|
عرار:
عفيف قاووق/ لبنان بعد رواية «قصّة عشق كنعانية» ورواية «أخناتون ونفرتيتي الكنعانية» ها هو الروائي صبحي فحماوي يواصل الحفر والتوغل في تاريخ الكنعانيين بهدف إبرازه وإعادة إحيائه وتقديمه بالصورة التي تليق به، ويُطلّ علينا مجدّداً بتحفته الكنعانية عن القائد هاني بعل الكنعاني. وقبل الولوج في سياق أحداث سيرة ومسيرة هاني بعل، لم يشأ الروائي صبحي فحماوي إلا أن يعرّج بنا لنتعرّف على بعض مظاهر الحياة الكنعانية من خلال كتابة تصويريّة تُدخل القارئ إلى قلب الحدث حيث مسرح الحكواتي المزنّر بشال كنعاني حريري وعلى رأسه عمامة أرجوانية اللون، ناهيك عن التجوال في مدينة صور وهيكلها الكنعاني بطوابقه السبعة وما يعنيه الرقم سبعة لدى الكنعانيين من دلالاتإذ جعلوا الأسبوع سبعة أيام، والفضاء سبع سماوات، وتنظيف الشيء أسموه تسبيعاً، وأقوى الوحوش هو السبع..والبحار السبعة، وقس على هذا الرقم الكثير، إضافة إلى خيمة تابوت العهد الكنعاني، والميناء البحري المدجّج بالسفن التجارية على اختلاف أنواعها. وقبل التطرق إلى سيرة القائد القرطاجني هاني بعل، يأخذنا الحكواتي «جوال» في سهرته إلى البدايات الأولى لتأسيس مملكة قرطاجنة على يد أليسار ابنة ملك صور(ماتال). ويشتق اسم أليسا أو أليشا من كلمة «اليشات»، أو عشيرة «الشتات» الكنعانية، نظراَ لتشتت أفراد عشيرتها في أعالي البحار، وبعد موت والدها طمع أخوها ِّبجماليون بالتفُّرد بالحكم وشعرت بان حياتها أصبحت مهددة، فقررت الهربنحو الساحل الإفريقي، بحثا عن «مدينة جديدة» ترسو فيها،اختارتها فوق هضبة مُطلّةٍ على شواطئ البحر الكنعاني، أسمتها قرطاجنة.. ويقال إنها أسمتها كذلك، استبشاراً أن تكون المملكة على شكل قرطين ذهبيين في أذني هذا الشاطئ الجنة (قرطا جنّة). وقد ازدهرت المملكة بسرعة غير متوقعة، وصارت أكبر وأشهر مركز تجاري كنعاني على الإطلاق وتواصل تجارها مع أهلهم وذويهم الكنعانيين في ممالك أوغاريت، مروراً بفينيقيي جبيل، وبيريت، و صور، وصيدا، ًومعظم بلاد فلسطين، المنتشرة ممالكها من عكة، وقيسارية، ويافا، و حتى غزة جنوبا و لم تقف تجارتهم عند الشواطئ، بل امتدت وصولاً إلى وديان مكة، وجنة عدن في الجنوب.. وحتى منابع النيل، هذا التوسع التجاري الذي شهدته قرطاجة جعلها في مرمى الأطماع الرومانية الذين رغبوا في الوصول إلى المياه الدافئة والسيطرة على موانئ البحر الكنعاني. ليحولوا اسمه إلى «بحر الرومان». وكانت عشيرة هانو القرطاجية هي المسيطرة على الوضع الاقتصادي والتجاري في حين كان الشأن العسكري ومهمة الدفاع عن المملكة من المهام الملقاة على عشيرة البرق بقيادة القائد هاملكار ومن بعده ابنه هاني بعل حيث تساجلت الحروب بين القرطاجيين والرومان.وبعد مقتل مئات الآلاف من الجانبين أزال الرومان مملكة قرطاجنة من الوجود، لتبقى روما هي القوة الوحيدة في حوض البحر الذي تحول اسمه من بحر كنعان، إلى بحر الرومان، ّ ولتتوج كأقوى إمبراطورية في العالم.» ونحن نقرأ هذه الرواية، لا بُدَّ من التوقّف ملياً أمام تلك الأسطورة وهي عبارة عن نصّ أوغاريت يّصدّر بها الروائي روايته، وهذه الأسطورة معروضة في متحف اللوفر الباريسيّ، نتعرف من خلالها على أخلاقيّات الكنعانيين ومناقبيّتهم، التي نحن بأمسّ الحاجة إليها في يومنا هذا بعد أن تقدّمت المادة والمنافع الشخصية على حساب العلاقات الإنسانية السويّة ومكارم الأخلاق. وللدلالة على عمق هذه الأسطورة ورسالتها، أكتفي بذكر بعض الأمثلة عن تلك المفاهيم الكنعانية وكيف كان الكنعاني بأخلاقه يُمَثّل عيناً لضرير ويداَ لمشلول وساقاَ لكسيح وأباَ ليتيم، وانه كان يحفظ السر ويستُر على عورات وسقطات جيرانه. ولم يكن هاني بعل بعيدا عن هذه القيَم والمفاهيم بل كان يتحسّس معاناة الحُفاة من أبناء الفقراء، ويشعر بشعورهم وهم يرعون الأغنام والماعز(43). أما في تعامله مع جنوده فكان واحداً منهم، «كنت أنام على الأرض داخل خيمة مفروشة بالجلود بين جنودي، وفي وقت الطعام الموزع على الجميع بالتساوي «فالقيادة كما يفهمها هاني بعل هي «أن يكون القائد مثالاً في القول والعمل أمام جنوده يرعاهم بشعوره معهم ويكتسب محبتهم». يلامس صبحي فحماوي في روايته هذه الكثير من الحقائق التاريخية والتي طُمست عمداً ليعيد الوهج والتألق لسيرة ومسيرة هاني بعل الذي «زاره» كما تخيّل في المنام قائلاً له:»لقد تمّ تجاهلي ونسياني يا رجل، وإذا ذُكرتُ في جلساتهم،أو دُوِّنت في كتبهم، تم تشويه سيرتي، إذ أن معظم الكُتّاب الرومان كتبوا صفحات سوداء عن شخصيّتي، فأساءوا إليّ رغم أنني قادم لتحرير شعبهم من بطش قناصلهم وأثريائهم.» 137. ولأنك روائي معروف بحفرك حول تاريخك الكنعاني فأنا اخترتك لتُخرجني من غياب التاريخ الذي ظلمني وعتّم عليّ إلى حيّز الوجود». ومن خلال السرد التخيُّلي لما قدّمه حكواتي المسرح الكنعاني «جوال» وما أضافه المؤلف نتيجة حواره الليلي مع هاني بعل، يتّضح للقارىء بأن قدر قرطاجة -بقيادة هاني بعل ومن قبله والده هاملكار البرق- كان التصدي لأطماع الرومان ومنع روما من الاستيلاء على مواقع بحر الكنعانيين التجاري، فالرومان « لا يريدون تحقيق العدالة أو إزالة الغبن عنهم، وإنّما يريدون الاعتداء وتحقيق السيطرة على الآخرين وامتلاك البحر الكنعاني، أمّا القرطاجيّون فيريدون تحقيق حرّية التنقُّل والإبحار لجميع الناس بلا استثناء»(41). لقد أنصفَت الرواية هاني بعل ووالده هاملكار البرق، وأبرزَت الجانب الإنسانيّ في شخصيّتهما،الأمر الذي لم نجده عند قادة روما الذين لم يوافقوا على طلب الهدنة لدفن القتلى عندما كان هاملكار منهزماً، في حين أن الأخير عندما انتصر عليهم، وافق على إعطائهم هدنة لدفن قتلاهم وكذلك فعل هاني بعل عندما أرسل إليهم جثمان أحد قادتهم في تابوت لدفنه بالرغم من أنّ الرومان قتلوا أخاه ومثّلوا في جثّته. لم يكن هاني بعل صاحب رؤية استعمارية أو عدائيّة تجاه روما، بل كان ينشد السلام والحرّية والتعايش بين الشعوب، وإن أبدى رغبةً في دخول روما، فإنه كما قال،»ليس لاستعبادها والسيطرة عليها، ولكن لتخليص الشعب الروماني من سيطرة الطغمة الحاكمة المتسلّطة على رقاب العباد.. نريد تحويل روما من دولة مفترسة إلى دولة جارة محبة للشعوب (62). وكانت موهبته القيادية تحظى بالإعجاب حتى من قبل الأعداء ويعتبرون انه «أبو الفنون الحربية» على قدم المساواة مع الإسكندر ذي القرنين مع تفوقه عليه في الجانب الأخلاقي والإنساني، فلم يكن يقتل المدنيين أو ينهب ممتلكاتهم عنوة، ولم يكن يدمر ما لم يستطع نهبه من البلاد التي يحتلها، كما كان يفعل الإسكندر ذو القرنين. لقد سلّطت الرواية الضوء على ما اعترض هاني بعل ووالده هاملكار البرق خلال حروبهما المتنقّلة مع الرومان من تحدّيات وصعوبات، فإذا كان الرومان هم العدو الخارجي والمُعلن، فقد برز من داخل مملكة قرطاجنة ما يعيق تحرّكهما بسبب تعنُّت وتخاذل مجلس شيوخ المملكة في كثير من الأحيان في نصرة هاني بعل، لأنّ مجلس الشيوخ هذا تحكمه وتتحكّم به طبقة التجّار والرأسماليّين المُنتمين لعشيرة هانو المناوئة لعشيرة البرق التي ينتمي إليها هاني بعل، وحجّتهم في ذلك كما قال احدهم:»لا نستطيع أن نفهم خطط هذا الشاب الصغير، هذا الذي يُربك معيشتنا ويجعلنا قلِقين على تجارتنا المستقرّة،لا بُد أن يتوقّف هذا الشاب المتهوّر عن مغامراته الطائشة.(65). ويبدو أن السبب الحقيقيّ وراء تمنُّع مجلس شيوخ المملكة وعشيرة هانو عن نصرته، هو خشيتهم من أن يقوى نفوذه في حال انتصاره على روما، ممّا يهدّد امتيازاتهم التي ينعمون بها كما أفصح أحد أعضاء المجلس عندما قال: «أيها النبلاء، إن ً إرسال التعزيزات من قرطاجنة ستجعله يحتلّ روما ويعود إلينا منتصراً، وما دام منتصراً فسوف تتغيّر معاملته لنا، وستكون بيده ويد جيشه القدرة على الهيمنة وإبعادنا عن مواقع الحكم والقرار (127). وكأن «التاريخ يعيد نفسه» فما أشبه الأمس باليوم إذا ما نظرنا حولنا وما يجري من تجاذبات وصراعات داخلية ضمن بلداننا ودولنا العربية وتشتّت الإرادة الوطنية، ونشوء مراكز قوى متصارعة، كلّ منها يسعى لتحقيق مصالحه ومنافعه دون الالتفات للمصلحة الوطنيّة الجامعة، مما يسهّل على المتربّص بنا مهمة التغلغل وتنفيذ مخطّطاته وأهدافه، فكما أن «ليست روما ولكن مجلس الشيوخ القرطاجيّ هو الذي هزم هاني بعل» فمن الممكن القول ليس المُحتلّ الغاصب، ولكن تفرُّق الإرادات العربية هي التي أضاعت ربّما فلسطين. وما أروع ما اختتم به صبحي فحماوي روايته إذ قدّم لنا كلمة أخيرة من هاني بعل أو لنقُل خلاصة لتجربته حيث نقتطف منها هذا البعض من التوصيات: «كُن حذِراً إذا حقّقت النجاح، فسوف تكسب أصدقاء مزيّفين وأعداء حقيقيّين، وحسب اعتقادي، فلا شكّ أنّ الصدق والصراحة يجعلانك عرضة للانتقاد، لا تتنازل عن حمل الأفكار العظيمة في كل الظروف، حاول دائما أن تجاهد من أجل المستضعفين.ويختم بالقول إن الناس يا عزيزي صبحي في أمسِّ الحاجة إلى المساعدة، لكنهم لا يتورّعون عن مهاجمتك حتى لو ساعدتهم». ختاماً، إذا كان صبحي فحماوي في مقدّمة روايته يقول: « لا أكتب ما أعرفه عن هاني بعل، ولكنني أكتب لأعرف». فإنّنا بدورنا نقول نحن قرأنا وسنقرأ لنعرف. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 10-07-2022 09:22 مساء
الزوار: 1483 التعليقات: 0
|