في مجموعة «مساكن وشرفات»، تبدع خلود الواكد سردًا متوهجًا بالصمت، مشبعًا بالتوتر الشعوري العميق، حيث لا تسرد الحكايات بوصفها أحداثًا، بل باعتبارها مرايا داخلية تتكسّر فيها الذات على مهل، وتتوزع عبر شرفات الذاكرة، ومساكن الحنين، وعتمات الفقد غير المعترف به. لا تسعى الكاتبة إلى بناء قصص تقليدية تحفل بالذروة والمفاجآت، بل تُشيّد نصوصًا سردية تقوم على جوهر الوعي، وترتكز على المعنى الغائر في التفاصيل، وتُضمر من البوح أكثر مما تُفصح، حتى ليتحوّل كل نص إلى شرفة تُطل منها الذات على خرابها الحميم. تكتب خلود الواكد من قلب الأنثى التي رأت كل شيء، ولم تعد بحاجة للصراخ، فالوجع لديها لا يُعلن عن نفسه، بل يتموّج في الإيماءة، في الرجفة، في رائحة ياسمين، في قطعة نقدية على رف النملية، أو في عود ثقاب يُضاء لينكشف به العالم، لا ليُضاء. تنتمي هذه المجموعة إلى السرد الشعوري الوجودي، حيث تتقدم اللحظة الانفعالية على الحدث، وتصبح اللغة أداة تنقيب، لا وسيلة حكاية. ليس ثمة «ما حدث» بل «ما تشكّل من أثره»، وليس ثمة تطور في الشخصيات بقدر ما ثمة انكشاف تدريجي لهشاشتها الداخلية. الشخصيات لا تتحرك في الخارج، بل في بُعدها النفسي المنكمش على ذاته، وتتشكل القصص وفق هذا التواطؤ البنيوي بين الانكماش الشعوري والتكثيف الرمزي. اللغة في هذه المجموعة ليست حبرًا يسرد، بل كيان حي، يتنفس بالألم، يهمس بما لا يمكن أن يُقال صراحة. خلود الواكد تعرف أن الصوت العالي يُضعف النص، ولهذا فهي تكتب بجُمل قصيرة، مشبعة بالإيحاء، مصقولة بالإيقاع الداخلي، مضمخة بالسكينة الظاهرة التي تخفي جمرًا داخليًا لا يخبو. فلا استعارات تُلقي بثقلها على المعنى، بل صور تتكثف من عطرٍ، من شرفةٍ، من ظلٍّ، من طرف قميصٍ لم يُرتب، ومن يدٍ صغيرة تقود رجلاً كبيرًا أعمى إلى لحظة اعتراف ناعم لا يُقال فيه شيء، لكنه يوجع بكل شيء. ليست القصص هنا سوى ومضات من لحظات مصيرية صامتة: امرأة تقرأ رسالة قديمة فتستعيد ما ظنته قد مات، طفلة تمسك بيد أبيها الكفيف وتصبح أمّه، شابة ترتدي فستاناً أهداه حبيب لن يأتي، وتراقب في مرآتها ذاكرة لا تزال تنظر إليها، امرأة تجلس في مطار وتكتشف أن ما تنتظره لم يعد شخصًا، بل ذاكرة تحاول أن تهدأ في جسد منهك من التوق. هذا التواشج بين اللحظة والمكان، بين الغياب والذّاكرة، يُعيد تشكيل الزمن في النصوص. فالزمن ليس خطيًا، بل دائري، مهشم، تتجاور فيه لحظات متباعدة في تراكب داخلي، حيث الحاضر لا يُفهم إلا من خلال استدعاء الماضي، والهوية تتشكل من وميض ذاكرة مفاجئ لا من تتابع أحداث. والملفت أن النصوص، رغم تعددها، تنتمي إلى صوت واحد، شخصية أنثوية واحدة تتغير أقنعتها، لكن يظل جوهرها ثابتًا: امرأة ترى أكثر مما يُراد لها، تحفظ التفاصيل الصغيرة لأنها لا تملك سلطة تغيير الكُبرى، وتنسج من خيباتها نسيجًا رمزيًا يتجاوز المباشر. في قصة «خرخشة»، لا يبحث الطفل عن نقود فحسب، بل عن كرامة، عن يقين بأن صوته مسموع. في «ذاكرة الحريق»، لا تقف الحكاية عند تشوّه الجسد، بل تتأمل نظرة العالم إلى المختلف، إلى المندوب عنه، إلى الذي لم يُختر. في «حسب توقيت باريس»، تتجسد المرأة كاملة في طقوس الانتظار، لا بوصفها خاضعة للزمن، بل بوصفها من علّق الزمن عند لحظة اللقاء التي لم تتم. ثمة طقس سردي خافت يسري بين القصص، يجمع بين الاعتراف والاحتراق، بين الاستعادة والتسليم، حيث اللغة ليست وسيلة للحكي فقط، بل شكلٌ من أشكال النجاة. تنتمي خلود الواكد إلى تيار السرد الحدسي – الاعترافي، لكنها تمنحه بُعدًا تأويليًا يجعل من كل قصة مساحة للغوص في التكوين العاطفي للذات، لا مجرد تفريغ وجداني. ولا تخلو نصوصها من رمزية فنية دقيقة، تمسك بالمكان لتُعيد ترتيبه داخل النفس: الموقد ليس مكانًا للنار، بل ذاكرة الحنان الذي احترق، الشرفة ليست نافذة، بل الحافة التي يقف عليها الحب قبل أن يسقط في الغياب، الصندوق الأسود ليس شيئًا يُفتح، بل ألم لا يُقال. القصص كلها تنهض من لحظة «كشف»، لا تُغيّر الواقع، لكنها تغيّر وعي الشخصية به. لا تنتهي القصة بانفراجة، بل بتكثف الإدراك، حيث لا خلاص، بل تكيّف مع وجع أكثر وعيًا. وبين قصة وأخرى، تتوالى شظايا امرأة تكتب لأنها لا تحتمل الصمت، لكنها تكتب بصوت منخفض لأن الألم النبيل لا يعلو. ومثلما يُعاد الزمن في «حسب توقيت لندن» إلى حالة انتظاره الأولى في «باريس»، يُعاد البناء الفني للقصص إلى نقطة مركزية: كيف نروي الشيء الذي لم يحدث؟ كيف نقول ما لم يُسمح له أن يُقال؟ هكذا تتكامل المجموعة، لا بوصفها تنويعات سردية، بل بنية عضوية تتنامى شعوريًا، وتتصل ببعضها رمزيًا، وتشكل، مجتمعة، أطلسًا وجدانيًا لامرأة عالقة بين الذكرى والاختفاء، تحكي لتمنع الطمس، وتنتظر لا لأن اللقاء قادم، بل لأن الانتظار صار شكلها الأكثر صدقًا. ومهما كانت العناوين متباينة، فإن جوهر الكتابة فيها واحد: الكتابة باعتراف، الكتابة كفعل مقاومة ضد المحو، واللغة كقارب يمر فوق الطوفان، لا لينقذ أحدًا، بل ليقول إن أحدًا كان هنا، وشهد. مجموعة «مساكن وشرفات» ليست مجرد أدب، بل طقس سردي متقشف، محمّل بالأثر، ومكتوب بعين باصرة، لا تُغريها الفخامة، بل تكتفي بأن تمسك بيد القارئ إلى الداخل حيث لا شيء سوى الذات، وصدًى بعيد لحكاية ما زالت تُروى كي لا تُنسى. من بين قصص المجموعة، تتجلى قصة «كَ... لا إليك» كواحدة من أكثر النصوص نضجًا واتساعًا من حيث الأسلوب السردي، وتمثل نموذجًا فريدًا لما يمكن تسميته بـ»السرد الاعترافي المموّه بالشعر»، حيث تتقاطع الاعترافات العاطفية مع البنية البنيوية للرسائل غير المُرسلة، لتُنتج نصًا يمشي على الحافة بين القصيدة والنثر، بين الحنين والانعتاق، وبين الحب والخذلان النبيل. الأسلوب السردي في هذه القصة يتخذ من الرسالة بنية خارجية، لكنه يفكك هذه البنية تدريجيًا من الداخل، فالنص لا يمضي وفق تسلسل زمني، ولا يحمل تطورًا دراميًا تقليديًا، ويعتمد على الحفر العمودي في الذات، حيث تعود البطلة إلى لحظات الارتباك الأولى، وتُعيد صياغتها بوصفها اعترافًا حادًا ومتأخرًا، تمامًا كما يُكتب البوح الذي لا يُقصد أن يُقرأ. يتميّز هذا النص بأسلوب السرد المنولوجي الداخلي، وهو نمط تتماهى فيه الشخصية الساردة مع الصوت الكلي للنص. لا توجد شخصيات أخرى تتحاور معها، ولا يوجد «مخاطب» حقيقي، حتى وإن بدأ النص موجّهًا إلى «أنت»، فإن هذه الـ»أنت» ما تلبث أن تتفكك داخل بنية الرسالة، لتُصبح مجرد ذريعة لإعادة بناء الذات. فالحبيب الغائب هو الذريعة للقول، وللمساءلة، وللتحرر من الحنين المكبل. اللغة في هذه القصة تنوس بين الإيقاع والانكسار، فهي مكتوبة بروح الشعر لا بقاموسه. الجمل قصيرة، متواترة، تُكرّر ظلالها، مثل: «لم أنسَ»، «لم أكن أراك»، «أين كنت؟»، وهذه التكرارات، عوض أن تُضعف البناء السردي، تُمنحه جرسًا داخليًا، كما لو كانت الشخصية تكتب تحت نَفَسٍ واحد، مضطرب، خانق. هذا الإيقاع الداخلي يمنح النص توترًا شعوريًا خفيًا، يجعله لا يحتاج إلى حبكة، لأن الشعور وحده يكفي لتحريك القارئ. من أبرز خصائص هذا الأسلوب أيضًا، هو الاقتصاد اللغوي الشعوري، فلا توصف الحالة بشكل مباشر، بل تُقدَّم عبر استعارات بسيطة، ولكن مُفعمة بالترميز النفسي: «كان اسمي معلقًا في فمك كدمعة»، «تأخرتَ بما يكفي ليشيخ الحنين»، «لم تعدَ الطريق، بل أنا التي شاخت عند مفرقها». وقد جاءت هذه الصور لتوليد الإحساس؛ إنها كتابة إشارية حسية، لا سردًا توصيفيًا. السارد في «إليك» مُحايد زمنيًا، لأن النص يُكتب من خارج زمن العلاقة. وهذا يجعل الأسلوب يحمل طيف المكاشفة المتأخرة، بوصفها محاولة للانعتاق من زمن لم يُكتمل. حتى النهاية، حين تُغلق الرسالة ولا تُرسل، فإن السرد يبلغ ذروته: لم يُكتب النص ليصل، فقط ليُقال. وهذا يتقاطع مع وظيفة السرد في القصة: ليس لتغيير الواقع، بل لتصفية العلاقة معه. الأسلوب هنا يُشبه ما يسميه رولان بارت «كتابة الجرح»: لا تُحاول التفسير، ولا تسعى للبكاء، بل تكتفي بأن تُظهر الندبة ببطء، بحساسية شديدة. لا إثارة، ولا نزعة انتقامية، وإنما صوت أنثوي متماسك رغم الانكسار، رزين رغم الغضب، شاعر رغم كل ما فاته من زمن. إن الأسلوب السردي في «إليك» هو ما يجعل القصة لا تُنسى: لأنه يعلو، وينكفئ، ويومئ، لا يُقيم مأتمًا للعاطفة، ولكنه يضعها على الطاولة بهدوء، كما توضع الورقة التي لا يُنتظر لها رد. إنها رسالة لم تصل، لكنها وصلت إلى القارئ وهذا وحده يكفي.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 11-04-2025 10:29 مساء
الزوار: 40 التعليقات: 0