَ مِنْ صُنعي فأنت لا قيمة لك. لن تستطيع التحكم بي، أو سرقة روحي. ليتني ... ليتني ...!الآخر: (مقاطعًا) ليتك ماذا أيها الأحمق؟يوسف: (صمت قصير) ليتني أتخلص منك.الآخر: (يضحك بصوت مرتفع جدا) لا يا صديقي. أنت ضعيف جدا. ليس بمقدورك التحكم بعقلك ولا قلبك.يوسف: بل أستطيع! وسأثبت لك ذلك!الآخر: كيف؟ أخبرني، أيها المجنون.يوسف: ربما ... ربما لو أنني ... رضيتُ عن نفسي وتقبَّلتها، وأحببتها. لكنني --الآخر: (مقاطعًا) لكنَّك مجنون! كيف تحبُّ ذاتكَ وتتقبَّلُ جنونك؟ منذ صِغَرِكَ والناسُ يربُّونني معك. نأكل معًا، نلعب، نكتب، نحبُّ، نكرهُ، كنتُ معك أينما ذهبتَ، وأنت لا تشعر بي. بل كنت تطعمني وتسقيني بيديك. وعندما كبرتُ واشتدَّ ساعدي، وهَنْتَ أمامي يا يوسف. عرفتُ أنك قابلٌ للكسر-- فكسرتك!يوسف: (صمت) هذا ماضٍ. والذي فات قد مات. أمَّا الآن، فلدي وعيٌ وإدراكٌ أقوى بكثير. أستطيع أن أجعل من نفسي يوسفًا جديدًا دون أن تمسَّني بسوء.الآخر: ومن سيضمن لك ذلك؟ ألا ترى ضعفك أمامي؟ أنت لا تستطيع النظر إليَّ. أنكَ تخاف مني.يوسف: لا أنكرُ ذلك. نعم، أخاف منك. أحياناً أحاول أن أنام، لكنَّ أفكاري المتسارعة تمنعني. ومخاوفي. لكنني متأكدٌ من قوتي وجمالِ روحي وعزَّتِها. (ببطء ينظر إلى المرآة، صمت قصير) كم كنتُ أبتسم وأضحك عندما كنت صغيرا. أذكر أني كنتُ أضع يدي على قلبي، هكذا، وأذكِّر نفسي بقدراتي وبنعم الله عليّ. لو أني وضعتُ يدي على قلبي الآن، ونظرت إليك وابتسمتُ (يفعل ذلك، صمت قصير) أنا إنسان. لي قيمة. مهما قال عني الناس. أنا إنسانٌ مميزٌ مختلف. شاعرٌ رائع. لن يستطيع أحدٌ أن يقف في طريقي ما دمتُ واثقاً من نفسي. ما دمت أحب نفسي وأحترمها وراضٍ بها. الكل يخطئ، وأنا منهم. ولكني عرفتُ قيمة نفسي الآن، وأحببتها، ورضيت بأخطائي الماضية. أما الآن (يمشي إلى الكرسي ويقف عليه) فعليَّ أن أستفيق من نومٍ لطالما أخَّرني عن الوصول إلى أهدافي. سأكون شاعرًا. سأجمعُ الناس بالفنِّ. ولن يردعَني أحدٌ، حتى وإن كان الذي يردعُني ... هو أنا.