قصة قصيرة
بقلم سليم عوض عيشان ( علاونة )
=====================
مقدمة :
يصادف يوم 15/5/ من كل عام ذكرى النكبة ( نكبة فلسطين )
----------------------------------
إهداء متواضع :
مهداة بتواضع إلى روح المرحومة " أم فخري " ..
ابنة مدينتي الحبيبة " حيفا " .
وإلى كل " أم فخري " في الشتات والمنافي .. وفي الوطن الغالي ..
وإلى " حيفا " السليبة ... " مسقط رأسي " ... التي ما زلت أحياها وتحياني .. أتنفسها وتتنفسني .
** ... إلى كل من طلب مني أن أكتب عن " حيفا " .. وعن " النكبة " ... وعن فلسطين ، ووعدتهم أن أكتب .. فهل تراني قد وفيت ؟؟!! ... وهل تراني قد كتبت ؟؟!!
تنويه :
الأحداث والشخوص حقيقية حدثت على أرض الواقع .. ولا فضل للكاتب على النص سوى الصياغة الأدبية فحسب .
===================
( أم فخري ) " الجزء الأول "
" أم فخري " .. نعم .. هي " أم فخري " .. فأنا أعرفها جيداً .. كانت تعيش وحيدة في منزلها المتواضع بالقرية .. ورغم أن اسمها " أم فخري " .. إلا أنه لم يكن هناك " أبو فخري " .. ولم يكن هناك " فخري " أيضاًً ؟! .
البعض في القرية كان يطلق عليها لقب " المدنية " .. أو " الحضرية " .. لأنها ليست من نساء القرية أصلاً .. ولأنها كانت تسكن المدينة في يوم من الأيام .. قبل قدومها إلى القرية .
" أم فخري " لم تكن تلبس الزيّ " الفلاحي " أسوة بنساء وفتيات القرية ، ولا تتحدث باللهجة القروية كنساء القرية وأهلها .
قبل حضورها إلى القرية ، وقبل " النكبة " بسنوات .. كانت المرأة تعيش في مدينة " حيفا " .. تزوجت هناك .. من شاب " حيفاوي " .. ثم أنجبت ابنها الوحيد " فخري " .
عام " النكبة " سنة 1948م كان بالنسبة لها تاريخاً أسوداً بالفعل وبكل المقاييس ، كما هو الحال بالنسبة للكثيرين من أبناء فلسطين .. بل لكافة أبناء فلسطين على حدٍ سواء .
في ذلك العام .. وقبيل طرد العرب الفلسطينيين من حيفا وفلسطين ، وذلك بعد قتل العديد منهم والتنكيل بهم .. فقدت " أم فخري " زوجها الشاب .. قتله جنود العدو .. لأنه كان يحمل بندقية ويحارب بها العدو .. ويدافع عن وطنه فلسطين وعن مدينته " حيفا " ، وعن زوجته " أم فخري " .
عندما علمت باستشهاده .. غادرت المنزل مهرولة إلى حيث الموقعة .. رأته وقد سقط شهيداً وسط بركة من الدماء .. ووسط مجموعة من جثث المجاهدين .. لم تبك .. لم تصرخ .. لم تولول .
خلصت البندقية من بين يديه .. واندفعت تبحث عن جنود العدو لكي تقوم بالثأر لمقتل زوجها والآخرين .
رأت أحدهم عن بعد .. أخذت وضع الاستعداد للضرب .. كما علمها زوجها " أبو فخري " قبل استشهاده ... صوبت البندقية نحو صدر الجندي اللعين .. كما دربها زوجها " أبو فخري " قبل استشهاده .. أطلقت الرصاصة بقوة وعزم نحو القلب تماماً كما علمها زوجها " أبو فخري " قبل استشهاده .
أصابت رصاصتها من الجندي مقتلاً .. جندلته .. في تلك اللحظة التي كان يتهاوى فيها إلى الأرض .. كانت المرأة تطلق " زغرودة " مدوية .. تردد صداها في جنبات السماء والأرض .. وفي نفس الآن .. كانت رصاصة غادرة تستقر في جسد " أم فخري " من بندقية جندي آخر ، لم تكن قد تنبهت إلى وجوده وهو يطلق النار نحوها .
سقطت المرأة مضرجة بدمائها .. .. وانشغل الجندي بإخلاء رفيقه الميت من ساحة المعركة .. وقد اعتقد جازماً بأن المرأة التي أطلق النار عليها قد ماتت .
حاولت أن تزحف لتصل حيث جثة زوجها الشهيد وجثث رفاقه .. القريبة منها بعض الشيء .. رغم الإصابة .. ورغم الدماء النازفة من جسدها .
عدد من أهل المدينة كانوا يفرون من المكان .. من المدينة ، يهيمون على وجوههم في الطرقات لا يدرون إلى أين ؟؟!! .. فالمهم عندهم أن يبتعدوا وبقدر الإمكان .. أن يبتعدوا عن مصدر الموت .. وأن يفروا من وسط المدينة .
مرت المجموعة بالقرب من ميدان المعركة .. شاهدوا الجثث المتناثرة هنا وهناك .. جثث الشهداء .. لم يكن لديهم المتسع من الوقت لكي يقوموا بواجب الدفن كما يليق بالشهداء ..ترحموا عليهم .. قرأوا الفاتحة على أرواحهم .. وضعوا عليهم بعض الأغطية .. وغادروا المكان .
قبل أن يبتعدوا عن المكان ؛ حانت من أحدهم التفاتة نحو المرأة الغارقة في دمائها .. كانت المرأة تتحرك بصعوبة وبطء .. تئن بصوت واهٍ ..
- لقد .. لقد انتقمت لك .. يا زوجي .
توقف الرجال عن السير .. تأكد لديهم بأن المرأة ما زالت حية .. اقتربوا منها .. راحت تهذي ..
- " فخري " .. " فخري " .. ولدي " فخري " .. أين أنت يا ولدي ؟؟!!..
قرر الرجال أن يحملوا المرأة .. رغم ما يشكله ذلك عليهم من عبء شديد ومن تأخير عن السير ، ومتابعة الهروب من المكان .
الرصاص ينهمر من حول الجميع من كل مكان .. الموت يطاردهم .. وهم يحاولون الفرار .. رغم الحمل الثقيل .
ابتعدوا قليلاً عن مركز الخطر .. وبؤرة الموت .. وصلوا ناحية الشارع الفرعي المؤدي إلى الشارع العام .
رجل وزوجته وأطفاله من سكان المدينة كانوا يستقلون سيارة كبيرة يحاولون الفرار من المكان ، توقف الرجل سائق السيارة عندما رأى تلك المجموعة ومعهم الحمل الثقيل .. كان في السيارة المتسع الكافي للجميع .. أشار لهم بالصعود إلى السيارة .. صعد الجميع .. وانطلقت السيارة بأقصى سرعة مغادرة المكان .
وأخيراً .. وصل الجميع .. وصلوا القرية .. فلقد كان الرجل سائق السيارة ينحدر أصلاً من هذه القرية ، وهو أحد أبناء عائلة معروفة فيها .
ترجل الجميع من السيارة .. ترجلت زوجته وأطفاله .. واندفعوا ناحية منزل العائلة الكبير .. وقد شعروا بالأمن والحماية بعد أن ابتعدوا بما فيه الكفاية عن موطن الخطر .
المجموعة التي كانت تستقل السيارة معهم .. شكروا السائق وهم يودعونه مغادرين .. أصر الرجل سائق السيارة إلا أن يدخلوا منزل العائلة الكبير .. للاستراحة والتقاط الأنفاس .. وتناول بعض الشيء من الطعام والشراب .. فلم يسع الجميع سوى الانصياع لإلحاح الرجل .
تعاون الجميع في إنزال المرأة المصابة.. أدخلوها حجرة من تلك الحجرات العديدة للمنزل .. التفت حولها مجموعة من النسوة .. رحن يحاولن تقديم العون والمساعدة لها .
امرأة من نساء القرية كان لديها بعض الإلمام بالإسعافات الأولية .. وبعض المعرفة بتقديم العون العلاجي والصحي والتمريضي .. هي كانت تعمل في أحد مستشفيات مدينة حيفا قبل النزوح .
جراح المرأة لم تكن بالبليغة .. أو العميقة .. فلقد كانت سطحية .. ولكن المرأة نزفت الكثير من الدماء .. حاولت المرأة الممرضة تضميد جراح المصابة بكل ما هو متاح لها من إمكانيات متواضعة بمساعدة بعض النسوة .. وأخيراً .. استعادت المرأة المصابة بعض الوعي .. راحت تتمتم :
- " فخري " ... " فخري " .. ولدي .. " فخري " أين أنت يا ولدي ؟؟
قدمت الممرضة للمرأة المصابة بعض الشراب الدافئ .. وبعض المسكنات والأدوية المضادة للالتهابات .. وقامت بتطهير الجراح وتضميدها .. فهدأت المرأة بعض الشيء .. واستعادت شيئاً من وعيها .
راحت تتساءل عن مكان تواجدها .. أخبروها بأنها في القرية .. راحت تلح بالسؤال عن ولدها " فخري " .. فأخبروها بأنهم لا يعرفون عنه شيئاً .. ولم يلتقوا به .. أخبرتهم بأنها تركته نائماً في المنزل قبل خروجها من البيت لتبحث عن زوجها " أبو فخري " الذي وجدته شهيداً .. والذي انتقمت له بقتل الجندي اللعين .
راحت تبكي وتصرخ بألم :
- ولدي .. أريد ولدي " فخري " .. لم يبق لي في الحياة سواه .
راح الجميع يهدئون من روعها .. ويعلمونها بأنهم الآن على بعد عشرات الأميال من المدينة .. وأن هناك خطراً جسيماً يقع على كل من يحاول دخول المدينة .
بكت المرأة .. أنَّّت .. شهقت .
استعانت الممرضة بحقنة مهدئة .. حقنت بها السيدة التي لم تلبث أن استغرقت في نوم عميق .
عندما استيقظت المرأة .. راحت تهذي باسم ولدها من جديد.. فيحاول الجميع تهدئتها من جديد .
أخبرتهم بأنها لم تنجب سواه منذ زواجها .. وهو كل حياتها خاصة بعد استشهاد زوجها .
أخبرتهم كم هو جميل ورائع وذكي .. رغم أنه ما زال طفلاً لم يتعد الثامنة من عمره بعد .
راحوا يهونون عليها الأمر .. يواسونها ..
فهدأت شيئاً فشيئاً .
*****
( أم فخري )
" الجزء الثاني – الأخير – "
... " أم فخري " قررت أن تحيا في القرية .. وأن تعيش بقية عمرها بين من أنقذوها من الموت المؤكد .. فأصبحت علامة مميزة من علامات القرية ..
في البداية .. لم يكن لها منزل .. ولكن كانت كل بيوت القرية منازلها . ليس لها من ولد .. ولكن كل أولاد القرية هم أولادها .. وكل أهل القرية هم أهلها .
الجميع كانوا يرحبون بها .. الجميع كانوا يتنافسون بالاستحواذ عليها .. فكانت ترضي الجميع .. فتقوم بزيارة الجميع بلا استثناء وبلا انقطاع .
هي .. لم تنس " فخري " .. ابنها " فخري " .. فما فتئت في كل حين وحين .. وفي كل لحظة ولحظة .. تذكره .. تفتقده .. تبكي من أجله .. تتساءل كيف أصبح " فخري " الآن ؟؟ ..كيف يحيا ؟؟ .. كيف يعيش ؟؟ كيف ؟؟؟
سنوات وسنوات طوال وهي ما انفكت تذكره .. تتألم .. تئن .. تبكي .. ثم تستعين على الأمر بالصلاة التسبيح .
وكانت النكسة .. سنة 1967 .. وكان دخول العدو الإسرائيلي إلى مناطق الضفة الغربية بعد الاستيلاء عليها بالكامل .
وكان أن دخلوا القرية .. كما دخلوا كل القرى الأخرى .
ما هي سوى أيام قلائل .. حتى كان شابا .. يدخل القرية وهو يرتدي البزة العسكرية .. برفقة ثلة من جنود العدو الذين كانوا يستقلون سيارة عسكرية .
الجندي الشاب كان يسأل عن امرأة تدعى " أم فخري " .
قام البعض بإرشاده إلى مكان تواجدها ..
تجمهر أهل القرية .. رجالاً .. نساءً .. أطفالاً وعجائز .. حول الشاب والسيارة العسكرية .
ترجل الشاب من السيارة العسكرية .. كان يحمل بين يديه مجموعة كبيرة من الهدايا المختلفة الأشكال والأحجام ..
توجه ناحية المكان الذي أشاروا إليه ، والذي كانت تتواجد فيه " أم فخري " ..
دخل المنزل .. فوجدها .
كانت " أم فخري " تجلس في باحة المنزل .. شاهدت الجندي الشاب عن بعد وهو يقترب منها ... بادرها بالسؤال :
- هل أنت " أم فخري " ؟؟ .
أومأت المرأة برأسها علامة الإيجاب ..
ألقى الشاب ما يحمله من أشياء على الأرض .. اندفع نحو المرأة .. راح يقبلها بحرارة .. راح يبكي بحرقة . سألته :
- ومن أنت ؟؟!!
قال لها من بين الدموع والبكاء والنحيب ..
- أنا " فخري " .. ابنك " فخري " .. لقد بحثت عنك طويلاً .. سألت عنك كثيراً حتى اهتديت إليك .
احتضنته .. قبلته .. بكت .. زغردت .. رقصت .. راحت تضمه إلى صدرها .. إلى قلبها .. راحت تتشممه .. تقبل وجهه .. عينيه .. وجنتيه .. وهي ما زالت تبكي .. وتزغرد ..
تجمع أهل القرية من حولهما .. شاركوها البكاء والفرحة .. وشاركتها النسوة " الزغاريد " .
بعد وقت قصير .. كانت المرأة " أم فخري " تكف عن البكاء .. تتوقف عن الضحك .. عن الزغاريد .. عن الحركة ..
سرحت بفكرها إلى البعيد .. غابت بتفكيرها لحظات ولحظات إلى الوراء .. إلى الذكريات القديمة .. لم تلبث أن عادت بتفكيرها إلى المكان .. هتفت وشبح ابتسامة غامضة على محياها :
- ماذا قلت لي اسمك يا هذا ؟؟!!
بهت الشاب .. فوجئ .. تمتم :
- أنا " فخري " .. " فخري " ابنك .. ابنك يا أمي .. ؟!
ازدادت الابتسامة على محياها غموضاً وكأنها اللغز الكبير المحير .. تمتمت :
- وماذا قلت لي بالنسبة لعملك ؟؟!!
دمدم الشاب :
- أنا جندي .. جندي يا أمي .. في الجيش الإسرائيلي .. وبرتبة عسكرية عالية .
سرحت بفكرها إلى البعيد من جديد .. غابت بتفكيرها كثيراً .. وكأنها لم تعد تحس بالمكان ولا الزمان .. بعد لحظات طويلة .. ركزت عليه بصرها بشكل غريب .. هتفت بصلابة غريبة وعزم عجيب :
- أرجو المعذرة يا هذا .. حقاً بأنني " أم فخري " .. ولكن ليس لي ولداً باسم " فخري " .. فابني الذي كان في يوم من الأيام بهذا الاسم .. مات هناك .. في مدينتي الحبيبة " حيفا " .. مات منذ زمن طويل .
تابعت حديثها بصلابة :
- أرجو يا هذا أن لا تنس أن تأخذ معك كل تلك الأشياء التي أحضرتها .. فلست بحاجة لها .. ولست بحاجة إليك أيضا.
غادر الشاب المكان مطأطئ الرأس .. بعد أن تناول الهدايا المبعثرة على الأرض .. تحركت المرأة من المكان .. لا لكي تودعه .. بل لتقفل الباب الخارجي بعد خروجه .. كانت توصد الباب بقوة .. بعزم .. بإصرار .. بينما كانت دمعة حائرة حارقة ملتهبة تترقرق في عينيها .